قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } ، اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيراً للصغائر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا محمد بن مقاتل ، أنا النضر ، أخبرنا شعبة ، أنا فراس ، قال : سمعت الشعبي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكبائر : " الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس ، واليمين الغموس " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسدد ، أنا بشر بن الفضل ، أنا الجريري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله عز وجل ، وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متكئاً فقال : ألا وقول الزور ، ألا وقول الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أنا أحمد بن عيسى اليرني ، أنا محمد بن كثير ، أنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، وواصل الأحدب ، عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنهما قال : قلت : يا رسول الله أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال : أن تدعو لله نداً وهو خلقك ، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعمك معك ، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك . فأنزل الله تعالى تصديقها { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني سليمان عن ثور بن زيد عن أبي الغيث ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله ، والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ) .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي ، أنا علي بن الجعد ، أنا شعبة عن سعيد بن إبراهيم ، قال : سمعت حميد بن عبد الرحمن يحدث عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه ) .
وعن سعيد بن جبير : أن رجلاً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الكبائر : أسبع هي ؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب ، إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار . وقال : كل شيء عصي الله به فهو كبيرة ، فمن عمل شيئاً منها فليستغفر فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعاً عن الإسلام ، أو جاحداً فريضة ، أو مكذباً بقدر .
وقال عبد الله بن مسعود : ما نهى الله تعالى عنه في هذه السورة إلى قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } . فهو كبيرة .
وقال علي بن أبي طالب : هي كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضبن أو لعنة ، أو عذاب . وقال الضحاك : ما أوعد الله عليه حداً في الدنيا أو عذاباً في الآخرة . وقال الحسن بن الفضل : ما سماه الله في القرآن كبيراً ، أو عظيماً ، نحو قوله تعالى : { إنه كان حوباً كبيراً } [ النساء :2 ] . { إن قتلهم كان خطأ كبيرا } [ الإسراء :31 ] ، { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان :13 ] ، { إن كيدكن عظيم } [ يوسف :28 ] { هذا بهتان عظيم } [ النور :16 ] { إن ذلكم كان عند الله عظيماً } [ الأحزاب :53 ] .
قال سفيان الثوري : الكبائر ما كان فيه المظالم بينك وبين عباد الله تعالى ، والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى ، لأن الله كريم يعفو ، واحتج بما أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكرماني ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد ، أنا الحسن بن داود البلخي ، أنا يزيد بن هارون ، أنا حميد الطويل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة ، يا أمة محمد إن الله عز وجل قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات ، تواهبوا المظالم وادخلوا الجنة برحمتي ) . وقال مالك بن مغول : الكبائر ذنوب أهل البدع ، والسيئات ذنوب أهل السنة . وقيل الكبائر ذنوب العمد ، والسيئات الخطأ والنسيان وما أكره عليه ، وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة ، وقيل : الكبائر ذنوب المستحلين مثل ذنب إبليس ، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم عليه السلام . وقال السدي : الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبائر ، والسيئات مقدماتها وتوابعها مما يجتمع فيه الصالح والفاسق ، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ) . وقيل : الكبائر ما يستحقره العباد ، والصغائر ما يستعظمونه فيخافون مواقعته ، كما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد ابن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو الوليد ، أنا مهدي بن ميمون عن غيلان ، عن أنس قال : إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر ، إن كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات .
وقيل : الكبائر الشرك ، وما يؤدي إليه ، وما دون الشرك فهو من السيئات .
قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } أي : من الصلاة إلى الصلاة ، ومن الجمعة إلى الجمعة ، ومن رمضان إلى رمضان .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج حدثني هارون بن سعيد الأبلي ، أنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ما اجتنب الكبائر ) .
قوله تعالى : { وندخلكم مدخلاً كريماً } ، أي : حسناً وهو الجنة ، قرأ أهل المدينة { مدخلاً } بفتح الميم هاهنا وفي الحج ، وهو موضع الدخول ، وقرأ الباقون بالضم على المصدر بمعنى الإدخال .
وفي مقابل اجتناب " الكبائر " - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه عما عدا الكبائر ؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم ، وتطمينًا لقلوبهم ؛ وعونًا لهم على التحاجز عن النار ؛ باجتناب الفواحش الكبار :
( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما ) .
ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف ، وهذه التكاليف ، لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ؛ وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور ؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير ؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وعدهم من " المتقين " .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر ؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ؛ فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم " الكبائر " من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل !
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس :
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ؛ عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها ؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا . قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال : فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون : أظنه قال : في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ؛ فقال أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ! قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال : اللهم لا - ولو قال : نعم ، لخصمه ! قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . . . الآية . ثم قال : هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم ! " .
فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ؛ وقد قوم القرآن حسه ؛ وأعطاه الميزان الدقيق . . " وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها ، وقرئ كبير على إرادة الجنس . { نكفر عنكم سيئاتكم } نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم .
واختلف في الكبائر ، والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع عليه حدا أو صرح بالوعيد فيه . وقيل ما علم حرمته بقاطع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنها سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين " . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ) . وقيل أراد ههنا أنواع الشرك لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر . ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها . { وندخلكم مدخلا كريما } الجنة وما وعد من الثواب ، أو إدخالا مع كرامة . وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر .