غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

31

التفسير : هذا كالتفصيل للوعيد المتقدم . ومن الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئاً منها فليستغفر الله فإنّ الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلاّ راجعاً عن الإسلام أو جاحداً فريضة أو منكراً لقدر . وضعف بأن الذنوب لو كانت كلها كبائر لم يبق فرق بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر وبقوله تعالى :{ وكل صغير وكبير مستطر }[ القمر :53 ]

{ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها }[ الكهف :49 ] وبأنه صلى الله عليه وسلم نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، وبقوله تعالى :{ وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان }[ الحجرات :7 ] ولا بد من فرق بين الفسوق والعصيان . فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر العصيان . حجة المانع ما روي عن ابن عباس : أنّ الذنب إنما يكبر لوجهين : لكثرة نعم من عصى فيه ولجلالته ، ولا شك أن نعمه تعالى غير متناهية وأنه أجل الموجودات فيكون عصيانه كبيراً .

وعورض بأنه أرحم الراحمين وأغنى عن طاعات المطيعين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب وإن سلم أن الذنوب كلها كبائر من حيث إنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت . وإذ قد عرفت أن الذنوب بعضها صغائر وبعضها كبائر فالكبيرة تتميز عن الصغيرة بذاتها أو باعتبار فاعلها . ذهب إلى كل واحد طائفة . فمن الأولين من قال : ويروى عن ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقروناً بذكر الوعيد فهو كبيرة كالقتل المحرم والزنا وأكل مال اليتيم وغيرها . وزيف بأنه لا ذنب إلاّ وهو متعلق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً فيكون كل ذنب كبيراً وهو خلاف المفروض . وعن ابن مسعود أن الكبائر هي ما نهى الله تعالى في الآيات المتقدمة ، وضعف بأنه تعالى ذكر الكبائر في سائر السور أيضاً فلا وجه للتخصيص . وقيل : كل عمد فهو كبير . ورُدّ بأنه إن أراد بالعمد أنه ليس بساهٍ فما هذا حاله فهو الذي نهى الله عنه فيكون كل ذنب كبيراً وقد أبطلناه ، وإن أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فلا يكون كفر اليهود والنصارى كبيراً وهو باطل بالاتفاق . وأما الذين يقولون الكبائر تمتاز عن الصغائر باعتبار فاعلها ، فوجهه أنّ لكل طاعة قدراً من الثواب ، ولكل معصية قدراً من العقاب . فإذا وجد للإنسان طاعة ومعصية فالتعادل بين الاستحقاقين وإن كان ممكناً بحسب العقل إلاّ أنه غير ممكن بحسب السمع وإلاّ لم يكن مثل ذلك المكلف لا في الجنة ولا في النار وقد قال تعالى :{ فريق في الجنة وفريق في السعير }[ الشورى :7 ] فلا بد من ترجيح أحدهما ، ويلزم حينئذٍ الإحباط والتكفير . والحق في هذه المسألة وعليه الأكثرون بعد ما مرّ من إثبات قسمة الذنب إلى الكبير والصغير أنه تعالى لم يميّز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر . فلو عرف المكلف جميع الكبائر اجتنبها فقط واجترأ على الإقدام على الصغائر ، أما إذا عرف أنه لا ذنب إلاّ ويجوز كونه كبيراً صار هذا المعنى زاجراً له عن الذنوب كلها ، ونظير هذا في الشرع إخفاء ليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جملة الأوقات . هذا ولا مانع من أن يبيّن الشارع في بعض الذنوب أنه كبيرة كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " . وذكر عند ابن عباس أنها سبعة فقال : هي إلى السبعين أقرب . وفي رواية إلى السبعمائة . وعن ابن عمر أنه عدّ منها : استحلال آميّن البيت الحرام وشرب الخمر .

وعن ابن مسعود : زيادة القنوط من رحمة الله والأمن من مكره . وفي بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم زيادة قول الزور وعقوق الوالدين والسرقة . وأما قول العلماء في الكبيرة فمنهم من قال : هي التي توجب الحد . وقيل : هي التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص أو كتاب أو سنة . وقيل : كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث صاحبها بالدين . وقيل : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار . ويراد بالإصرار المداومة على نوع واحد من الصغائر ، أو الإكثار منها وإن لم تكن من نوع واحد . احتج أبو القاسم الكعبي بالآية على القطع بوعيد أهل الكبائر لأنها تدل على أنه إذا لم يجتنب الكبائر فلا تكفر عنه . والجواب عنه أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج ويؤيده قوله تعالى :{ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته }[ البقرة :283 ] وأداء الأمانة واجب أمنه أو لم يأمنه . سلمنا أنّ الآية رجعت إلى قوله من لم يجتنب الكبائر لم يكفر عنه سيّئاته ، فغايته أنه يكون عاماً في باب الوعيد . والجواب عنه هو الجواب عن سائر العمومات ، وهو أنه مشروط بعدم العفو عندنا كما أنه مشروط عندكم بعدم التوبة . ثم قالت المعتزلة : إنّ عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا لا يجب على الله شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان . ويدخل في الاجتناب عن الكبائر الإتيان بالطاعات لأن ترك الواجب أيضاً كبيرة . { وندخلكم مدخلاً } فمن فتح الميم أراد مكان الدخول ، ومن ضمها أراد الإدخال . ووصفه بالكرم إشعار بأنه على وجه التعظيم خلاف إدخال أهل النار الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، أو هو وصف باعتبار صاحبه .

/خ40