{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً }{[7602]} ]
قرأ ابْنُ{[7603]} جُبَيْرٍ ، وابنُ مَسْعُود : " كَبِيرَ " بالإفراد والمرادُ به الكُفْرُ وقرأ{[7604]} المفضّلُ : " يُكَفِّر " ، " ويدخلكم " بياء الغَيْبَةِ للَّهِ تعالى .
وقرأ ابْنُ{[7605]} عَبَّاسٍ : " من سيئاتكم " بزيادة " من " . وقَرَأَ نَافِعٌ{[7606]} وحده هنا وفي الحج : " مَدْخَلاً " بفتح الميم ، والباقُونَ بضمها ، ولم يَخْتَلِفُوا في ضَمِّ التي في الإسراء{[7607]} . فأما مَضْمُومُ الميم ، فإنَّهُ يحتملُ وجهين :
أحدهُمَا : أنَّهُ مَصْدرٌ وقد تَقَرَّر أنَّ اسْمَ المصْدَرِ من الرُّبَاعِيّ فما فَوْقَهُ كاسْمِ المفعُولِ ، والمدخول فيه على هذا مَحْذُوفٌ أي : " ويدخلكم الجنة إدخالاً " .
والثَّانِي : أنَّهُ اسمُ مَكَانِ الدُّخُولِ ، وفي نصبه حينئذٍ احتِمَالاَنِ "
أحدهُمَا : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرْفِ ، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْهِ .
والثَّاني : أنَّهُ مفعولٌ به ، وهو مَذْهَبُ الأخْفَشِ ، وهكذا كُلُّ مكان مختص بعد " دخل " فإنَّ فيه هذين المذْهَبَيْنِ ، وهذه القِرَاءَةُ واضحةٌ ، لأنَّ اسم المصْدَرِ ، والمكان جَارِيَانِ على فعليهما .
وَأمَّا قِرَاءةُ نافِع ، فتحتاجُ إلى تأويل ، وذلك لأنَّ الميمَ المفتوحة إنَّما هو من الثُّلاثِيُّ ، والفعل السَّابقُ لهذا رُباعِيّ فقيل : إنَّهُ منصوبٌ بفعل مقدّر مطاوع لهذا الفِعْلِ ، والتقدِيرُ : يدخلكم ، فتدخلون مدخلاً .
و " مَدْخَلاً " مَنْصُوبٌ على ما تقدَّمَ : إمَّا المصدريّة ، وإما المَكَانِيَّة بوجهيها .
وقيل : هُوَ مصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوائِدِ نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً }[ نوح : 17 ] على أحد القَوْلَيْنِ .
روى ابْنُ عمرو عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال : " الكَبَائِرُ الإشْرَاكُ باللَّهِ عزَّ وجلَّ وعقوقُ الوالِدَيْنِ ، وقَتْلُ النَّفْسِ ، واليَمِينُ الغَمُوسُ " {[7608]} .
وقال عليه السَّلام : " " ألاَ أنبِئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِر ؟ " ثلاثاً . فقالوا : بَلَى يا رسُولَ اللَّهِ . قال : " الإشْرَاكُ باللَّهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِديْنِ - وَكَانَ مُتّكئاً فَجَلَسَ - وَقَالَ : ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ " فما زال يُكَرِّرُهَا ، حَتَّى قُلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ{[7609]} .
" وعن عُمَرَ بْنِ شراحيل عن عَبْدِ اللَّهِ قال : قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ : أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ . قال : " أنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدَّاً وَهُوَ خَالِقُكَ " قال : ثُمَّ أي . قال : " أنْ تَقْتَلُ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أنْ يَأكُلَ مَعَكَ " . قُلْتُ : ثمَّ أيْ . قال " أنْ تُزَانِيَ حَليلَةَ جَارِك " {[7610]} فأنزلَ اللَّهُ - تعالى - تَصديقَ قَوْلِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] وعن أبي هريرةَ عنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ قالُوا يا رَسُول اللَّهِ ، وما هُنَّ ؟ قال : الشِّرْكُ باللَّهِ ، والسِّحْرُ ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بالحقِّ وأكْلُ الرَِّبَا ، وأكْلُ مَالِ اليتيمِ ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْف المُحْصنَاتِ الغَافِلاَتِ " {[7611]} .
وقال عبدُ الله بْنُ مسعودِ : أكْبَرُ الكَبَائِرِ الشِّرْكُ باللَّهِ ، والأمن من مَكْرِ اللَّه والقنوط من رحمة اللَّه ، واليأسُ من روح اللَّهِ{[7612]} .
وعن النَّبَيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " مِنْ أكْبَر الكبَائِر يسبُّ الرَّجُلِ وَالديْهِ : قالَ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالدَيْهِ قال : [ يَسُبُّ الرجُل أبَا الرجل وَأمه ]{[7613]} فَيَسُب أباهُ وَيسُبُّ أمَّهُ " {[7614]} .
وعن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ رَجُلاً سألَ ابْنَ عباس عن الكبائِرِ أسَبْعٌ هي قال : هي إلى السبعمائة أقرب [ غير ] أنه لاَ كبيرَةَ مع الاستغْفَارِ ، ولا صغيرَةَ معَ الإصْرَارِ{[7615]} ، وقال : كُلُّ شيْءٍ عصي اللَّه به ، فهو كبيرة{[7616]} ، فمن عمل شيئاً منها ، فَلْيَسْتَغْفِر اللَّهَ فإنَّ اللَّه لا يخلد في النَّارِ من هذه الأمَّةِ إلاَّ من كان راجعاً عن الإسلامِ ، أو جاحداً فريضته ، أو مكذباً بقدره . قال ابْنُ الخطيبِ{[7617]} : وهذا القول ضعيف ؛ لأنَّهُ لا فرقَ بينهما كقولهِ : يكفر ، وما لا يكفرون في الحديث : تعيين أشيَاء من الكبائرِ منها : الشركُ ، واليمينَ الغَمُوسُ [ والرِّبا ]{[7618]} وعُقوقُ الوالدين ، والقَتْلُ ، وغيرهما ولقوله تعالى : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } [ الحجرات : 7 ] فالكبائِرُ هي الفُسُوقُ والصغائر هي العصيان حتى يصحّ العطف . احتجّ ابنُ عبَّاس ما إذا اعتبر المعاصي بالنِّسْبَةِ إلى جلال اللَّه تعالى ، وعظمته كانت كبائر بالنِّسْبَةِ لِكثَرةِ نعمه تعالى ، فذلك لعدم تناهيها ، فَكُلُّ ذنبٍ كبيرة .
والجوابُ كما أنَّهُ سبحانه وتعالى أجلُّ الموجودات ، وأشرفهم ، وهو أرحمُ الراحِمينَ ، وأغنى الأغنياءِ عن الطَّاعات وذلك يوجب خفة الذنب ثم إنَّهَا وإن كان كبيرة ، فبعضها أكبر مِنْ بعض{[7619]} .
قال بعضهم : لتمييز الكبيرةِ عن الصَّغيرة بذاتها ، وقيل : إنَّما تتميزُ بحسب [ حال فاعليها ] فالأولون لهم{[7620]} أقوال ، أوَّلُهَا : قال ابْنُ عبَّاسٍ : كلُّ ما{[7621]} قرن بذكر الوعيد ، فهو كبيرةٌ كالقَتْلِ ، والقذف .
الثَّاني : عن ابْنِ مسعُودٍ : كلّ ما نهي عنه من أوَّلِ النِّسَاءِ إلى ثلاثة وثلاثين آية فهو كبيرة لقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } .
الثالث : قتل كل عمد فهو كبيرةٌ على الأوَّل لأنَّ كل ذنٍب لا بُدّ أن يكون متعلّق الذَّم عاجلاً ، والعقاب آجلاً وهذا يقتضِي أنَّ كُلَّ ذنْبٍ كبيرة ، وعلى الثَّانِي أنَّ الكبائِرَ مذكورة في سائر السور ، فلا معنى لتخصيصها بهذه السُّورة ، وعن الثَّالث إنْ أرادَ بالعَمْدِ أنَّهُ ليس بساهٍ فهذا{[7622]} هو الذي نهي عنه ، فيكونُ كُل ذنب كبيرة ، وإنْ أرَاد أنه يَفْعَلُهُ مع العِلْمِ به ، فإنَّهُ معصيةٌ فمعلومٌ أنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى يكفُرُونَ بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولا يعلمون أنه معصيةٌ ، وذلك كفرٌ وكبيرةٌ ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثةُ .
وأما القولُ الثَّاني{[7623]} أنَّ الكبائر تمتازُ عن الصّغَائِرِ باعْتِبَارِ فاعلها ، فهو قَوْلُ مَنْ يقولُ للطَّاعَةِ قدر من الثواب{[7624]} وللمعصية قدر من العقاب فالقِسْمَةُ العقْلِيَّةُ تقتضي أقْسَامَ التَّساوي والتعادل ، ورُجْحَان الثَّوابِ ، ورجحان العِقَابِ فالأوَّلُ ممكنٌ عقلاً إلا أن الدليل السمعي دل على أنه لا يوجد لقوله تعالى : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ }
الشورى : 8 ] ولو وجد ذلك لم يكن في الجنَّةِ ، ولا في السَّعيرِ .
والثَّاني : ينحبط العقابُ بما يُساويه مِنَ الثَّوابِ ، والمعصية هي الصَّغيرة تسمى الانحباط بالتَّكفير .
والثَّالثُ : ينحبطُ الثَّوابُ بما يساويه من العقاب ، ويسمى الكبيرة ، وسمي الانحبَاط بالإحباط ، فَظَهَرَ الفرقُ بين الكبيرةِ والصغيرةِ ، وهذا قول جمهور المُعتزِلَةِ ، وهو مَبْنِيٌّ على أصُولٍ باطلةٍ :
الأول : أنَّ الطَّاعةَ توجبُ ثواباً والمعصية توجب عقاباً ، وهو بَاطِلٌ لما تقدَّم من أنَّ الفعل يتوقَّفُ على دَاعِيَةٍ مِن اللَّه تعالى ، وذلك يَمْنَعُ الإيجاب .
ولأنَّ من اشْتَغَلَ بالعِبَادَةِ والتَّوحيدِ ثمانين سنة ، ثم شَرِبَ قطرة خمر ، فإنْ قالوا بالإحْبَاطِ خالف الضرورة والإجماع ، وإن خالف وقالوا بترجيح الثَّوابِ نقضوا أصْلَهُم مِنَ التحسين والتقبيح العَقْلِيَّيْن فتبطل قواعدهم .
ولأنَّه سمى الله تعالى كبيرة لسابقه [ على الطاعة ]{[7625]} وموجبة لها [ فأوَّلُ واجب ]{[7626]} لا يستحقّ ثواباً ، فيكون عِقَاب كُلّ معصية أن لا بد مِنْ ثَوَاب فاعلها ، فتكون جميع المعاصي كبائر ، وهو بَاطِلٌ ، وقد تقدَّم القول بإبطال القَوْلِ بالإحْبَاط .
قال ابنُ الخطيبِ{[7627]} : الأكثرُونَ على أنَّ اللَّه تعالى لم يُميِّز الكبائِرَ ، ولم يُعَيِّنْهَا ، قالوا : لأنَّ تمييزها وتعيينها مع إخباره بأن اجتنابها يكفِّر الصَّغَائِرَ إغراء بالإقدام على الصغائر ، وذلك قَبيحٌ لا يليقُ بالحكمة{[7628]} ، أمَّا إذَا لم يميِّزْهَا ، كتحرير كَوْنِ المعْصيَةِ كبيرة زاجراً عن الإقدام عليها كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والصلاة الوسطى ووقت الموت مع تجوز تعيين بعض الكبائر كما ورد في الحديث والآيات كما ذكر عن ابن عباس أنها سَبْعَةٌ فقال هي إلى السّبعمائة أقرب .
احتج{[7629]} الكعبيُّ بهذه الآية على القَطْعِ بوعيد أصْحَابِ الكبائرِ قال : لأنَّهُ تعالى بَيَّن أنَّ من اجتنب الكبَائِرَ يكفر عنه سيئاته ، فَدَلَّ على أنَّ مَنْ لَمْ يَجْتنبها لم تكفَّرْ عَنْهُ ، ولو جَازَ أنْ يغفرَ الكبائِرَ ، والصَّغائِرَ ، لم يَصِحَّ هذا الكلامُ .
الأوَّلُ : إنكم إما أن تستدِلوا بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، فذلك باطل عِندْ المُعتزِلَةِ ، وعِنْدَنَا دلالتُهُ ظَنيَّةٌ ضعيفةٌ .
وإما أن تستدلوا به من حيث أنَّ المعلق على الشيء بكلمة " إن " عدم عند عدم ذلكَ ، فهذا أيضاً ضعيفٌ لقوله تعالى : { وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ النحل : 114 ] والشكر واجب مطلقاً ولقوله تعالى { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب مطلقاً ولقوله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } يجوزُ شهادَتُهُم مع وُجُودِ الرِّجَالِ وقوله : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] ، { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً }
[ النور : 33 ] ، { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ }
وقوله { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ }
{ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ]
{ إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } [ النساء : 35 ] ، { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] .
وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على العدمِ بهذا الكلامِ ، والعَجَبُ أنَّ القَاضِي عَبْدَ الجبَّارِ لا يرى أنَّ المعلّق على الشَّيءِ كلمة " إنْ " عدمٌ عنه العدمِ ، واسْتَحْسنَ في التَّفْسير{[7630]} استدلاله على الكفر بهذه الآية .
الجوابُ الثَّاني : قال أبُو مُسْلِمِ{[7631]} : جَاءَت هذه الآيةُ عقيبَ نِكَاحِ المحرَّمات ، وعضل النِّسَاء ، وأخذ أمْوالِ اليتامى [ وأكل المال بالباطل و ]{[7632]} غير ذلك فالمُرادُ إن تجتنبوا هذه الكبائرِ التي نهيناكم عنها ، كَفرنَا عنكم سَيِّئاتِكُمْ [ أي : ما سلف ]{[7633]} من ارتكابها وإذا احْتملَ هذَا ؛ لم يَتَعيَّن ما ذكرهُ المعتزِلَةُ ، واعترضه القاضي{[7634]} بوجهين :
أحدهُمَا : أنَّ الآية عامَّة ، فلا تخْصيصَ بِذَلِكَ .
الثَّانِي : أن اجتنابهم إمّا أنْ يكُونَ مع التَّوْبَة ، والتَّوْبَةُ قد أزالت العقاب أو بدونها ، فمن أيْنَ أنَّ اجتنابَ هذه الكبائِر ، تُوجِبُ تكفيرَ تلك السَّيِّئَاتِ .
والجواب عن الأوَّلِ : أنّا لا نَدْفَعُ القَطْعَ بذلك ، بل نَقُولُ : هو يحتمل ، فلا يَتعيَّن ما ذكرتموه .
وعن الثَّاني : أنَّ ما ذكروه لا يَقْدَحُ في الاحتمال المذكور [ هنا ]{[7635]} .
الجوابُ الثَّانِي : أنَّ المَعَاصِي : قد تكُونُ كبيرَة بالنِّسْبَةِ إلى شيء ، صغيرة بالنسبة إلى شَيْءٍ آخر ، وكذلك العكسُ ، فليس ثمّة ما يكونُ كبيرةً مطلقاً ، إلا الكُفْر ، وأنواعه [ كثيرة ]{[7636]} ، فلمَّا لم يكن المراد إن تجتنبوا الكُفْرَ بأنواعِهِ ، يغفر لكم ما وَرَاءَهُ ، وهذا احْتِمَالٌ ظاهرٌ مُطابقٌ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] ، سقط استدلالهم بذلك .
قال القرطبِيُّ{[7637]} : قال الأصولِيُّونَ : لا يَجِبُ القَطْعُ بِتكْفيرِ الصَّغائِرِ باجتناب الكبائر ، وإنَّمَا محمل{[7638]} ذلك على غلبَةٍ الظَّنِّ ، وقوَّةِ الرَّجَاءِ ، والمشيئة{[7639]} ثابتةٌ ، ودلَّ على ذلك : أنا لو قَطَعْنَا لمجتنب الكبائِرِ ، وممتثلِ الفرائِضِ ، تكفيرَ صَغَائِرهِ قطعاً ؛ لكانت لَهُ في حُكْمِ المُبَاحِ الذي يقطع بأن أتباعه عليه ، وذلك نَقْضٌ لعُرَى الشَّريعة ، ولا صغيرةَ عِنْدَنَا .
قال القُشَيْرِيُّ{[7640]} : والصَّحيحُ أنها كَبَائِر ولكن بعضُهَا أعْظُم وقعاً من بعضٍ ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي .
قال القرطبي : وأيضاً مَنْ نظر إلى بعض المُخالفَةِ كما قالَ بعضهُمُ : لا تنظر إلى صغر الذَّنْبِ ، ولكن انظُرْ مَنْ عَصيتَ [ فإن كان الأمْرُ كذلِكَ ]{[7641]} كانت الذنوب بهذه النِّسْبَةِ كُلِّها كبائر ، وعلى هذا النَّحْوِ يُخَرَّجُ كلامُ القُشَيْريّ ، وأبي إسْحَاقَ الإسفراييني والقاضي أبي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّب قالوا : وإنَّما يقالُ لبعضها صغيرة بالإضَافَةِ إلى ما هو أكْبرُ منها كما يقالُ : الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر ، والقُبْلَةُ المحرَّمَةُ صغيرَةٌ بالنِّسْبَة إلى الزِّنَا ، ولا ذنبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ باجْتِنَابِ ذنبٍ آخر ، بل كُلُّ ذنْبٍ كبيرةٌ ومرتكبُهُ في المشيئةِ ، غير الكُفْرِ لقوله تعالى
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] قالوا : هذه الآية يردُّ إليها جميع الآيات{[7642]} المُطلقةُ ، يزيدُ عليها قوله عليه السلام : " من اقْتطعَ حَقَّ امْرِئ مُسْلِمٍ بيمينه فقدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وحرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ فقال رَجُلٌ : يا رسُولَ الله ، وإنْ كَانَ شيئاً يَسِيراً فقَالَ : وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنَ أراك " {[7643]} فقد جاء الوَعِيدُ الشَّديدُ على اليَسيرِ ، كما جَاءَ على الكثير .
وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ [ مسعود : " ما نَهَى اللَّه عنْهُ في تلكَ السُّورَةِ إلى قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } فهو كبيرة{[7644]} .
وقال [ علي ] بن ]{[7645]} أبي طلحة : الكبيرة : كلُّ ذنب ختمه اللَّهُ بِنَارٍ ، أو غضَبٍ ، أو لَعْنَةٍ ، أو عَذابٍ [ أو آثامٍ ]{[7646]} " {[7647]} .
وقال الضحاك : " الكبيرة ما أوعد الله عليه حَدَّا في الدُّنْيَا ، وعَذَاباً في الآخرة " {[7648]} .
وقال الحُسَيْنُ [ بنُ الفضل ]{[7649]} : ما سمّاه اللَّهُ في القرآن كَبيراً ، أو عظيماً نحو قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] ، { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً }
[ الإسراء : 31 ] ، { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }
[ النور : 16 ] ، { إِنَّ ذلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } [ الأحزاب : 53 ] .
وقال سُفْيانُ الثَّورِيُّ : " الكَبَائِرُ هي المظالِمُ بَيْنكَ وبَيْنَ العِبادِ ، والصَّغَائِرُ : ما كان بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّهِ ، إن اللَّه كَريمٌ يَعْفُو [ ويصفح ]{[7650]} " .
وقال مالك بن مغول : " الكبَائِرُ : ذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ ، والسّيئات : ذُنُوبُ أهْلِ السّنة [ الصَّغَائِر ]{[7651]} " .
وقيل : " الكَبَائِرُ ذُنُوب العَمْدِ ، والسيئات الخَطأ والنِّسيان ، وما أكْره عَلَيْهِ ، وحديث النَّفْسِ المرفوعة عَنْ هذه الأمَّةِ " .
وقال السُّدِّيُّ : الكَبَائِرُ ما نهى اللَّهُ عنه من [ الذُّنُوب ]{[7652]} الكبائر والسَّيِّئات مقدّماتُها وتوابعها ، وما يَجْتَمِعُ فيه الصَّالحُ والفاسق مثل النَّظْرَةِ ، واللَّمْسَةِ ، والقُبْلَةِ ، وأشباهها . قال عليه السلامُ : " الْعَيْنَانِ تَزْنيانِ ، واليَدَانِ تَزْنيانِ ، والرِّجْلانِ تَزْنيانِ ، وَيُصدِّقُ ذلك الفَرْجُ ، أو يُكذِّبُهُ " {[7653]} .
وقيل : الكَبَائِرُ الشِّرْكُ ، وما يؤدِّي إليْهِ ، وما دُونَ الشِّرْكِ ، فهو من السَّيِّئاتِ . قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاُ } النساء : 48 ] .
قوله : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } .
قال المفسِّرُون : أي من الصَّلاة إلى الصَّلاةِ ، ومن الجُمْعَةِ إلى الجُمْعَةِ ، ومن رَمضَان إلى رمضَان ، لقوله عليه السلامُ : " [ الصَّلَوَاتُ ]{[7654]} الخمسُ والجمعةُ إلى الجُمعةِ ورَمضَانُ إلى رَمضَان مُكَفِّراتٌ لِّمَا بَيْنهُنَّ إذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ " {[7655]} .