معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

قوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض } أي : سافرتم .

قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } أي : حرج وإثم .

قوله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة } ، يعني من أربع ركعات إلى ركعتين ، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء .

قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم } أي : يغتالكم ويقتلكم .

قوله تعالى : { الذين كفروا } ، في الصلاة ، نظيره قوله تعالى : { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } [ يونس :83 ] أي : يقتلهم .

قوله تعالى : { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } أي : ظاهر العداوة .

اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة ، واختلفوا في جواز الإتمام . فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب ، وهو قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس رضي الله عنهم . وبه قال الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد صلاة الحضر .

وذهب قوم إلى جواز الإتمام ، روي ذلك عن عثمان ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه ، إن شاء أتم هو ، وإن شاء قصر ، والقصر أفضل .

أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأتم . وظاهر القرآن يدل على ذلك ، لأن الله تعالى قال :{ فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ، ولفظ " لا جناح " إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتماً ، فظاهر الآية يوجب أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف ، وليس الأمر على ذلك ، إنما نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو . والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود ، عن ابن جريج ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن عبد الله بن باباه عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى : { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ، وقد أمن الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة آمناً ، لا يخاف إلا الله ، فصلى ركعتين .

وذهب قوم إلى أن ركعتي المسافر ليستا بقصر ، إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف ، يروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء ، وطاووس ، والحسن ، ومجاهد ، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية باقياً ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز . خائفاً كان أو آمناً . واختلف أهل العلم في مسافة القصر فقالت طائفة : يجوز القصر في السفر الطويل والقصير ، روي ذلك عن أنس رضي الله عنه . وقال عمرو بن دينار : قال لي جابر بن زيد : اقصر بعرفة . أما عامة الفقهاء فلا يجوزون القصر في السفر القصير ، واختلف في حد ما يجوز به القصر ، فقال الأوزاعي : مسيرة يوم ، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخاً ، وإليه ذهب مالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وهو قول الحسن ، والزهري قريب من ذلك ، فإنهما قالا : مسيرة يومين ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه ، قال : مسيرة ليلتين قاصدتين ، وقال في موضع : ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي ، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي : مسيرة ثلاثة أيام . وقيل : قوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } متصل بما بعده من صلاة الخوف ، منفصل عما قبله . روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال : نزل قوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } هذا القدر ثم بعد حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً وإذا كنت فيهم } الآية . ومثله في القرآن كثير ، أن يجيء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر آخر ، وهو في الظاهر كالمتصل به ، وهو منفصل عنه ، كقوله تعالى : { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } [ يوسف :51 ] وهذه حكاية عن امرأة العزيز ، وقوله : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف :52 ] إخبار عن يوسف عليه السلام .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

95

ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية ، وفي النظام الإسلامي ، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني . . وقد عدته الشيعة ركنا من أركان الإسلام - ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا . لولا ما ورد في حديث : " بني الإسلام على خمس . . . " ولكن قوة التكليف بالجهاد ؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية ؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض - الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية - كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته .

ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية ؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب ، أو تخاف أمام المخاطر ، وتكسل أمام العقبات ، في خير الأزمنة وخير المجتمعات . وأن منهج العلاج في هذه الحالة ، ليس هو اليأس من هذه النفوس . ولكن استجاشتها ، وتشجيعها ، وتحذيرها ، وطمأنتها في آن واحد . وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم .

وأخيرا يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة ؛ ويقود المجتمع المسلم ؛ ويخوض المعركة - في كل ميادينها - وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية ؛ وطبائعها الفطرية ، ورواسبها كذلك من الجاهلية . وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن ، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله .

بعد ذلك يستطرد الى رخصة ، يبيحها الله للمهاجرين ، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة . في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى . فيفتنوهم عن دينهم . وهي رخصة القصر من الصلاة - وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقا سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف - فهذا قصر خاص .

( وإذا ضربتم في الأرض ، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينًا ) . .

إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه ، تعينه على ما هو فيه ، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه ، وما هو مرصود له في الطريق . . والصلاة أقرب الصلات إلى الله . وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات . فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) . .

ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب ، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار . فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله . وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله . . غير أن الصلاة الكاملة - وما فيها من قيام وركوع وسجود - قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب . أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه . أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه . . ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة .

والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص . وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية . فهذا مرخص به للمسافر إطلاقا ، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة . بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر - كفعل رسول الله [ ص ] في كل سفر - بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال .

وإذن فهذه الرخصة الجديدة - في حالة خوف الفتنة - تعني معنى جديدا غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر . إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها . كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد . حيث يصلي الضارب في الأرض قائما وسائرا وراكبا ، ويومى ء للركوع والسجود .

وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنه ، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة ، ويأخذ حذره من عدوه :

إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينًا .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مّبِيناً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } : وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض ، { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ } يقول : فليس عليكم حرج ولا إثم ، { أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } : يعني أن تقصروا من عددها ، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعا ، اثنتين ، في قول بعضهم . وقيل : معناه : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلّ عددها في حال ضربكم في الأرض ، أشار إلى واحدة في قول آخرين .

وقال آخرون : معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا . يعني : إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون ، حتى يقتلوهم أو يأسروهم ، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها ، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له .

ثم أخبرهم جلّ ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال : { إنّ الكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا } يعني : الجاحدون وحدانية الله كانوا لكم عدوّا مبينا ، يقول : عدوّا قد أبانوا لكم عداوتهم ، بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله ، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام ، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة .

واختلف أهل التأويل في معنى القصر الذي وضع الله الجناح فيه عن فاعله ، فقال بعضهم : في السفر من الصلاة التي كان واجبا تمامها في الحضر أربع ركعات ، وأذن في قصرها في السفر إلى اثنتين . ذكر من قال ذلك :

حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه ، عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة إنْ خِفْتُمْ } وقد أمن الناس ! فقال : عجبت مما عجبت منه حتى سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : «صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّهُ بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابيه عن يعلى بن أمية ، عن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .

حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن ابن جريج ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدّث عن عبد الله بن بابيه ، يحدث عن يعلى بن أمية ، قال : قلت لعمر بن الخطاب أعجب من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا ، وقد قال الله تبارك وتعالى : { أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ حِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } ! فقال عمر : عجبت مما عجبتَ منه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «صَدَقَةٌ تَصَدّقَ اللّهُ بها عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هشام بن عبد الملك ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن أبي العالية ، قال : سافرت إلى مكة ، فكنت أصلي ركعتين ، فلقيني قرّاء من أهل هذه الناحية ، فقالوا : كيف تصلي ؟ قلت : ركعتين ، قالوا : أسنة أو قرآن ؟ قلت : كل ذلك سنة وقرآن ، قلت : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، قالوا : إنه كان في حرب ! قلت : قال الله : { لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمْقَصّرينَ لا تخافونَ } وقال : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } فقرأ حتى بلغ : { فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا يوسف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ ، قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إنّا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } ثم انقطع الوحي . فلما كان بعد ذلك بحَوْل ، غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم ! فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها . فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين : { إنْ خفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إنّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّا مُبِينا وإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } . . . إلى قوله : { إنّ اللّهَ أعَدّ للكافِرينَ عَذَابا مُهِينا } فنزلت صلاة الخوف .

قال أبو جعفر : وهذا تأويل للاَية حسن لو لم يكن في الكلام «إذا » ، وإذا تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها ، ولو لم يكن في الكلام «إذا » كان معنى الكلام على هذا التأويل الذي رواه سيف ، عن أبي روق : إن خفتم أيها المؤمنون أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم ، وكنت فيهم يا محمد ، فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، الاَية . وبعد ، فإن ذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ بن كعب : «وإذا ضَرَبْتُم في الأرض فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصّلاة أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا » .

حدثني بذلك الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا الثوري ، عن واصل بن حيان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب أنه كان يقرأ : «أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاة أن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا » ، ولا يقرأ : «إنْ خِفْتُم » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بكر بن شرود ، عن الثوريّ ، عن واصل الأحدب ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ : «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم » ، قال بكر : وهي في الإمام مصحف عثمان رحمه الله : { إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } .

وهذه القراءة تنبىء على أن قوله : { إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } مواصل قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } وأن معنى الكلام : وإذا ضربتم في الأرض فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، وأن قوله : { وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ } قصة مبتدأة غير قصة هذه الاَية . وذلك أن تأويل قراءة أبيّ هذه التي ذكرناها عنه : «وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا » ، فحذفت «لا » لدلالة الكلام عليها ، كما قال جلّ ثناؤه : { يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا } بمعنى : أن لا تضلوا . ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف ، عن أبي روق .

وقال آخرون : بل هو القصر في السفر ، غير أنه إنما أذن جلّ ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوّ يخشى أن يفتنه في صلاته . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري ، قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد ، قال : ثني عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قال : سمعت أبي ، يقول : سمعت عائشة تقول في السفر : أتّموا صلاتكم ! فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر ركعتين ؟ فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب وكان يخاف ، هل تخافون أنتم ؟ .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، أنه قال لعبد الله بن عمر : إنّا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به .

حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين .

حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : أيّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمّ الصلاة في السفر ؟ قال : عائشة وسعد بن أبي وقاص .

وقال آخرون : بل عنى بهذه الاَية : قصر صلاة الخوف في غير حال المسايفة ، قالوا : وفيها نزل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } قال : يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بُعْسفان والمشركون بَضجَنَان ، فتواقفوا ، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين أو أربعا ، شكّ أبو عاصم ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا . فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله عليه : { فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } فصلى العصر ، فصفّ أصحابه صفين ، ثم كبر بهم جميعا ، ثم سجد الأوّلون سجدة والاَخرون قيام ، ثم سجد الاَخرون حين قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم كبر بهم وركعوا جميعا ، فتقدم الصفّ الاَخر ، واستأخر الأوّل ، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أوّل مرّة وقصر العصر إلى ركعتين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ } قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجَنَان ، فتواقفوا ، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة الظهر ركعتين ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعا ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى : { فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } فصلى بهم صلاة العصر ، فصفّ أصحابه صفين ، ثم كبر بهم بهم جميعا ، ثم سجد الأوّلون بسجوده والاَخرون قيام لم يسجدوا ، حتى قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم كبر بهم وركعوا جميعا ، فقدّم الصفّ الاَخر واستأخر الصفّ المقدّم ، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرّة ، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد . قال : فصلينا الظهر ، فقال المشركون : كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غِرّة ، لأصبنا غفلة . فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر ، فأخذ الناس السلاح ، وصفّوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مُسْتَقْبَلَهُمْ ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبروا جميعا ، ثم ركع وركعوا جميعا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه وقام الاَخرون يحرسونهم ، فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء . ثم نكص الصفّ الذي يليه وتقدّم الاَخرون فقاموا في مقامهم ، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعا ، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصفّ الذي يليه ، وقام الاَخرون يحرسونهم . فلما فرغ هؤلاء من سجودهم ، سجد هؤلاء الاَخرون ، ثم استووا معه ، فقعدوا جميعا ، ثم سلم عليهم جميعا ، فصلاها بعسفان ، وصلاها يوم بني سُلَيْم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان النحويّ ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش الزرقي . وعن إسرائيل ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليشكري ، أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة ، أيّ يوم أنزل ؟ أو أيّ يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقى عير قريش آتية من الشأم ، حتى إذا كنا بنَخْل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! قال : «نَعَمْ » ، قال : هل تخافني ؟ قال : «لا » ، قال : فمن يمنعك مني ؟ قال : «اللّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ » . قال : فسلّ السيف ثم هدّده وأوعده . ثم نادى بالرحيل وأَخْذِ السلاح ، ثم نُودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم ، وطائفة أخرى يحرسونهم ، فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم ، فقاموا في مصافّ أصحابهم ، ثم جاء الاَخرون فصلى بهم ركعتين والاَخرون يحرسونهم ، ثم سلم ، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة ، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح .

وقال آخرون : بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف ، إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر ، لا في صلاة الإقامة . قالوا : وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان تمام غير قصر ، كما أن صلاة الإقامة أربع ركعات في حال الإقامة ، قالوا : فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم ، فجعلت على النصف ، وهي تمام في السفر ، ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه ، فجعلت على النصف ركعة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا } . . . إلى قوله : { عَدُوّا مُبِينا } إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، والتقصير لا يحلّ إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة والتقصير ركعة ، يقوم الإمام ، ويقوم جنده جندين ، طائفة خلفه ، وطائفة يوازون العدوّ ، فيصلي بمن معه ركعة ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم ، وتلك المشية القهقرى ، ثم تأتى الطائفة الأخرى ، فتصلى مع الإمام ركعة أخرى ، ثم يجلس الإمام فيسلم ، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة ثم يرجعون إلى صفهم ، ويقوم الاَخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة ، والناس يقولون : لا ، بل هي ركعة واحدة ، لا يصلى أحد منهم إلى ركعته شيئا ، تجزئه ركعة الإمام ، فيكون للإمام ركعتان ، ولهم ركعة ، فذلك قول الله : { وَإذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصّلاةَ } . . . إلى قوله : { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } .

حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك الحنفي ، قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان تمام غير قصر إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ قال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، قال : كيف تكون قصرا وهم يصلون ركعتين ؟ إنما هي ركعة .

حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية ، قال : حدثنا المسعودي ، قال : ثني يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : صلاة الخوف ركعة .

حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحرث ، قال : ثني بكر بن سوادة أن زياد بن نافع حدثه ، عن كعب وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعت يده يوم اليمامة : أن صلاة الخوف لكل طائفة ركعة وسجدتان .

واعتلّ قائلو هذه المقالة من الاَثار بما :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني أشعث بن أبي الشعثاء ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي ، قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان ، فقال : أيكم يحفظ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . فأقامنا خلفه صفّا وصفّ موازي العدوّ ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الركين بن الربيع ، عن القاسم بن حسان ، قال : سألت زيد بن ثابت عنه ، فحدثني بنحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأشعث ، عن الأسود بن هلال ، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي ، عن حذيفة بنحوه .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثني يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي الجهم ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد ، فصفّ الناس خلفه صفين : صفّا خلفه ، وصفّا موازي العدوّ¹ فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ، ولم يقضوا .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن أبي بكر بن صخير ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا المحاربي ، عن أيوب بن عائذ الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا يعقوب بن ماهان ، قال : حدثنا القاسم بن مالك ، عن أيوب بن عائذ الطائي ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صفّ بين يديه وصفّ خلفه ، فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ثم سلم ، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة .

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة ، حدثه عن زيادة بن نافع ، حدثه عن أبي موسى ، أن جابر بن عبد الله حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة ، لكل طائفة ركعة وسجدتين .

حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا سعيد بن عبد الهنائي ، قال : حدثنا عبد الله بن شقيق ، قال : حدثنا أبو هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان ، فقال المشركون : إن لهؤلاء صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم ، فميلوا عليهم ميلة واحدة ! وإن جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقسم أصحابه شطرين ، فيصلي بعضهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم ، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين .

وقال آخرون : عَنى به القَصْر في السفَر ، إلا أنه عنى به القصْر في شدّة الحرب وعند المسايفة ، فأبيح عند التحام الحرب للمصلى أن يركع ركعة إيماء برأسه حيث توجه بوجهه . قالوا : فذلك معنى قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } . . . الاَية ، قصر الصلاة إن لقيت العدوّ وقد حانت الصلاة أن تكبر الله وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الاَية قول من قال : عَنَى بالقْصر فيها القصر من حدودها ، وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها ، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها مستقبل القبلة فيها ومستدبرها وراكبا وماشيا ، وذلك في حال الشبكة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف ، وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى : { فإنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أوْ رُكبْانا } وأذن بالصلاة المكتوبة فيها راكبا إيماء بالركوع والسجود على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله : { وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا } لدلالة قول الله تعالى : { فإذَا اطْمأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصّلاةَ } على أن ذلك كذلك¹ لأن إقامتها إتمام حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبة في حال الخوف .

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك أمر من الله باتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف ، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم غير مقيم صلاته لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين ، فذلك قول إن قاله قائل مخالف لما عليه الأمة مجمعة من أن المسافر لا يستحقّ أن يقال له : إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها ، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين أنه غير مقيم صلاته . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفا من عدوّه أن يفتنه ، أن يقيم صلاته إذا اطمأنّ وزال الخوف ، كان معلوما أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة ، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف ، وإذ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة إقامة صلاته ، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة ترك إقامتها . وقد دللنا على أن ترك إقامتها ، إنما هو ترك حدودها على ما بينا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

{ وإذا ضربتم في الأرض } سافرتم . { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } بتنصيف ركعاتها ونفي الحرج فيه يدل على جوازه دون وجوبه ، ويؤيده أن عليه الصلاة والسلام أتم في السفر . وأن عائشة رضي الله تعالى عنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله قصرت وأتممت ، وصمت وأفطرت . فقال " أحسنت يا عائشة " . وأوجبه أبو حنيفة لقول عمر رضي الله تعالى عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ولقول عائشة رضي الله تعالى عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر . فظاهرهما يخالف الآية الكريمة فإن صحا فالأول مؤول بأنه كالتمام في الصحة والإجزاء ، والثاني لا ينفي جواز الزيادة فلا حاجة إلى تأويل الآية . بأنهم ألفوا الأربع فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن ركعتي السفر قصر ونقصان ، فسمي الإتيان بهما قصرا على ظنهم . ونفي الجناح فيه لتطيب به نفوسهم ، وأقل سفر تقصر فيه أربعة برد عندنا وستة عند أبي حنيفة .

قرئ { تقصروا } من أقصر بمعنى قصر ومن الصلاة صفة محذوف أي : شيئا من الصلاة عند سيبويه ، ومفعول تقصروا بزيادة عند الأخفش . { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا } شريطة باعتبار الغالب في ذلك الوقت ، ولذلك لم يعتبر مفهومها كما لم يعتبر في قوله تعالى : { فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وقد تظاهرت السنن على جوازه أيضا في حال الأمن . وقرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم بمعنى كراهة أن يفتنكم : وهو القتال والتعرض بما يكره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

{ ضربتم } معناه : سافرتم . فأهل الظاهر يرون القصر في كل سفر يخرج عن الحاضرة ، وهي من حيث تؤتى الجمعة ، وهذا قول ضعيف{[4246]} ، واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن راهويه : تقتصر الصلاة في أربعة برد ، وذلك ثمانية وأربعون ميلاً . وحجتهم أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، وقال الحسن والزهري : تقصر الصلاة في مسيرة يومين ولم يذكرا أميالاً ، وروي هذا القول عن مالك ، وروي عنه أيضاً : تقصر الصلاة في يوم وليلة وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى ، وروي عن ابن عباس وابن عمر : أن الصلاة تقصر في مسيرة يوم التام ، وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلاً ، وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على مسيرة خمسة وأربعين ميلاً ، قال : يقصر ، وعن ابن القاسم في العتبية : أن قصر في ستة وثلاثين فلا إعادة عليه ، وقال يحيى بن عمر : يعيد أبداً ، وقال ابن عبد الحكم : في الوقت ، وقال ابن مسعود وسفيان والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن : من سافر مسيرة ثلاث قصر . قال أبو حنيفة : ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام وروي عن أنس بن مالك : أنه قصر في خمسة عشر ميلاً ، قال الأوزاعي : عامة العلماء في القصر في مسيرة اليوم التام ، وبه نأخذ .

واختلف الناس في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وحياء نفس ، واختلف الناس فيما سوى ذلك ، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح ، كالتجارة ونحوها ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وقال عطاء لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير ، وقد روي عن عطاء أنها تقصر في كل المباح ، والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية ، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما ، وروي عن الأوزاعي وأبي حنيفة إباحة القصر في جميع ذلك . وجمهور العلماء على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية ، وحينئذ هو ضارب في الأرض ، وهو قول مالك في المدونة وابن حبيب وجماعة المذهب ، قال ابن القاسم في المدونة : ولم يحد لنا مالك في القرب حداً ، وروي عن مالك إذا كانت قرية يجمع أهلها فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة أميال ؛ وإلى ذلك في الرجوع ، وإن كانت لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بساتينها ، وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله ، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود ، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى وروي عن مجاهد أنه قال : لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل ، وهو شاذ ، وقد ثبت ( أن النبي عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعاً ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ){[4247]} ، وليس بينهما ثلث يوم ، ويظهر من قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا } أن القصر مباح أو مخير فيه ، وقد روى ابن وهب عن مالك : أن المسافر مخير ، وقاله الأبهري ، وعليه حذاق المذهب ، وقال مالك في المبسوط : القصر سنة .

وهذا هو جمهور المذهب ، وعليه جواب المدونة بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره ، وقال محمد بن سحنون وإسماعيل القاضي : القصر فرض ، وبه قال حماد بن أبي سليمان ، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز ، وروي عن ابن عباس أنه قال : من صلى في السفر أربعاً فهو كمن صلى في الحضر ركعتين ، وحكى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب : أنه قال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ، وقد خاب من افترى ، ويؤيد هذا قول عائشة : فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر{[4248]} ، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى : { أن تقصروا } فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنين من أربع ، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنّا نضرب في الأرض فكيف نصلي ؟ فأنزل الله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم انقطع الكلام ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي عليه السلام ، فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، فهلا شددتم عليهم ، فقال قائل منهم : إن لهم أخرى في أثرها ، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } إلى آخر صلاة الخوف{[4249]} .

وذكر الطبري في سرد هذه المقالة حديث يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب ، إن الله تعالى يقول { إن خفتم } وقد أمن الناس ، فقال عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله عن ذلك فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته »{[4250]} ، قال الطبري : وهذا كله قول الحسن ، إلا أن قوله تعالى : { وإذا كنت } تؤذن بانقطاع ما بعدها مما قبلها ، فليس يترتب من لفظ الآية ، إلا أن القصر مشروط بالخوف ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا » - بسقوط { إن خفتم } وثبتت في مصحف عثمان رضي الله عنه ، وذهبت جماعة أخرى إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة القصر في السفر للخائف من العدو ، فمن كان آمناً فلا قصر له ، وروي عن عائشة أنها كانت تقول في السفر : أتموا صلاتكم ، فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر ، فقالت : إنه كان في حرب وكان يخاف ، وهل أنتم تخافون{[4251]} ؟ وقال عطاء : كان يتم الصلاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص ، وأتم عثمان بن عفان ، ولكن علل ذلك بعلل غير هذه ، وكذلك علل إتمام عائشة أيضاً بغير هذا وقال آخرون : القصر المباح في هذه الآية إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة ، والركعتان في السفر إنما هي تمام ، وقصرها أن تصير ركعة ، قال السدي : إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن يخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئاً ، ويكون للإمام ركعتان ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : ركعتان في السفر تمام غير قصر ، إنما القصر في صلاة المخافة يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة ، فتكون للإمام ركعتان ولهم ركعة ، ركعة{[4252]} ، وقال نحو هذا سعيد بن جبير وجابر بن عبد الله وكعب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاصي ذلك ، وروى ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة بكل طائفة ولم يقضوا{[4253]} ، وقال مجاهد عن ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة{[4254]} ، وروى جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم حارب خصفة وبني ثعلبة ، وروى أبو هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان{[4255]} .

وقال آخرون : هذه الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب ، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه ، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه ، إلى تكبيرتين ، إلى تكبيرة على ما تقدم من أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى : { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } [ البقرة : 239 ] ورجح الطبري هذا القول ، وقال : إنه يعادله قوله { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } أي بحدودها وهيئتها الكاملة ، وقرأ الجمهور «تَقصُروا » بفتح التاء وضم الصاد ، وروى الضبي عن أصحابه «تُقْصِروا » بضم التاء وكسر الصاد وسكون القاف وقرأ الزهري «تُقَصِّروا » بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد وشدها ، و { يفتنكم } معناه : يمتحنكم بالحمل عليكم وإشغال نفوسكم في صلاتكم ، ونحو هذا قول صاحب الحائط{[4256]} : لقد أصابتني في مالي هذا فتنة ، وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد ، وإلى هذا المعنى ترجع كيف تصرفت{[4257]} .

وعدو : وصف يجري على الواحد والجماعة ، و «مبين » مفعل من أبان ، المعنى : قد جلحوا{[4258]} في عداوتكم وراموكم كل مرام .

وقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } الآية قال جمهور الأمة : الآية خطاب للنبي عليه السلام ، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة ، وقال أبو يوسف وإسماعيل بن علية : الآية خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الصلاة بإمامة النبي عليه السلام لا عوض منها ، وغيره من الأمراء منه العوض فيصلي الناس بإمامين ، طائفة بعد طائفة ، ولا يحتاج إلى غير ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وكذلك جمهور العلماء على أن صلاة الخوف تصلى في الحضر إذا نزل الخوف ، وقال قوم : لا صلاة خوف في حضر ، وقاله في المذهب عبد الملك بن الماجشون ، وقال الطبري : { فأقمت لهم } معناه : حدودها وهيئتها ، ولم تقصر على ما أبيح قبل في حال المسايفة ، وقوله { فلتقم طائفة منهم معك } ، أمر بالانقسام ، أي وسائرهم وجاه العدو حذراً وتوقع حملته ، وأعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع ، وهي غزوة محارب وخصفة ، وفي بعض الروايات : أنها نزلت في ناحية عسفان وضجنان ، والعدو : خيل قريش ، عليها خالد بن الوليد ، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة هنا ؟ فقيل الطائفة المصلية ، وقيل : بل الحارسة .

قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يتناول الكل ، ولكن سلاح المصلين ما خف ، واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبي عليه السلام بأصحابه صلاة الخوف ، وبحسب ذلك اختلف الفقهاء .

فروى يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة{[4259]} أنه صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائماً وأتموا ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وروى القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل هذا الحديث بعينه ، إلا أنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلَّى بالطائفة الأخيرة ركعة ، سلم ، ثم قضت هي بعد سلامه ، وبهذا الحديث أخذ مالك رحمه الله في صلاة الخوف ، كان أولاً يميل إلى رواية يزيد بن رومان ، ثم رجع إلى رواية القاسم بن محمد بن أبي بكر{[4260]} .

وروى مجاهد وغيره عن ابن عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت على خلاف فيه{[4261]} : أن النبي عليه السلام صلَّى صلاة الخوف بعسفان والعدو في قبلته ، قال : فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقال المشركون : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، فقالوا : تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، قال : فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآيات ، وأخبره خبرهم ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف العسكر خلفه صفين ، ثم كبر فكبروا جميعاً ، ثم ركع فركعنا جميعاً ، ثم رفع فرفعنا جميعاً ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا سجد الآخرون في مكانهم ، ثم تقدموا إلى مصاف المتقدمين وتأخر المتقدمون إلى مصاف المتأخرين ، ثم ركع فركعوا جميعاً ، ثم رفع فرفعوا جميعاً ، ثم سجد النبي فسجد الصف الذي يليه ، فلما رفع سجد الآخرون ، ثم سلم فسلموا جميعاً ، ثم انصرفوا ، قال عبد الرزاق بن همام{[4262]} في مصنفه : وروى الثوري عن هشام مثل هذا ، إلا أنه قال : ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الآخرون فيسجدون في مصاف الأولين ، قال عبد الرزاق عن معمر عن خلاد بن عبد الرحمن عن مجاهد قال : لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف إلا مرتين ، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم ، ومرة بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة .

قال القاضي أبو محمد : وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه صلى صلاة الخوف في غير هذين الموطنين ، وذكر ابن عباس أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة خوف{[4263]} ، وروى عبد الله بن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك فصلى بهم النبي عليه السلام ركعة ، ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة في حين واحد ، وبهذه الصفة في صلاة الخوف أخذ أشهب رحمه الله ، ومشى على الأصل في أن لا يقضي أحد قبل زوال حكم الإمام ، فكذلك لا يبني ، ذكر هذا عن أشهب جماعة منهم ابن عبد البر وابن يونس وغيرهما ، وحكى اللخمي عنه : أن مذهبه أن يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم ينصرفون تجاه العدو ، وتأتي الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يسلم وتقوم التي معه تقضي ، فإذا فرغوا منه صاروا تجاه العدو ، وقضت الأخرى ، وهذه سنة رويت عن ابن مسعود ، ورجح ابن عبد البر القول بما روي عن ابن عمر ، وروي أن سهل بن أبي حثمة قد روي عنه مثل ما روي عن ابن عمر سواء ، وروى حذيفة حين حكى صلاة النبي عليه السلام في الخوف : أنه صلى بكل طائفة ركعة ، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئاً زائداً على ركعة ، وذكر ابن عبد البر وغيره عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ، فكانت لرسول الله أربع ، ولكل رجل ركعتان ، وبهذه كان يفتي الحسن بن أبي الحسن ، وهو قول يجيزه كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة ، وقال أصحاب الرأي : إذا كانت صلاة المغرب افتتح الإمام الصلاة ومعه طائفة ، وطائفة بإزاء العدو ، فيصلي بالتي معه ركعتين ، ثم يصيرون إلى إزاء العدو ، وتأتي الطائفة التي صلت مع الإمام ركعتين إلى مقامهم الأول في الصلاة ، فيقضون ركعة وسجدتين وحداناً ويسلمون ، ثم يجيئون إلى إزاء العدو ، وتنصرف الطائفة الأخرى إلى مقام الصلاة ، فيقضون ركعتين بقراءة وحداناً ويسلمون ، وكملت صلاتهم .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : وهذا طرد قول أصحاب الرأي في سائر الصلوات ، سأل مروان بن الحكم أبا هريرة ، هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ قال أبو هريرة : نعم ، قال مروان : متى ؟ قال أبو هريرة : عام غزوة نجد ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة ، وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبر رسول الله وكبروا جميعاً ، الذين معه والذين بإزاء العدو ثم ركع رسول الله وركع معه الذين معه وسجدوا كذلك ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت الطائفة التي كانت معه إلى إزاء العدو وأقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ركعة أخرى وركعوا معه وسجدوا فسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت بإزاء العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله قاعد ثم كان السلام فسلم رسول الله وسلموا جميعاً . وأسند أبو داود في مصنفه عن عائشة رضي الله عنها صفة في صلاة النبي صلاة الخوف تقرب مما روي عن أبي هريرة وتخالفها في أشياء إلا أنها صفة صلاة الخوف من لدن قول أبي يوسف وابن علية أحد عشر قولاً منع صلاة الخوف لكونها خاصة النبي صلى الله عليه وسلم وعشر صفات على القول الشهير فإنها باقية للأمراء .


[4246]:- هذا هو رأي (داود)، وقد استند فيه إلى ما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: (سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاث أميال أو ثلاث فراسخ (شعبة الشاك) صلى ركعتين، قال القرطبي: "وهذا لا حجة فيه، لأنه مشكوك فيه- وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر، وكان سفرا طويلا زائدا على ذلك" اهـ.
[4247]:- رواه مسلم عن أنس بن مالك في كتاب: "صلاة المسافرين وقصرها".
[4248]:- رواه مسلم عن عائشة من طريق: يحيى بن يحيى: ومن طريق أبي الطاهر في "كتاب صلاة المسافرين وقصرها"، وأخرجه مالك، والبخاري، وعبد بن حميد.
[4249]:- أخرجه ابن جرير عن علي، (تفسير الطبري، والدر المنثور).
[4250]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم. (الدر المنثور).
[4251]:- أخرجه ابن جرير من طريق عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق. (الدر المنثور).
[4252]:- أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عن سماك الحنفي. (الدر المنثور).
[4253]:- أخرج الحديث عن ابن عباس-عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، عبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه، و"ذي قرد": بفتح القاف والراء، وقيل: بضمهما، وقيل: بضم القاف وفتح الراء، قال البلاذري: الصواب الأول.
[4254]:- رواه مسلم في كتاب: "صلاة المسافرين وقصرها"
[4255]:- الحديث رواه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، ابن أبي حاتم عن مجاهد، ورواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة، (راجع تفسير الطبري، 5/ 244 ومشكاة المصابيح باب "صلاة الخوف"، والدر المنثور 2/210). وضجنان كسكران: جبل قرب مكة، وآخر بالبادية كما قال في "القاموس". وعُسفان كعثمان: موضع على مرحلتين من مكة.
[4256]:- الحائط: البستان.
[4257]:- قال الفراء: أهل المجاز يقولون: فتنت الرجل، وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون: أفتنت الرجل. وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته: جعلت فيه فتنة مثل أكحلته، وأفتنته: جعلته مفتتنا وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته.
[4258]:- جلح في عداوته: كاشفه بها.
[4259]:- سهل بن أبي حثمة بسكون الثاء: الأنصاري الأوسي، كان له سبع سنين أو ثمان سنين عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حدّث عنه بأحاديث، وكذلك حدث عن زيد بن ثابت، وروى عنه ابنه محمد، وابن أخيه محمد سليمان، وصالح بن خوت (أو ابن خوّات) كان أبوه دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، وشهد المشاهد كلها إلا بدرا. (الإصابة 4/ 271، 272).
[4260]:- حجة مالك في ذلك أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها، وأن السنة المجمع عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام-وقال الشافعي: حديث يزيد ابن رومان، عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف بظاهر كتاب الله، وبه أقول، وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده. (القرطبي 5/ 366).
[4261]:- قيل: زيد بن الصامت، وقيل: زيد بن النعمان الزرفي، مشهور بكنيته. (الإصابة 4/ 58).
[4262]:- عبد الرزاق بن همّام بن نافع الحميري، أبو بكر الصنعاني: من حفاظ الحديث الثقات، من أهل صنعاء، كان يحفظ نحوا من سبعة عشر ألف حديث، له "الجامع الكبير" في الحديث، قال الذهبي: وهو خزانة علم –توفي سنة 211هـ 827م. (تهذيب التهذيب- وابن خلكان، وطبقات الحنابلة).
[4263]:-اختلف العلماء في هيئة صلاة الخوف لاختلافها. ذكر ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشر مواضع، وقال ابن العربي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة، وقال الإمام أحمد بن حنبل، وهو إمام أهل الحديث، والمقدم في معرفة علل النقل فيه: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله، وكذلك قال أبو جعفر الطبري، (عن القرطبي 3/ 365).