الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

فيه مسألتان :

الأولى : لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر ، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر ، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر . وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء ، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق ، لا أنه يجب عليه ذلك . ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى : " إنما التوبة على الله " [ النساء : 17 ] ، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض .

روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر . وروى أبو حاتم البستي إلى صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر ثم قال : ( والذي نفسي بيده ) ثلاث مرات ، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفق ) ثم تلا " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " . فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه . وبينت السنة أن المراد ب " تجتنبوا " ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر . والله أعلم .

وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة ثابتة . ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة . ولا صغيرة عندنا .

قال القشيري عبدالرحيم : والصحيح أنها كبائر ولكن بعضها أعظم وقعا من بعض ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .

قلت : وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم : - لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت - كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر ، وعلى هذا النحو يخرج كلام القاضي أبي بكر بن الطيب والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي وأبي نصر عبدالرحيم القشيري وغيرهم ؛ قالوا : وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى ، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر ، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر ، لقوله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء : 48 ] واحتجوا بقراءة من قرأ " إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه " على التوحيد ، وكبير الإثم الشرك . قالوا : وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر . والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى : " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " . واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) فقال له رجل : يا رسول الله ، وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال : ( وإن كان قضيبا من أراك ) . فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير . وقال ابن عباس : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب{[4318]} أو لعنة أو عذاب . وقال ابن مسعود : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية ، وتصديقه قوله تعالى : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " . وقال طاوس : قيل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وقال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عباس الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن ابن مسعود أنه قال : الكبائر أربعة : اليأس من روج الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، والشرك بالله ، دل عليها القرآن . وروي عن ابن عمر : هي تسع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والإلحاد في البيت الحرام . ومن الكبائر عند العلماء : القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه - بأن يسب رجلا{[4319]} فيسب ذلك الرجل أبويه - والسعي في الأرض فسادا - ، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن ، وفي أحاديث خرجها الأئمة ، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان منها جملة وافرة . وقد اختلف الناس في تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها .

والذي أقول : إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر ، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره ، فالشرك أكبر ذلك كله ، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك ، وبعده اليأس من رحمة الله ؛ لأن فيه تكذيب القرآن ؛ إذ يقول وقوله الحق : " ورحمتي وسعت كل شيء " {[4320]} [ الأعراف : 156 ] وهو يقول : لا يغفر له ؛ فقد حجر واسعا . هذا إذا كان معتقدا لذلك ؛ ولذلك قال الله تعالى : " إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون " {[4321]} [ يوسف : 87 ] . وبعده القنوط ؛ قال الله تعالى : " ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون " {[4322]} [ الحجر : 56 ] . وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل . قال الله تعالى : " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " {[4323]} [ الأعراف : 99 ] . وقال تعالى : " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين " {[4324]} [ فصلت : 23 ] . وبعده القتل ؛ لأن فيه إذهاب النفوس وإعدام الوجود ، واللواط فيه قطع النسل ، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه ، والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف ، وترك الصلاة والأذان فيه ترك إظهار شعائر الإسلام ، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال ، إلى غير ذلك مما هو بين الضرر ، فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده ، أو عظم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة . فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه ، والله أعلم .

الثانية : قوله تعالى : " وندخلكم مدخلا كريما " قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين " مدخلا " بضم الميم ، فيحتمل أن يكون مصدرا ، أي إدخالا ، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا . ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل ، التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا ، ودل الكلام عليه . ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به{[4325]} ، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة . وقال أبو سعيد بن الأعرابي : سمعت أبا داود السجستاني يقول : سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول : المسلمون كلهم في الجنة ، فقلت له : وكيف ؟ قال : يقول الله عز وجل : " إن تجتبوا كبائر ما تنهون ، عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " يعني الجنة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) . فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين . وقال علماؤنا : الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدم . وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى : " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء : 48 ] والمراد بذلك من مات على الذنوب ، فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنى ؛ إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له . وروي عن ابن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إلي من الدنيا جميعا ، قوله تعالى : " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " وقوله " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر " {[4326]} [ النساء : 48 ] الآية ، وقوله تعالى : " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " [ النساء :110 ]الآية ، وقوله تعالى : " وإن تك حسنة يضاعفها " [ النساء : 40 ] ، وقوله تعالى : " والذين آمنوا بالله ورسله " {[4327]} [ النساء : 152 ] . وقال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء ، هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت : " يريد الله ليبين لكم " [ النساء : 26 ] ، " والله يريد أن يتوب عليكم " [ النساء : 27 ] ، " يريد الله أن يخفف عنكم " [ النساء : 28 ] ، " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " [ النساء : 31 ] ، الآية ، " إن الله لا يغفر أن يشرك به " ، " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " [ النساء : 40 ] ، " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " ، " ما يفعل الله بعذابكم " {[4328]} [ النساء : 147 ]الآية .


[4318]:في ط: أو غضبه أو لعنته.
[4319]:كذا في الأصول. وتحقيقه: أن يسب أبوي رجل. كما في الحديث والبحر.
[4320]:راجع ج 7 ص 296 وص 254.
[4321]:راجع ج 9 ص 251.
[4322]:راجع ج 10 ص 36.
[4323]:راجع ج 7 ص 296 و ص 254.
[4324]:راجع ج 15 ص 353.
[4325]:من ب و ج و ط ود.
[4326]:راجع ص 245 من هذا الجزء وص 379 و 195.
[4327]:راجع ج 6 ص 6.
[4328]:راجع ص 426 من هذا الجزء.