نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} (130)

ولما انقضت هذه المحاورة وما أنتجته من بغيض الموالاة والمجاورة وكان حاصلها أنها موالاة من ضرت موالاته ، أتبعها سبحانه بمحاورة أخرى حاصلها معاداة من ضرت معاداته ، فقال مبدلاً من الأولى{[31247]} إتماماً للتقريع والتوبيخ والتشنيع : { يا معشر الجن } قدمهم لأن السياق لبيان غلبتهم { والإنس } وبكتهم بقوله محذراً للسامعين الآن ومستعطفاً لهم إلى التوبة : { ألم يأتكم رسل } ولما صار القبيلان بتوجيه{[31248]} الخطاب نحوهم دفعة كالشيء الواحد قال : { منكم } وإن كان الرسل من الإنس خاصة .

ولما كان النظر في هذه السورة إلى العلم غالباً لإثبات تمام القدرة الذي هو من لوازمه بدليل { يعلم سركم وجهركم }[ الأنعام : 3 ] ، { أليس الله بأعلم بالشاكرين }[ الأنعام : 53 ] { وعنده مفاتح الغيب }[ الأنعام : 59 ] وغيرها ، ولذلك أكثر فيها من ذكر التفصيل الذي لا يكون إلاّ للعالم ، كان القص - الذي هو تتبع الأثر - أنسب لذلك فقال{[31249]} { يقصون } بالتلاوة والبيان لمواضع الدلائل { عليكم آياتي } أي يتبعون بالعلامات التي يحق لها بما لها من الجلال والعظمة أن تنسب{[31250]} إلى مواضع شبهكم ، فيحلونها حلاً{[31251]} مقطوعاً به { وينذرونكم } أي يخوفونكم { لقاء يومكم هذا } أي بما قالوا لكم أنه يطلبكم طلباً حثيثاً وأنتم صائرون{[31252]} إليه في سفن الأيام ومراكب الآثام{[31253]} وأنتم لا تشعرون سيراً سريعاً { قالوا } معذرين من أنفسهم بالذل والخضوع { شهدنا } بما فعلت بنا أنت سبحانك من المحاسن وما فعلنا نحن من القبائح { على أنفسنا } أي بإتيان الرسل إلينا ونصيحتهم لنا بدليل الآية الأخرى قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين{[31254]} }[ الزمر : 71 ] وبين أن ضلالهم كان بأردإ الوجوه وأسخفها الدنيا ، بحيث إنهم اغتروا بها مع دناءتها{[31255]} لحصورها عن الآخرة مع شرفها لغيابها فقال{[31256]} : { وغرتهم } أي شهدوا هذه الشهادة والحال أنهم قد غرتهم { الحياة الدنيا } أي الحاضرة عندهم إذ ذاك الدنية{[31257]} في نفسها لفنائها ، عن اتباع الرسل دأب الجاهل في الرضى بالدون{[31258]} والدابة في القناعة بالحاضر ، فشهادتهم ضارة بهم ، ولكن لم يستطيعوا{[31259]} كتمانها ، بل { وشهدوا } أي في هذا الموطن من مواطن القيامة الطوال { على أنفسهم } أيضاً بما هو أصرح{[31260]} في الضرر عليهم من هذا ، وهو { أنهم كانوا }{[31261]} جبلة وطبعاً{[31262]} { كافرين * } أي غريقين في الكفر ، ويجوز أن يكون الغرور بأنهم ظنوا{[31263]} أحوال الآخرة تمشي على ما كانوا يألفونه في الدنيا من أن الاعتراف{[31264]} بالذنب والتكلم بالصدق قد ينفع المذنب ويكف من سورة المغضب{[31265]} حتى يترك العقاب ويصفح عن الجريمة ، فلذلك شهدوا بإتيان الرسل إليهم وإقامة الحجة عليهم ، وشهدوا على أنفسهم بالكفر ، فما زادهم ذلك إلا وبالاً وحزناً ونكالاً .


[31247]:من ظ، وفي الأصل: الأول.
[31248]:في ظ: بتوجه.
[31249]:زيد ما بين الحاجزين من ظ.
[31250]:من ظ، وفي الأصل: ينسب.
[31251]:زيد ما بين الحاجزين.
[31252]:من ظ، وفي الأصل: سايرون.
[31253]:في ظ: الأنام.
[31254]:سورة 39 آية 71.
[31255]:في ظ: ردايها.
[31256]:سقط من ظ.
[31257]:في ظ: الدنيا.
[31258]:من ظ، وفي الأصل: بالدور.
[31259]:من ظ، وفي الأصل: لم تستطيعوا.
[31260]:من ظ، وفي الأصل: اصح.
[31261]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[31262]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[31263]:في ظ: طلبوا.
[31264]:من ظ، وفي الأصل: الأغرار- كذا.
[31265]:في ظ: الغضب.