قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآية . نزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم ، وكان به لمم فأرادها فأبت ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال . وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية . فقال لها : ما أظنك إلا قد حرمت علي . فقالت : والله ما ذاك طلاق ، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه- فقالت : يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني ، وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، ولم أؤمر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبيةً صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر ، فقالت : انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله ، فقالت عائشة : أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات- ، فلما قضى الوحي قال لها : ادعي زوجك فدعته ، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قد سمع الله قول التي تجادلك } الآيات . قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ، ويخفى علي بعضه إذ أنزل الله : { قد سمع الله } الآيات . ومعنى قوله : { قول التي تجادلك } تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها ، { وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } مراجعتكما الكلام ، { إن الله سميع بصير } سميع لما تناجيه وتتضرع إليه ، بصير بمن يشكو إليه .
سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون
نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .
ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .
ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .
( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .
بسم الله الرحمن الرحيم { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله }روي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حرمت عليه فقالت ما طلقني فقال حرمت عليه فاغتمت لصغر أولادها وشكت إلى الله تعالى فنزلت هذه الآيات الأربع وقد تشعر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو المجادلة يتوقع أن الله يسمع مجادلتها وشكواها ويفرج عنها كربها وأدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر دالها في السين والله يسمع تحاوركما تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب " إن الله سميع بصير " للأقوال والأحوال .
( 58 ) سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون ، وهي مدنية بإجماع ، إلا أن النقاش حكى أن قوله تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة } [ المجادلة : 7 ] الآية مكي{[1]} ، وروى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله ){[2]} .
{ سمع الله } عبارة عن إدراكه المسموعات على ما هي عليه بأكمل وجوه ذلك دون جارحة ولا محاداة ولا تكييف ولا تحديد تعالى الله عن ذلك .
وقرأ الجمهور : { قد سمع } بالبيان : وقرأ ابن محيصن : { قد سمع } بالإدغام ، وفي قراءة ابن مسعود : «قد يسمع الله قول التي » ، وفيها : «والله قد يسمع تحاوركما » .
واختلف الناس في اسم التي تجادل ، فقال قتادة هي خويلة بنت ثعلبة ، وقيل عن عمر بن الخطاب أنه قال : هي خولة بنت حكيم . وقال بعض الرواة وأبو العالية هي خويلة بنت دليج ، وقال المهدوي ، وقيل : خولة بنت دليج ، وقالت عائشة : هي خميلة . وقال ابن إسحاق : هي خولة بنت الصامت . وقال ابن عباس فيها : خولة بنت خويلد ، وقال محمد بن كعب القرظي ومنذر بن سعيد : هي خولة بنت ثعلبة ، قال ابن سلام : «تجادل » معناه تقاتل في القول ، وأصل الجدل القتل ، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة : أوس بن الصامت الأنصاري{[10997]} أخو عبادة بن الصامت . وحكى النقاش وهو في المصنفات حديثاً عن سلمة بن صخر البياضي{[10998]} أنه ظاهر من امرأته أن واقعها مدة شهر رمضان فواقعها ليلة فسأل قومه أن يسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا وهابوا ذلك وعظموا عليه ، فذهب هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسأله واسترشدوه فنزلت الآية . وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتعتق رقبة ؟ فقال له والله ما أملك رقبة غير رقبتي ، فقال : أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال يا رسول الله وهل أتيت إلا في الصوم ، فقال : تطعم ستين مسكيناً ؟ » فقال : لا أجد ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه فكفر بها فرجع سلمة إلى قومه فقال : إني وجدت عندكم الشدة والغلظة ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة والرفق وقد أعطاني صدقاتكم{[10999]} .
وأما ما رواه الجمهور في شأن أوس بن الصامت ، فاختصاره : أن أوساً ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد ، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة ، قاله أبو قلابة وغيره ، فلما فعل ذلك أوس ، جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوساً أكل شبابي ، ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ، ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أراك إلا قد حرمت عليه » ، فقالت يا رسول الله : لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته ، فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال جدالها تقول : اللهم إليك أشكو حالي وفقري وانفرادي إليه ، وروي أنها كانت تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات .
وكانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول : سبحان من وسع سمعه الأصوات ، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له : «أتعتق رقبة ؟ فقال والله ما أملكها ، فقال أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم ، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له : أتطعم ؟ » فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء ، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، وقيل بثلاثين صاعاً ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله .
وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «تحاورك في زوجها » ، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته .
سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة { سورة المجادلة } بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي . وتسمى { سورة قد سمع } وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس ، وسميت في مصحف أبي بن كعب { سورة الظهار } .
ووجه تسميتها { سورة المجادلة } لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مظاهرة زوجها .
ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها . وذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي عن الكشف أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا ، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك ، ولا في تفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي . فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف ، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال ، وهي التي ذكرها الله بقوله { التي تجادلك في زوجها } . ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات ، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة . وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل { تجادلك } كما عبر عنها بالتحاور في قوله تعالى { والله يسمع تحاوركما } .
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع . وفي تفسير القرطبي عن عطاء : أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي . وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى { وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } الآية نزلت بمكة .
وهي السورة المائة وثلاث من عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم .
والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب لأن الله تعالى قال في سورة الأحزاب { وما جعل أزواجكم اللاء تظهرون منهن أمهاتكم } ، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة لأن قوله { ما جعل } يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة . وإنما أبطل بآية سورة المجادلة . وقال السخاوي : نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات .
وآيها في عد أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون ، وفي عد أهل الشام والبصرة والكوفة إثنتان وعشرون .
الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة .
وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها . وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم .
ومنها موالاتهم اليهود . وحلفهم على الكذب .
وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم .
وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم .
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويهاً بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها . ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية ، وتعليماً لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها .
تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغراً أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دُلَيْج ( مصغراً ) العَوْفية . وربما قالوا : الخزرجية ، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج ، من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عُبادة بن الصامت .
قيل : إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي .
قال ابن عباس : وكان هذا في الجاهلية تحريماً للمرأة مؤبَّداً ( أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقرّ مشروعاً ) فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك ، فقال لها : حَرُمتتِ عليه ، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، فقال : « ما عندي في أمركِ شيء » ، فقالت : يا رسول الله ما ذكَر طلاقاً . وإنما هو أبو وَلَدِي وأحب الناس إليّ فقال : « حَرُمتِ عليه » . فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي . كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « حَرُمتِ عليه » هتفت وشكت إلى الله ، فأنزل الله هذه الآيات .
وهذا الحديث رواه أبو داود في كتاب الظهار مجملاً بسند صحيح . وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض ، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادِلة خولة أو خويلة أو جميلة ، وعلى أن زوجها أَوس بن الصامت .
وروى الترمذي وأبو داود حديثاً في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سَلمة بن صخر البَيَاضي تشبه قصة خولة أنه ظاهرَ من امرأته ظهاراً موقناً برمضان ثم غلبته نفسهُ فَوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة ، إلاّ أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك .
وإنما نسب ابنُ عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره . وَأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل .
و { قد } أصله حرف تحقيق للخبر ، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها .
فتعيّن أن حرف { قد } هنا مستعمل في التوقع ، أي الإِشعار بحصول ما يتوقعه السامع . قال في « الكشاف » : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادِلة كانا يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها اهـ .
ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف { قد } في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يَتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلةَ المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب ( إنَّ ) في قوله تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [ المؤمنون : 27 ] إنه جُعل غير السائل كالسائل حيث قُدم إليه ما يلوِّح إليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد . ولهذا جزم الرضيّ في « شرح الكافية » بأن { قَد } لا بدّ فيها من معنى التحقيق . ثم يضاف إليه في بعض المواضع معان أخرى .
والسماع في قوله : { سمع } معناه الاستجابة للمطلوب وقبُوله بقرينة دخول { قد } التوقعية عليه فإن المتوقَّع هو استجابة شكواها .
وقد استُحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويهاً بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها .
والمجادلة : الاحتجاج والاستدلال ، وتقدمت في قوله : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في سورة [ الأنفال : 6 ] .
والاشتكاء : مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه ، يقال : شكا وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة . اشتكى ، والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضرّ الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلةِ خلاص .
وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا بكثرة : أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] ، وقوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } [ المؤمنون : 27 ] وهو من المسألة الملقبة في « أصول الفقه » بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعْيان في نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] .
والتحاور تفاعل من حار إذا أجاب . فالتحاور حصول الجواب من جانبين ، فاقتضت مراجعةً بين شخصين .
والسماع في قوله : { والله يسمع تحاوركما } مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة . وكون الله تعالى عالماً بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإِخبار به إفادة الحكم ، فتعيّن صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقّب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه من وحي ، وترقب المرأة الرحمةَ ، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما .
وجملة { والله يسمع تحاوركما } في موضع الحال من ضمير { تجادلك } . وجيء بصيغة المضارع لاستحضار حالة مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور .
وجملة { الله سميع بصير } تذييل لجملة { والله يسمع تحاوركما } أي : أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئيّ . ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة المجادلة مدنية بإجماع، إلا أن النقاش حكى أن قوله تعالى {ما يكون من نجوى ثلاثة} [المجادلة: 7] الآية مكي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الإعلام بإيقاع البأس الشديد، الذي أشارت إليه الحديد، بمن حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما له سبحانه من تمام العلم، اللازم عنه تمام القدرة، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال، وعلى ذلك دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها وآخرها، وعلى تكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة تكريرا لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر، فكثرة كل ذلك للدلالة على أن الأكثر منها المراد فيها بالخطاب من يصح أن ينظر إليه تارة بالجلال، وتارة بالكمال، فيجمع له الوصفان، وهو من آمن ووقع منه هفوة أو عصيان، ولهذا ضمتها أشياء شدد النكير فيها حين وقع فيها بعض أهل الإيمان، ولم يبحها لهم عند وقوعهم فيها ردا للشرع إلى ما دعا إليه الطبع كما فعل في غيرها كالأكل والجماع في ليل رمضان من غير تقييد بيقظة ولا منام لمنابذتها للحكمة، وبعدها عن موجبات الرحمة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نحن في هذه السورة -وفي هذا الجزء كله تقريبا- مع أحداث السيرة في المجتمع المدني. مع الجماعة المسلمة الناشئة؛ حيث تربى وتقوم، وتعد للنهوض بدورها العالمي، بل بدورها الكوني، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة، في نفوس هذه الجماعة، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك.. وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا.
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم، ناسا من الناس. منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة، وخلصت نفوسهم لها، ووصلوا.. وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله.. كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. رضي الله عنهم ورضوا عنه. أولئك حزب الله. ألا إن حزب الله هم المفلحون)..
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد -وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب- حتى قبل الفتح -ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة. كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب، وتربص بالفرص، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين. سواء معسكرات المشركين أو اليهود! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة، وصبرا طويلا، وعلاجا بطيئا، في صغار الأمور وفي كبارها.. كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام، وقام بها رسول الإسلام [صلى الله عليه وسلم] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وتقوم على منهج الله، تفهمه وتحققه، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة، لا في صحائف وكلمات.
ونحن نشهد في هذه السورة- وفي هذا الجزء كله -طرفا من تلك الجهود الضخمة، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين.
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده- سبحانه -معها في أخص خصائصها، وأصغر شؤونها، وأخفى طواياها؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره؛ وأخذها في حماه وكنفه، وضمها إلى لوائه وظله؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله، وتنتسب إليه، وتؤلف حزبه في الأرض، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا.
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية. فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير).. فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها، وقد سمع- سبحانه -للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته.
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله- وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله -مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض، والعذاب المهين في الآخرة، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم، ونسوه هم وهم فاعلوه! (والله على كل شيء شهيد)..
ثم توكيد وتذكير بحضور الله- سبحانه -وشهوده لكل نجوى في خلوة، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها. والله معهم أينما كانوا: (ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم).. وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره، كما تملؤه برقابته واطلاعه.
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس. تهديد بأن أمرهم مكشوف، وأن عين الله مطلعة عليهم، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها. ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص.
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومجالس العلم والذكر. كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] والجد في هذا الأمر والتوقير.
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود؛ ويتآمرون معهم، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين. وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون. كما كتب أنه ورسله هم الغالبون. وذلك تهوينا لشأنهم، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام- وبعض المسلمين -يستعظمه، فيحافظ على مودته معهم، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها، والاعتزاز برعاية الله وحده، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم.
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله. هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار. والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق!
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..) الخ الآية... كما وردت في أول هذا التقديم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة {سورة المجادلة} بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي. وتسمى {سورة قد سمع} وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس، وسميت في مصحف أبي بن كعب {سورة الظهار}.
ووجه تسميتها {سورة المجادلة} لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مظاهرة زوجها.
ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها. وذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي عن الكشف أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك، ولا في التفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي. فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال، وهي التي ذكرها الله بقوله {التي تجادلك في زوجها}. ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة. وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل {تجادلك} كما عبر عنها بالتحاور في قوله تعالى {والله يسمع تحاوركما}.
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع. وفي تفسير القرطبي عن عطاء: أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي. وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى {وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} الآية نزلت بمكة...
الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة.
وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها. وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم.
ومنها موالاتهم اليهود. وحلفهم على الكذب.
وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين.
وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تسفيه لعادة الظهار وتشريع فيها. وحكاية لشكوى وجدال امرأة مسلمة في سياق ذلك. وتنديد بفريق كان يتآمر بالسر بما فيه إثم وعدوان. ونهي للمسلمين عن مثل هذا الخلق. وتعليم لهم بما هو الأمثل بهم. وتعليم المسلمين كذلك آداب المجالس وتلقينهم الاهتمام بالأخلاق والعلم وأهلهما. ومشهد فيه حث المسلمين على تقديم صدقات عند اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وحكاية لاستثقالهم ذلك وعتاب لهم ونسخ للتكليف بسبب ذلك. وحملة شديدة على المنافقين لموادتهم لمن غضب الله عليهم الذين تتفق الروايات والأقوال على أنهم اليهود، وتنزيه للمخلصين عن مثل هذا الموقف...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ونستطيع أن نلخّص أهمّ أبحاثها في ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: يتحدّث عن حكم (الظهار) الذي كان يعتبر نوعاً من الطلاق والانفصال الدائم، حيث قوّمه الإسلام وجعله في الطريق الصحيح.
الثاني: يتحدّث عن مجموعة من التعليمات الخاصّة بآداب المجالسة، والتي منها: «التفسّح» في المجالس ومنع النجوى.
الثالث: يتعرّض إلى بحث واف ومفصّل عن المنافقين، تلك الفئة التي تتظاهر بالإسلام، إلاّ أنّها تتعاون مع أعدائه، ويحذّر المسلمين المؤمنين من الدخول في حزب الشيطان والنفاق، ويدعوهم إلى الحبّ في الله والبغض في الله والالتحاق بحزب الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قَدْ سَمِعَ اللّهُ "يا محمد "قَوْلَ الّتي تجادلُكَ فِي زَوْجِها" والتي كانت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها امرأة من الأنصار.
واختلف أهل العلم في نسبها واسمها؛
فقال بعضهم: خولة بنت ثعلبة، وقال بعضهم: اسمها خُوَيلة بنت ثعلبة. وقال آخرون: هي خويلة بنت خويلد.
وقال آخرون: هي خويلة بنت الصامت.
وقال آخرون: هي خويلة ابنة الدليج. وكانت مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، وزوجها أوس بن الصامت، مراجعتها إياه في أمره، وما كان من قوله لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. ومحاورتها إياه في ذلك...
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا أبو داود، قال: سمعت أبا العالية يقول: إن خويلة ابنة الدليج أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، ونفضت له بطني، وظاهَرَ مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فقالت: أشكو إلى الله فاقتي، ثم قالت: يا رسول الله طالت صحبتي، ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فجعل إذا قال لها: «حرمت عليه»، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي، قال: فنزل الوحي، وقد قامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات، فلما قضي الوحي، قال: «ادْعي زَوْجَكِ»، فَتَلاها عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ واللّهُ يَسْمَع تَحاوُرَكُما" إلى قوله: "والّذِين يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا": أي يرجع فيه "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَتَماسّا" أتَسْتَطَيعُ رَقَبَةً؟ قال: لا، قال: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ" قال: يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرّات خشيت أن يعشو بصري. قال: "فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينا" قال: «أتَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا؟» قال: لا يا رسول الله إلا أن تعينني، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعم...
عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي، حَرُمت في الإسلام، فكان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها خويلة بنت خُوَيلد وظاهر منها، فأُسْقِطَ في يديه وقال: ما أراكِ إلا قد حَرُمْتِ عليّ، وقالت له مثلَ ذلك، قال: فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتْ عنده ماشطة تمشطُ رأسه، فأخبرته، فقال: «يا خُوَيْلَة ما أمرْنا فِي أمْرِكِ بِشَيْءٍ»، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا خُوَيْلَةُ أبْشِرِي»، قالت: خيرا، قال: فقرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ" إلى قوله: "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَتَماسّا"...
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء، إني لأسمع كلام خولة ابنة ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهمّ إني أشكو إليك، قال: فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات "قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها" قال: زوجها أوس بن الصامت.
وقوله: "وَتَشْتَكي إلى اللّهِ" يقول: وتشتكي المجادلة ما لديها من الهمّ بظهار زوجها منها إلى الله وتسأله الفرج.
"وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما" يعني تحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجادلة خولة ابنة ثعلبة.
"إنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله سميع لما يتجاوبانه ويتحاورانه، وغير ذلك من كلام خلقه، بصير بما يعلمون، ويعمل جميع عباده.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...كانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي، وسمع الله جدالها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له: «أتعتق رقبة؟ فقال والله ما أملكها، فقال أتصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له: أتطعم؟» فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعاً ودعا له، وقيل بثلاثين صاعاً، فكفر بالإطعام وأمسك أهله. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «تحاورك في زوجها»، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته...
... الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية، لأنه في التحريم أوكد ما يمكن، وإن كان ذلك الحكم صار مقررا بالشرع كانت الآية ناسخة له، وإلا لم يعد نسخا، لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في عادة الجاهلية، لكن الذي روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "حرمت " أو قال: " ما أراك إلا قد حرمت " كالدلالة على أنه كان شرعا. وأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.
البحث الثالث: أن هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له في مهمة أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المهم، ولنرجع إلى التفسير، أما قوله: {قد سمع الله} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {قد} معناه التوقع، لأن رسول الله والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنها.
المسألة الثانية:... واعلم أن الله تعالى حكى عن هذه المرأة أمرين (أولهما) المجادلة وهي قوله: {تجادلك في زوجها} أي تجادلك في شأن زوجها، وتلك المجادلة أنه عليه الصلاة والسلام كلما قال لها: « حرمت عليه» قالت: والله ما ذكر طلاقا (وثانيهما) شكواها إلى الله، وهو قولها: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وقولها: إن لي صبية صغارا.
ثم قال سبحانه: {والله يسمع تحاوركما} والمحاورة المراجعة في الكلام، من حار الشيء يحور حورا، أي رجع يرجع رجوعا، ومنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومنه فما أحار بكلمة، أي فما أجاب، ثم قال: {إن الله سميع بصير} أي يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كان الرجل في الجاهلية يغضب لأمر من امرأته فيقول:أنت علي كظهر أمي. فتحرم عليه، ولا تطلق منه. وتبقى هكذا، لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية؛ ولا هي مطلقة منه فتجد لها طريقا آخر. وكان هذا طرفا من العنت الذي تلاقيه المرأة في الجاهلية.
فلما كان الإسلام وقعت هذه الحادثة التي تشير إليها هذه الآيات، ولم يكن قد شرع حكم للظهار. قال الإمام أحمد:حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب، قالا:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني معمر ابن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة. قالت:في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة. قالت:كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت:فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب، فقال:أنت علي كظهر أمي. قالت:ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت:قلت:كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت: فواثبني، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني. قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابا، ثم خرجت حتى جئت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت:فجعل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه " قالت:فوالله ما برحت حتى نزل في قرآن؛ فتغشى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي: " يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا".. ثم قرأ علي -: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير).. إلى قوله تعالى: (وللكافرين عذاب أليم).. قالت:فقال لي رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " مريه فليعتق رقبة". قالت:فقلت:يا رسول الله ما عنده ما يعتق. قال: " فليصم شهرين متتابعين". قالت:فقلت:والله إنه لشيخ ما له من صيام. قال: " فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر". قالت:فقلت:والله يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت:فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " فإنا سنعينه بعرق من تمر". قالت:فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال: " قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا". قالت:ففعلت.
فهذا هو الشأن الذي سمع الله ما دار فيه من حوار بين رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والمرأة التي جاءت تجادله فيه. وهذا هو الشأن الذي أنزل الله فيه حكمه من فوق سبع سماوات، ليعطي هذه المرأة حقها، ويريح بالها وبال زوجها، ويرسم للمسلمين الطريق في مثل هذه المشكلة العائلية اليومية!
وهذا هو الشأن الذي تفتتح به سورة من سور القرآن:كتاب الله الخالد، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكل كلمة من كلماته، وهي تتنزل من الملأ الأعلى.. تفتتح بمثل هذا الإعلان: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها...) فإذا الله حاضر هذا الشأن الفردي لامرأة من عامة المسلمين، لا يشغله عن سماعه تدبيره لملكوت السماوات والأرض؛ ولا يشغله عن الحكم فيه شأن من شؤون السماوات والأرض!
وإنه لأمر.. إنه لأمر أن يقع مثل هذا الحادث العجيب؛ وأن تشعر جماعة من الناس أن الله هكذا معها، حاضر شؤونها، جليلها وصغيرها، معني بمشكلاتها اليومية، مستجيب لأزماتها العادية.. وهو الله.. الكبيرالمتعال، العظيم الجليل، القهار المتكبر، الذي له ملك السماوات والأرض وهو الغني الحميد.
تقول عائشة -رضي الله عنها -:الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في جانب البيت، ما أسمع ما تقول. فأنزل الله عز وجل: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله... الآية.
وفي رواية خولة- أو خويلة للتصغير والتدليل -للحادث، وتصرفها هي فيه، وذهابها إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومجادلتها له، ونزول القرآن بالحكم.. في هذا كله صورة من حياة تلك الجماعة الفريدة في تلك الفترة العجيبة. وشعورها بتلك الصلة المباشرة، وانتظارها التوجيه من السماء في كل شأن من شؤونها واستجابة السماء لهذا الانتظار، الذي يجعل الجماعة كلها- عيال الله -هو يرعاها وهي تتطلع إليه تطلع الطفل الصغير لأبيه وراعيه!
وننظر في رواية الحادث في النص القرآني، فنجد عناصر التأثير والإيحاء والتربية والتوجيه تسير جنبا إلى جنب مع الحكم وتتخلله وتعقب عليه، كما هو أسلوب القرآن الفريد: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير).. وهو مطلع ذو إيقاع عجيب.. إنكما لم تكونا وحدكما.. لقد كان الله معكما. وكان يسمع لكما. لقد سمع قول المرأة. سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. وعلم القصة كلها. وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه.. إن الله سميع بصير. يسمع ويرى. هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه..
وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب..
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
هذا وفي الآيات أمور جديرة بالتنبيه والتعليق: فأولا: إنها توخت رفع الحيف والظلم عن المرأة وكانت مظهرا آخر من مظاهر عناية القرآن بها. وثانيا: إن في الكفارة المفروضة وسيلة إلى تحرير العبيد والبر بالمساكين وهذا وذاك مما حث عليهما القرآن في مواضع عديدة. وثالثا: إن الآية الأولى بخاصة احتوت صورة قوية لشخصية المرأة العربية المسلمة في عهد النبي صلى الله عليه مسلم في مجادلتها عن حقها ومحاولة دفع الضيم عنها، وفي ما انتهى الموقف إليه من سماع الله لقولها وإنزاله قرآنا بإنصافها وحمايتها. وفي هذا سند يسند حق المرأة المسلمة في الدفاع عن نفسها، واحترام هذا الحق وما يترتب عليه من التسليم لها به من قبل أولياء الأمر والأفراد والأزواج وفيه أسوة حسنة دائمة للمرأة المسلمة تتأسى به في كل ظرف ومكان في الجرأة والدفاع عن حقها أمام أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه دليل على أن المرأة العربية المسلمة كانت في حالة عقلية وشخصية تجعلها تقف مثل هذا الموقف. وفي القرآن والآثار أدلة كثيرة مؤيدة. وقد مرت أمثلة منها في المناسبات السابقة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
"الظهار " يستلزم تحريم مساس المرأة على الزوج، وتحريم جميع أنواع الاستمتاع، إلا أن مجرد " الظهار " لا يعتبر في الإسلام نوعا من أنواع الطلاق ولا قائما مقامه، نعم، إن رغبة الزوج في مساس زوجته والاستمتاع بها بعد ظهاره منها، وعودته إلى ما حرمه على نفسه بالظهار، لا بد أن تسبقه " كفارة " يكفر بها الزوج، عن الإثم الذي وقع فيه بالإقدام على إعلان الظهار...
وفي نفس الوقت الذي شرع فيه كتاب الله هذه الحدود والقيود للظهار، حتى لا يقبل عليه المسلمون كما كان الأمر في " الجاهلية"، نادى كتاب الله بتسفيه رأي أولئك الذين يعتقدون أنهم بمجرد ما يشبهون زوجاتهم بوالداتهم تصبح زوجاتهم في حكم الأمهات فعلا، مبينا أن أمهاتهم على الحقيقة وفي هذا المقام هنّ النساء اللاتي ولدنهم، لا غيرهن من النساء، أما في غير هذا المقام فإن " المرضعات " ملحقات بالأمهات، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمهات المؤمنين " لأن الله حرم نكاحهن على الأمة، فدخلن بذلك في حكم الأمهات،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وأنزل الله هذه الآيات ليعالج المسألة الكلية في التشريع الحاسم الذي يجمع بين الحل في إعادة العلاقة الجنسية إلى طبيعتها الشرعية، لأن الكلمة لم تلغ الزواج، وبين العقوبة العملية التي لا بدّ من أن يتحملها الرجل قبل أن يعود إلى سابق عهده...
وهكذا سمع الله قول هذه المرأة المستضعفة التي كانت تتحدث مع النبي {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} فتطلب منه حلاً شرعياً، فلم تكن مقتنعة بأن هذه الكلمة الطائشة الصادرة من زوجها تستطيع إنهاء الزواج، فهي كلمة غير واقعية، فكيف يشبهها بأمه لتحرم عليه كما تحرم عليه أمه، فللأم عمق النسب الخاضع لحرمة العلاقة العضوية في اللحم والدم، فكيف يكون للزوجة ذلك؟! فإذا لم تكن الكلمة واقعيةً، فلن يكون مضمونها الشرعي في ما يستهدفه الزوج منها واقعياً؟ ربما كانت تفكر بهذه الطريقة. {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} وهو اللطيف بعباده، الرحيم بهم {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} حيث يسمع كل شكاواهم في داخل ذواتهم، ونجاواهم في دائرة حوارهم مع الآخرين، ويبصر كل مواقع الحزن والألم في حياتهم...