المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

{ تجتنبوا } معناه : تدعون جانباً ، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير » وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر » و «يدخلكم » على علامة الغائب ، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان ، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم » بزيادة «من » وقرأ السبعة سوى نافع «مُدخلاً » بضم الميم ، وقرأ نافع : «مدخلاً » بالفتح وقد رواه أيضاً أبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الحج ، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في { مدخل ومخرج صدق }{[3978]} أنهما بضم الميم ، قال أبو علي : «مَدخلاً » بالفتح يحتمل أن يكون مصدراً ، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون مدخلاً ، ويحتمل أن يكون مكاناً ، فيعمل فيه الفعل الظاهر ، وكذلك يحتمل «مُدخلاً » بضم الميم للوجهين ، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف ، تقديره : ويدخلكم الجنة ، واختلف أهل العلم في «الكبائر » فقال علي بن أبي طالب : ( هي سبع ، الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة ){[3979]} . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل .

قال القاضي أبو محمد : وذكر كقول علي ، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى }{[3980]} ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات ، الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »{[3981]} .

وقال عبد الله بن عمر : هي تسع «الإشراك بالله ، والقتل ، والفرار ، والقذف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق »{[3982]} قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي : هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي { إن تجتنبوا } وقال عبد الله بن مسعود : هي أربع أيضاً الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وروي أيضاً عن ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط ، واليأس ، والأمن المتقدمة ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : «الكبائر » كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك{[3983]} ، وقالت فرقة من الأصوليين : هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال ، وقال رجل لابن عباس : أخبرني عن الكبائر السبع ، فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير{[3984]} ، فهنا يدخل الزنا ، وشرب الخمر ، والزور ، والغيبة ، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها ، بل ذكر بعضها مثالاً ، وعلى هذا القول أئمة الكلام : القاضي ، وأبو المعالي ، وغيرهما : قالوا : وإنما قيل : صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي بالجميع واحد ، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم ، عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

«ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله »{[3985]} .

واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض ، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعاً بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث ، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ، والمشيئة ثابتة ، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة ، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر ، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها : قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3986]} و { كريماً } يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب ، كما تقول : ثوب كريم ، وكريم المحتد ، وهذه آية رجاء ، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً ، قوله : { إن تجتنبوا } الآية ، وقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 و 116 ] وقوله : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم } [ النساء : 110 ] وقوله أيضاً : { يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } الآية{[3987]} .


[3978]:- من قوله تعالى في الآية (80) من سورة الإسراء: {وقل رب أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}
[3979]:- قال الأزهري: ويكون التعرب أن يرجع إلى البادية بعد ما كان مقيما بالحضر، فيلحق بالأعراب، ويكون التعرب المقام بالبادية، ومنه قول الشاعر: تعرب آبائي، فهلا وقاهم من الموت رملا عالج وزرود يقول: أقام آبائي بالبادية،ولم يحضروا القرى. اللسان- (عرب).
[3980]:- الآية (25) من سورة (محمد).
[3981]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة. الدر المنثور 2/146.
[3982]:- أخرجه علي بن الجعد في الجعديات عن طيسلة قال: سألت ابن عمر عن الكبائر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هن تسع... الخ. مع اختلاف في بعض الألفاظ. الدر المنثور 2/146.
[3983]:- أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: (الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب.) الدر المنثور 2/ 146، وابن كثير 2/ 266.
[3984]:- أخرجه ابن جرير عن أبي الوليد مع اختلاف يسير في اللفظ. الدر المنثور 2/ 146، وابن كثير 2/ 266.
[3985]:- الحديث في مسلم، وصححه في الجامع الصغير.
[3986]:- من الآية (116) من سورة (النساء). وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}، وهي في كتب السنة الصحيحة، وفي كثير من التفاسير.
[3987]:- أخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور في فضائله، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: "إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها- قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الآية. وقوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الآية، وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية، وقوله: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك} الآية، وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} الآية" عن (الدر المنثور) 2/ 145، وقوله تعالى: [يضاعفها] هي من الآية الكريمة: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} وهي الآية رقم (40) من هذه السورة. وقال ابن عباس: ثماني آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: {يريد الله ليبين لكم}، {والله يريد أن يتوب عليكم}، {يريد الله أن يخفف عنكم}، {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} الآية، {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}، {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه}، {وما يفعل الله بعذابكم} الآية.