قوله تعالى : { قل إنما أعظكم } آمركم وأوصيكم بواحدة ، أي : بخصلة واحدة ، ثم بين تلك الخصلة فقال : { أن تقوموا لله } لأجل الله ، { مثنى } أي : اثنين اثنين ، { وفرادى } أي : واحداً واحد { ثم تتفكروا } جميعاً أي : تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون ، فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا ، { ما بصاحبكم من جنة }أي : جنون ، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس ، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق ، كقوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } { إن هو } ما هو ، { إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قال مقاتل : تم الكلام عند قوله : ثم تتفكروا أي : في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له ، ثم ابتدأ فقال : { ما بصاحبكم من جنة } .
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق ، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل :
( قل : إنما أعظكم بواحدة . . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .
إنها دعوة إلى القيام لله . بعيداً عن الهوى . بعيداً عن المصلحة . بعيداً عن ملابسات الأرض . بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله . بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة . والمؤثرات الشائعة في الجماعة .
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط ، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ؛ ولا مع العبارات المطاطة ، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها .
دعوة إلى منطق الفطرة الهادى ء الصافي ، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس ؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة .
وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة . منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات . وعلى مراقبة الله وتقواه .
وهي( واحدة ) . . إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق . القيام لله . . لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة . . التجرد . . الخلوص . . ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون .
( أن تقوموا لله . مثنى وفرادى ) . . مثنى ليراجع أحدهما الآخر ، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارى ء ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء . . وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادى ء عميق .
( ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة ) . . فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة . وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده . إن هو إلا القول المحكم القوي المبين .
( إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .
لمسة تصور العذاب الشديد وشيكاً أن يقع ، وقد سبقه النذير بخطوة . لينقذ من يستمع . كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق . وهو تصوير - فوق أنه صادق - بارع موح مثير . .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر ، حدثني عبدالله بن بريرة عن أبيه - رضي الله عنه - قال : خرج علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوماً ، فنادى ثلاث مرات : " أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم ? " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال - صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم . فبعثوا رجلاً يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم ، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم " . .
وروي بهذا الإسناد قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بعثت أنا والساعة جميعاً . إن كادت لتسبقني " . .
ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي . يتبعه الإيقاع الثاني . ( قل : ما سألتكم من أجر فهو لكم . إن أجري إلا على الله . وهو على كل شيء شهيد ) . .
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : إنما آمركم بواحدة ، وهي : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } أي : تقوموا قياما خالصًا لله ، من غير هوى ولا عصبية ، فيسأل بعضكم بعضا : هل بمحمد من جنون ؟ فينصح بعضكم بعضا ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي : ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ، ويتفكر في ذلك ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } .
هذا معنى ما ذكره مجاهد ، ومحمد بن كعب ، والسُّدِّيّ ، وقتادة ، وغيرهم ، وهذا هو المراد من الآية .
فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «أعطيت ثلاثا لم يعطهن مَن قبلي ولا فخر : أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لمن قبلي ، كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها . وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ، وكان كل نبي يبعث إلى قومه ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، أتيمم بالصعيد ، وأصلي حيث أدركتني الصلاة ، قال الله : { أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي " - فهو حديث ضعيف الإسناد ، وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد ، ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة ، فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها{[24399]} والله أعلم .
وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } : قال{[24400]} البخاري عندها :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن خَازم ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرَّة ، عن سعيد بن جُبَيْر{[24401]} ، عن ابن عباس قال : صَعدَ النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم ، فقال : " يا صباحاه " . فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ فقال : " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يُصَبّحكم أو يُمَسّيكم ، أما كنتم تصدقوني ؟ " قالوا : بلى . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك ! ألهذا جمعتنا ؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد ] . {[24402]}
وقد تقدم عند قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريدة ، {[24403]} عن أبيه قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : " أيها الناس ، أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " إنما مثلي ومثلكم مثلُ قوم خافوا عدوا يأتيهم ، فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه : أيها الناس ، أوتيتم . أيها الناس ، أوتيتم - ثلاث مرات " .
وبهذا الإسناد{[24404]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بعثت أنا والساعة جميعًا ، إن كادت لتسبقني » . تفرد به الإمام أحمد في مسنده . {[24405]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.