ثم بين تعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة ، إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم ، وأعلم أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل ، فيشهدون على أنفسهم بالكفر ، وأنهم لم يعذبوا إلا بالحجة ، فقال تعالى :
/ [ 130/ ] { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ( 130 ) } .
{ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم } أي : في الدنيا { رسل منكم يقصون عليكم آياتي } بالأمر والنهي { وينذرونكم } يخوفونكم { لقاء يومكم هذا } وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال . { قالوا } يعني الجن والإنس . { شهدنا على أنفسنا } أي : أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم ، وبتكذيب دعوتهم ، كما فصل في قوله تعالى{[3689]} : { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } .
{ وغرتهم الحياة الدنيا أي : ما فيها من الزهرة والنعيم ، وهو بيان لما أداهم في الدنيا إلى الكفر { وشهدوا على أنفسهم } أي : في الآخرة . قال المهايمي : بعد شهادة جوارحهم { أنهم كانوا كافرين } أي : في الدنيا بما جاءتهم الرسل .
الأول- استدل بقوله تعالى : { ألم يأتكم رسل منكم } من قال إن الله بعث إلى الجن رسلا منهم . وحكاه ابن جرير{[3690]} عن الضحاك بن مزاحم ، والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول ، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط . نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة ، من السلف والخلف .
قال ابن عباس : " الرسل من بني آدم ، ومن الجن نذر " . وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيهاضافا . أي : من أحدكم ، وهم الإنس . أو من إضافة ما للبعض للكل ، كقوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }{[3691]} وإنما يخرجان من أحدهما ، وهو الملح دون العذب . وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله : { مرج البحرين }{[3692]} وهو جائز في كل ما اتفق في أصله . فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز ، مخاطبتهما بما ينصرف إلى احد الفريقين ، وهم الإنس . وهذا قول الفراء والزجاج .
وقال أبو السعود : المعنى : ألم يأتكم رسل من جملتكم ، لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا ، بل من الإنس خاصة . وإنما جعلوا منهما ، إما لتأكيد وجوب اتباعهم ، والإيذان بتقاربهما ذاتا ، واتحادهما تكليفا وخطابا ، كأنهما من جنس واحد . ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر . وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل . وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن ، وأنذروا به قومهم ، حيث نطق به قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . . . } {[3693]} إلى قوله تعالى : { ولوا إلى قومهم منذرين }{[3694]} . انتهى .
وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من جن عصره فيسمعون كلامهم ، ويأتون قومهم من الجن ، ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل ، وينذرونهم به . وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه فقال : { إذ أرسلنا إليهم اثنين }{[3695]} وتحقيق القول فيه : أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية ، لأنه تعالى أزال العذر ، وأزاح العلة ، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين . فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا/ الطريق ، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر ، وإزالة العلة ، فكان المقصود حاصلا- كذا قرره الرازي- .
قال الحافظ ابن كثير : والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى : { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده . . . } {[3696]} . إلى قوله تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }{[3697]} . وقوله تعالى عن إبراهيم : { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب }{[3698]} فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته . ولم يقل أحد : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم ، ثم انقطعت عنهم ببعثته . وقال تعالى : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق }{[3699]} وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى }{[3700]} . ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب . انتهى .
الثاني- إن قيل : ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر ، وجحدوه في قوله : / { والله ربنا ما كنا مشركين }{[3701]} ؟ قلنا : يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة ، فتارة يقرون ، وأخرى يجحدون . وذلك يدل على شدة خوفهم ، واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه ، كثر الاضطراب في كلامه- أفاده الرازي- .
زاد الزمخشري : أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم .
الثالث- إن قيل : لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم ؟ أجيب : بأن الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون ؛ والثانية ذم لهم ، وتخطئة لرأيهم ، ووصف القلة نظرهم لأنفسهم ، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا ، واللذات الحاضرة ، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم ، واستيجاب عذابه . وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم- كذا في ( الكشاف ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.