قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } ، واختلفوا في أن الجن هل أرسل إليهم منهم رسول ؟ فسئل الضحاك عنه ، فقال : بلى ألم تسمع الله يقول : { ألم يأتكم رسل منكم } ، يعني : بذلك رسلاً من الإنس ، ورسلاً من الجن . قال الكلبي : كانت الرسل من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الجن وإلى الإنس جميعا . ومحمد الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس كافة ، قال مجاهد : الرسل من الإنس ، والنذر من الجن ، ثم قرأ { ولوا إلى قومهم منذرين } [ الأحقاف :29 ] ، وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا ، وليس للجن رسل ، فعلى هذا قوله : { رسل منكم } ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الإنس ، كما قال تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن :22 ] ، وإنما يخرج من الملح دون العذاب ، وقال : { وجعل القمر فيهن نوراً } [ نوح :16 ] ، وإنما هو في سماء واحدة .
قوله تعالى : { يقصون عليكم } ، أي : يقرؤون عليكم .
قوله تعالى : { آياتي } ، كتبي .
قوله تعالى : { وينذرونكم لقاء يومكم هذا } ، وهو يوم القيامة .
قوله تعالى : { قالوا شهدنا على أنفسنا } ، أنهم قد بلغوا ، قال مقاتل : وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر .
ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير :
( يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
وهو سؤال للتقرير والتسجيل . فالله - سبحانه - يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا . والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة . .
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس . . فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس ؟ الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر . ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون ما أنزل على الرسل ، وينطلقون إلى قومهم منذرين به . كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء . أولئك في ضلال مبين . . فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة . . والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه !
وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس ، أن السؤال ليس على وجهه . إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل ؛ كما أنه للتأنيب والتوبيخ ؛ فأخذوا في الاعتراف الكامل ؛ وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه :
( قالوا : شهدنا على أنفسنا ) :
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول :
( وغرتهم الحياة الدنيا ؛ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) ؛
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا . فقد غرتهم هذه الحياة ؛ وقادهم الغرور إلى الكفر . ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به ؛ حيث لا تجدي المكابرة والإنكار . . فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق ، الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه ، ولا بكلمة الإنكار ! ولا بكلمة الدفاع !
ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة ؛ ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً ؛ وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً !
إن هذ القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة ؛ وفي هذه الأرض المعهودة . ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب ؛ ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد ! فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة ؛ ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل ! وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد !
( وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم - كانوا - كافرين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هََذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجنّ ، يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذٍ : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يقول : يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي وتعريفي لكم أدلتي على توحيدي ، وتصديق أنبيائي ، والعمل بأمري والانتهاء إلى حدودي . وَيُنْذِرُونَكُم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يقول : يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وعقابي على معصيتكم إياي ، فتنتهوا عن معاصيّ . وهذا من الله جلّ ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي ، ومعناه : قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطإ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة ، وينذرونكم وعيد الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين ، فلم تقبلوا ذلك ولم تتذكروا ولم تعتبروا .
واختلف أهل التأويل في الجنّ ، هل أرسل منهم إليهم أم لا ؟ فقال بعضهم : قد أرسل إليه رسل كما أرسل إلى الإنس منهم رسل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سئل الضحاك عن الجنّ : هل كان فيهم نبيّ قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع إلى قول الله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يعني بذلك : رسلاً من الإنس ورسلاً من الجنّ ؟ فقالوا : بلى .
وقال آخرون : لم يرسل منهم إليهم رسول ، ولم يكن له من الجنّ قطّ رسول مرسل ، وإنما الرسل من الإنس خاصة . فأما من الجنّ فالنّذْر . قالوا : وإنما قال الله : ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ والرسل من أحد الفريقين ، كما قال : مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ثم قال : يَخْرُجُ مِنْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المِلح دون العذب منهما وإنما معنى ذلك : يخرج من بعضهما أو من أحدهما . قال : وذلك كقول القائل لجماعة أدؤر إن في هذه الدور لشرّا ، وإن كان الشرّ في واحدة منهنّ ، فيخرج الخبر عن جميعهنّ والمراد به الخبر عن بعضهنّ ، وكما يقال : أكلت خبزا ولبنا : إذا اختلطا ولو قيل : أكلت لبنا ، كان الكلام خطأ ، لأن اللبن يشرب ولا يؤكل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ قال : جمعهم كما جمع قوله : وَمِنْ كُلَ تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ولا يخرج من الأنهار حلية . قال ابن جريج : قال ابن عباس : هم الجن لَقُوا قومهم ، وهم رسل إلى قومهم .
فعلى قول ابن عباس هذا ، أن من الجنّ رسلاً للإنس إلى قومهم .
فتأويل الاَية على هذا التأويل الذي تأوّله ابن عباس : ألم يأتكم أيها الجنّ والإنس رسل منكم ؟ فأما رسل الإنس ، فرسل من الله إليهم وأما رسل الجنّ ، فرسل رسل الله من بني آدم ، وهم الذين إذ سمعوا القرآن ولّوا إلى قومهم منذرين .
وأما الذين قالوا بقول الضحاك ، فإنهم قالوا : إن الله تعالى ذكره أخبر أن من الجنّ رسلاً أرسلوا إليهم ، كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم . قالوا : ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجنّ بمعنى أنهم رسلا الإنس ، جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجنّ . قالوا : وفي فساد هذا المعنى ما يدلّ على أن الخبرين جميعا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله ، لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : قالُوا شَهِدْنا على أنْفُسِنا وَغَرّتْهُمُ الحَياةُ الدّنْيا وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ أنّهُمْ كانُوا كافِرِينَ .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن قول مشركي الجنّ والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا أنهم يقولون شَهِدْنا على أنْفُسِنا بأن رسلك قد أتتنا بآياتك ، وأنذرتنا لقاء يومنا هذا ، فكذّبناها وجحدنا رسالتها ، ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها . قال الله خبرا مبتدأً : وغرّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام وأولياءهم من الجنّ ، الحَياةُ الدّنيا يعني : زنية الحياة الدنيا وطلب الرياسة فيها والمنافسة عليها ، أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله ، فاستكبروا وكانوا قوما عالين . فاكتفى بذكر الحياة الدنيا من ذكر المعاني التي غرّتهم وخدعتهم فيها ، إذ كان في ذكرها متكفى عن ذكر غيرها لدلالة الكلام على ما ترك ذكره ، يقول الله تعالى : وَشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ يعني هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله ، لتتمّ حجة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليم عذابه .
{ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } الرسل من الإنس خاصة ، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره { يخرج منه اللؤلؤ والمرجان } والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم . وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى : { ولوا إلى قومهم منذرين } . { يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا } يعني يوم القيامة { قالوا } جوابا . { شهدنا على أنفسنا } بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب . { وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم ، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين مثل حالهم .
هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر ، وفصلت الجملة لأنَّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود ، إبطالاً لمعذرتهم ، وإعلاناً بأنَّهم محقوقون بما جُزوا به ، فأعاد نداءهم كما ينادَى المندّد عليه الموبَّخ فيزداد روْعاً .
والهمزة في { ألم يأتيكم } للاستفهام التّقريري ، وإنَّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حالَ من يُظنّ به أن يجيب بالنَّفي ، يؤتى بتقريره داخلاً على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته ، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعُذره في المؤاخذة به ، كما يقال للجاني : ألَسْت الفاعل كذا وكذا ، وألست القائل كذا ، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسؤول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه ، فيؤتى بالاستفهام داخلاً على نفي الشّيء المقرّر عليه ، حتىّ إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتلعثم . ومنه قوله تعالى : { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم } [ الأعراف : 172 ] ، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله ، ونبذ العمل الصّالح ظهرياً ، والإعراض عن الإيمان ، حالَ من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ، جيء في تقريرهم على بعثَة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم ، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغاً ، واعترفوا بمجيئهم ، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب .
والرّسل : ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع ، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم : من اعتقاد وعمل ، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى : { إذْ جاءها المرسلون } [ يس : 13 ] وهم رسل الحواريين بعد عيسى .
فوَصْف الرّسل بقوله : { منكم } لزيادة إقامة الحجّة ، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم ، فيجوز أن يكون ( مِن ) اتِّصالية مثل الّتي في قولهم : لَسْتُ منك ولستَ مِنِّي ، وليست للتّبعيض ، فليست مثل الّتي في قوله : { هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم } [ الجمعة : 2 ] وذلك أنّ رسل الله لا يكونون إلاّ من الإنس ، لأنّ مقام الرّسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلاّ في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر ، وجنسُ الجنّ أحَطّ من البشر لأنَّهم خلقوا من نار .
وتكون ( من ) تبعيضية ، ويكون المراد بضمير : { منكم } خصوص الإنس على طريقة التغليب ، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قَبله كما في قوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح . فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهاماً بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها ، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّ : { قُل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنَّا سمعنا قُرآناً عجبا } [ الجن : 1 ] الآية ، وقال في سورة الأحقاف ( 30 ، 31 ) : { قالوا يا قَوْمنا إنَّا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدّقا لما بين يديه يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم } ذلك أن الظواهر تقتضي أنّ الجنّ لهم اتّصال بهذا العالم واطّلاع على أحوال أهله : { إنَّه يَراكم هو وقبيلُه من حيث لا ترونهم } [ الأعراف : 27 ] فضعف قول من قال بوُجود رسل من الجنّ إلى جنسهم ، ونُسب إلى الضحاك ، ولذلك فقوله : { ألم يأتيكم } مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجنّ ، ولم يرد عن النّبيء صلى الله عليه وسلم ما يثبت به أنّ الله أرسل رسلاً من الجنّ إلى جنسهم ، ويجوز أن يكون رسل الجنّ طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يَدْعون إليه ويبلّغون ذلك إلى أقوامهم ، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف ؛ فمؤاخذة الجنّ على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأنّ أدلّة الوحدانيّة عقليّة لا تحتاج إلاّ إلى ما يُحرّك النّظر . فلمّا خلق الله للجنّ علماً بما تجيء به رسل الله من الدّعاء إلى النّظر في التّوحيد فقد توجَّهت عليهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانيّة الله تعالى فاستحقّوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرّسل دعوتهم إليهم .
ومن حسن عبارات أيمّتنا أنَّهم يقولون : الإيمان واجب على مَن بلَغَتْه الدّعوة ، دون أن يقولوا : على مَن وُجّهت إليه الدّعوة . وطرق بلوغ الدّعوة عديدة ، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أنّ النّبيء محمّداً صلى الله عليه وسلم ولا غيرَه من الرّسل ، بُعث إلى الجنّ لانتفاء الحكمة من ذلك ، ولعدم المناسبة بين الجنسين ، وتعذّر تخالطهما ، وعن الكلبي أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ ، وقاله ابن حزم ، واختاره أبو عُمر ابن عبد البرّ ، وحكَى الاتِّفاق عليه : فيكون من خصائص النّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لقدره . والخوض في هذا ينبغي للعالم أن يربأ بنفسه عنه لأنَّه خوض في أحوال عالَم لا يدخل تحت مُدْرَكاتنا ، فإنّ الله أنبأنا بأنّ العوالم كلّها خاضعة لسلطانه . حقيق عليها طاعته ، إذا كانت مدركة صالحة للتكليف .
والمقصود من الآية الّتي نتكلّم عليها إعلامُ المشركين بأنَّهم مأمورون بالتّوحيد والإسلام وأنّ أولياءهم من شياطين الإنس والجن غير مفلتين من المؤاخذة على نبذ الإسلام . بلْهَ أتْباعهم ودهمائهم . فذكر الجنّ مع الإنس في قوله : { يا معشر الجن والإنس } يوم القيامة لتبكيت المشركين وتحْسيرهم على ما فرط منهم في الدّنيا من عبادة الجنّ أو الالتجاءِ إليهم ، على حدّ قوله تعالى : { ويوم يحشرهم وما يَعبدون من دون الله فيقول أنتم أضللتم عبادي هؤلاء } [ الفرقان : 17 ] وقوله : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنتَ قلتَ للنّاس اتَّخذوني وأمِّي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] .
والقَصّ كالقَصَص : الإخبار ، ومنه القصّة للخبر ، والمعنى : يخبرونكم الأخْبار الدالّة على وحدانيّة الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده ، فسمّى ذلك قَصَّاً ؛ لأنّ أكثره أخبار عن صفات الله تعالى وعن الرّسل وأممهم وما حلّ بهم وعن الجزاء بالنّعيم أو العذاب . فالمراد من الآيات آيات القرآن والأقوالُ الّتي تتلى فيفهمها الجنّ بإلهام ، كما تقدّم آنفاً ، ويفهمها الإنس ممّن يعرف العربيّة مباشرة ومن لا يعرف العربيّة بالتّرجمة .
والإنذار : الإخبار بما يُخِيف ويُكره ، وهو ضدّ البشارة ، وتقدّم عند قوله تعالى : { إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) ، وهو يتعدّى إلى مفعول بنفسه وهو الملقى إليه الخبر ، ويتعدّى إلى الشّيء المخبر عنه : بالباء ، وبنفسه ، يقال : أنذرته بكذا وأنذرته كَذا ، قال تعالى : { فأنذرتكم ناراً تلظّى } [ الليل : 14 ] ، { فقُل أنذرتكم صاعقة } [ فصلت : 13 ] ، { وتُنْذِرَ يومَ الجمع } [ الشورى : 7 ] ولمّا كان اللّقاء يوم الحشر يتضمّن خيراً لأهل الخير وشرّا لأهل الشرّ ، وكان هؤلاء المخاطبون قد تمحّضوا للشرّ ، جُعل إخبار الرّسل إيَّاهم بلقاء ذلك اليوم إنذاراً لأنَّه الطَّرف الّذي تحقّق فيهم من جملة إخبار الرّسل إيَّاهم ما في ذلك اليوم وشرّه . ووصف اليوم باسم الإشارة في قوله : { يومكم هذا } لتهويل أمر ذلك بما يشاهد فيه ، بحيث لا تحيط العبارة بوصفه ، فيعدل عنها إلى الإشارة كقوله : { هذه النّار التي كنتم بها تكذّبون } [ الطور : 14 ] .
ومعنى قولهم : { شهدنا على أنفسنا } الإقرارُ بما تضمّنه الاستفهام من إتيان الرّسل إليهم ، وذلك دليل على أن دخول حرف النّفي في جملة الاستفهام ليس المقصود منه إلاّ قطع المعذرة وأنّه أمر لا يسع المسؤولَ نفيُه ، فلذلك أجملوا الجواب : { قالوا شهدنا على أنفسنا } ، أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا .
واستعملت الشّهادة في معنى الإقرار لأنّ أصل الشّهادة الإخبار عن أمر تحقّقه المخبر وبيَّنه ، ومنه : { شهد الله أنَّه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] . وشهد عليه ، أخبر عنه خبرَ المتثبت المتحقّق ، فلذلك قالوا : { شهدنا على أنفسنا } أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا . ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشّرك في قوله : { إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين } [ الأنعام : 23 ] لاختلاف المخبر عنه في الآيتين . وفُصِلت جملة : { قالوا } لأنَّها جارية في طريقة المحاورة .
وجملة { وغرتهم الحياة الدنيا } معطوفة على جملة : { قالوا شهدنا } باعتبار كون الأولى خبراً عن تبيّن الحقيقة لهم ، وعلمهم حينئذ أنَّهم عَصوا الرّسل ومَن أرسلهم . وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك . فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنَّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلاّ لأنَّهم غرّتهم الحياة الدّنيا ، ولولا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه .
والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم : من اللّهو ، والتّفاخر ، والكبر ، والعناد . والاستخفاف بالحقائق ، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل . والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم ، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله . فإنّ حالهم سواء .
وجملة : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } معطوفة على جملة : { وغرتهم الحياة الدنيا } وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم ، وتخطئة رأيهم في الدّنيا .
وسوء نظرهم في الآيات ، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب . وقد رُتّب هذا الخبرُ على الخبر الّذي قبله ، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا ، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله ، فأمّا الإنس فلأنَّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ ، وأمّا الجنّ فلأنَّهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء لله تعالى ، فكِلا الفريقين من هؤلاء كافر ، وهذا مثل ما أخبرَ الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله : { وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم } [ الملك : 10 ، 11 ] . فانظر كيف فرّع على قولهم أنَّهم اعترفوا بذنبهم ، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف ، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه ، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم ، والتسميع بهم ، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر .
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التّمحيص والإلجاء ، فلا تنافي أنَّهم أنكروا الكفر في أوّل أمر الحساب ، إذ قالوا : { والله ربّنا ما كنّا مشركين } [ الأنعام : 23 ] . قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عبّاس : « إنِّي أجد أشياء تختلف عليّ قال اللَّهُ : { ولا يكتمون الله حديثاً } [ النساء : 42 ] ، وقال : { إلاّ أن قالوا واللَّهِ ربّنا ما كنّا مشركين } [ الأنعام : 23 ] ، فقد كَتَموا . فقال ابن عبّاس : إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فقال المشركون : تَعالوا نقل : ما كنّا مشركين ، فختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم » .