إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} (130)

{ يَا مَعْشَرَ الجن والإنس } شروعٌ في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشَرَين وتقريعِهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسِهم إثرَ حكايةِ توبيخِ معشر الجنِّ بإغواء الإنسِ وإضلالِهم وبيانِ مآلِ أمرِهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أي في الدنيا { رُسُلٌ } أي من عند الله عز وجل لكن لا على أن يأتيَ كلُّ رسولٍ كلَّ واحدة من الأمم ، بل على أن يأتي كلَّ أمة رسولٌ خاصٌّ بها ، أي ألم يأتِ كلَّ أمة منكم رسولٌ معين ؟ وقوله تعالى : { منكُمْ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لرسل أي كائنةٌ من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً بل من الإنس خاصةً ، وإنما جُعلوا منهما إما لتأكيد وجوبِ اتباعِهم والإيذانِ بتقاربهما ذاتاً واتحادِهما تكليفاً وخطاباً ، كأنّهما جنسٌ واحد ، ولذلك تمكن أحدُهما من إضلال الآخَر ، وإما لأن المرادَ بالرسل ما يعمُّ رسلَ الرسلِ وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومَهم حيث نطق به قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً منَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } إلى قوله تعالى : { وَلَّوْا إلى قَوْمِهِم مُنذِرِينَ } [ الأحقاف ، الآية 29 ] . وقوله تعالى : { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي } صفةٌ أخرى لرسلٌ محققةٌ لما هو المرادُ من إرسال الرسل من التبليغ والإنذارِ ، وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين { وَيُنذِرُونَكُمْ } بما في تضاعيفها من القوارع { لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } يومِ الحشرِ الذي قد عاينوا فيه ما أُعدَّ لهم من أفانين العقوباتِ الهائلة { قَالُوا } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام السابقِ كأنه قيل : فماذا قالوا عند ذلك التوبيخِ الشديد ؟ فقيل : قالوا : { شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أي بإتيان الرسلِ وإنذارِهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلّد حسبما فُصِّل في حكاية جوابِهم عن سؤال خَزَنةِ النار ، حيث قالوا : { بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شيء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال كَبِيرٍ } [ الملك ، الآية 9 ] وقد أُجمل هاهنا في الحكاية كما أُجمل في حكاية جوابِهم حيث قالوا : { بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر ، الآية 71 ] وقوله تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } مع ما عُطف عليه اعتراضٌ لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التي ارتكبوها وإلجائِهم بعد ذلك في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذابِ ، وذمٌّ لهم بذلك ، أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئةِ واللذات الخسيسةِ الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسلُ ، واجترأوا على ارتكاب ما يجُرّهم إلى العذاب المؤبَّد الذي أنذروهم إياه { وَشَهِدُوا } في الآخرة { عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا } في الدنيا { كافرين } أي بالآيات والنذر التي أتى بها الرسلُ على التفصيل المذكور آنفاً واضطُرّوا إلى الاستسلام لأشد العذابِ كما ينبئ عنه ما حُكي عنهم بقوله تعالى : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أصحاب السعير } [ الملك ، الآية 10 ] وفيه من تحسيرهم وتحذيرِ السامعين عن مثل صنيعِهم ما لا مزيد عليه .