فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

ثم أمر سبحانه رسوله : أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة } أي أحذركم ، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه ، وأوصيكم بخصلة واحدة ، وهي { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى } هذا تفسير للخصلة الواحدة ، أو بدل منها ، أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين إثنين إثنين ، وواحداً واحداً ، لأن الاجتماع يشوّش الفكر . وليس المراد القيام على الرجلين ، بل المراد القيام بطلب الحقّ ، وإصداق الفكر فيه ، كما يقال : قام فلان بأمر كذا { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في أمر النبيّ ، وما جاء به من الكتاب ، فإنكم عند ذلك تعلمون أن { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } ، وذلك ؛ لأنهم كانوا يقولون : إن محمداً مجنون ، فقال الله سبحانه : قل لهم : اعتبروا أمري بواحدة ، وهي : أن تقوموا لله ، وفي ذاته مجتمعين ، فيقول الرجل لصاحبه : هلمّ فلنتصادق ، هل رأينا بهذا الرجل من جنة ، أي جنون ، أو جرّبنا عليه كذباً ، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر ، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق ، وأنه رسول من عند الله ، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون ، وهو معنى قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة . وقيل : إن جملة { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم ، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه ، وما ينسب إليه من الكذب ، وقد علموا : أنه أرجح الناس عقلاً ، فوجب أن يصدّقوه في دعواه ، لاسيما مع انضمام المعجزة الواضحة ، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب ، ولا قد جرّبوا عليه كذباً مدّة عمره وعمرهم . وقيل : يجوز أن تكون «ما » في { مَا بصاحبكم } استفهامية ، أي ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون . وقيل : المراد بقوله : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة } هي : «لا إله إلاّ الله » كذا قال مجاهد والسدّي . وقيل : القرآن ؛ لأنه يجمع المواعظ كلها ، والأولى ما ذكرناه أوّلاً . وقال الزجاج : إن «أن » في قوله : { أَن تَقُومُواْ } في موضع نصب بمعنى : لأن تقوموا . و قال السدّي : معنى مثنى وفرادى : منفرداً برأيه ، ومشاوراً لغيره .

وقال القتيبي : مناظراً مع عشيرته ، ومفكراً في نفسه . وقيل : المثنى عمل النهار ، والفرادى عمل الليل ، قاله الماوردي . وما أبرد هذا القول ، وأقلّ جدواه . واختار أبو حاتم ، وابن الأنباري الوقف على قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } ، وعلى هذا تكون جملة : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } مستأنفة كما قدّمنا . وقيل ليس بوقف ، لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً ، أو رأيتم منه جنة ، أو في أحواله من فساد .

/خ50