قوله تعالى : { واعبدوا الله } أي : وحدوه وأطيعوه .
قوله تعالى : { ولا تشركوا به شيئاً } .
أخبرنا أبو حامد أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا علي أبو إسماعيل محمد بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأزدي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : حقه عليهم ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم . قال : قلت يا رسول الله ألا أبشر الناس قال : دعهم يعملون )
قوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً } . برأيهما ، وعطفاً عليهما .
قوله تعالى : { وذي القربى } . أي : أحسنوا بذي القربي .
قوله تعالى : { واليتامى والمساكين } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن زرارة ، أنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً ) . أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن مبارك ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مسح رأس يتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمر عليها يده حسنات ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ، وقرن بين أصبعيه .
قوله تعالى : { والجار ذي القربى } . أي : ذي القرابة .
قوله تعالى : { والجار الجنب } . أي : البعيد الذي ليس بينك وبينه قرابة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أنا عبد الله بن الجعد ، أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال : سمعت طلحة قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ( يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال : إلى أقربهما منك باباً ) .
أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا يزيد بن سنان ، أخبرنا عثمان بن عمر ، أخبرنا أبو عامر الخراز ، عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وإذا طبخت مرقةً فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا محمد بن منهال ، أنا يزيد بن زريع ، أنا عمرو بن محمد ، عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) .
قوله تعالى : { والصاحب بالجنب } . يعني : الرفيق في السفر ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وقتادة ، وقال علي وعبد الله والنخعي : هو المرأة ، تكون معه إلى جنبه ، وقال ابن جريج وابن زيد : هو الذي يصحبك رجاء نفعك .
قوله تعالى : { وابن السبيل } ، قيل : هو المسافر لأنه ملازم للسبيل ، والأكثرون : على أنه الضيف .
أخبرنا الأستاذ الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفرايني ، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق ، أنا شعيب ، عن عمرو الدمشقي ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار أنه سمع نافع بن جبير عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، جائزته يوم وليلة ، والضيافة ثلاثة أيام ، وما كان بعد ذلك فهو صدقة ، ولا يحل أن يثوي أي : أن يقيم عنده حتى يخرجه ) .
قوله تعالى : { وما ملكت أيمانكم } ، أي : المماليك أحسنوا إليهم .
أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو العباس الطحان ، أنا أبو أحمد بن محمد بن قريش ، أنا علي بن عبد العزيز المكي ، أنا أبو عبيدة القاسم ابن سلام ، أنا يزيد ، عن همام عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن سفينة عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرض موته ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) . فجعل يتكلم وما يفيض بها لسانه .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمرو بن حفص ، أنا أبي ، أنا الأعمش عن المعرور عن أبي ذر رضي الله عنه قال : رأيت أبا ذر وعليه برد وعلى غلامه برد ، فقلت : لو أخذت هذا فلبسته كان حلةً وأعطيته ثوباً آخر ، فقال : كان بيني وبين رجل كلام ، وكانت أمه أعجمية ، فنلت منها ، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي " ساببت فلاناً ؟ قلت : نعم ، قال : أفنلت أمه ؟ قلت : نعم ، قال : إنك امرؤ فيك جاهلية ، قلت : على ساعتي هذه من كبر السن ؟ قال : نعم ، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين محمد القاضي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمرو بن حفص التاجر ، أنا سهل بن عمار ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا صدقة بن موسى ، عن فرقد السنجي ، عن مرة الطيب ، عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة سيء الملكة ) .
قوله تعالى : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } . المختال : المتكبر ، والفخور : الذي يفخر على الناس بغير الحق تكبراً ، ذكر هذا بعدما ذكر من الحقوق ، لأن المتكبر يمنع الحق تكبراً .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسن القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام ابن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بينما رجل يتبختر في بردين وقد أعجبته نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة ) .
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا }
يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، وهو الدخول تحت رق عبوديته ، والانقياد لأوامره ونواهيه ، محبة وذلا وإخلاصا له ، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة .
وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر ، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد . ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب . فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما . وللإحسان ضدان ، الإساءةُ وعدمُ الإحسان . وكلاهما منهي عنه .
{ وَبِذِي الْقُرْبَى } أيضا إحسانا ، ويشمل ذلك جميع الأقارب ، قربوا أو بعدوا ، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل ، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله .
{ وَالْيَتَامَى } أي : الذين فقدوا آباءهم{[208]} وهم صغار ، فلهم حق على المسلمين ، سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم ، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم .
{ وَالْمَسَاكِين } وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر ، فلم يحصلوا على كفايتهم ، ولا كفاية من يمونون ، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم ، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم ، والحض على ذلك ، والقيام بما يمكن منه .
{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } أي : الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة ، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف . { و } كذلك { الْجَارِ الْجُنُبِ } أي : الذي ليس له قرابة . وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا ، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل .
{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قيل : الرفيق في السفر ، وقيل : الزوجة ، وقيل الصاحب مطلقا ، ولعله أولى ، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة . فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه ، من مساعدته على أمور دينه ودنياه ، والنصح له ؛ والوفاء معه في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، وأن يحب له ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد .
{ وَابْنَ السَّبِيلِ } وهو : الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج ، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [ وبإكرامه وتأنيسه ]{[209]} .
{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } : أي : من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون ، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم . فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه ، المتواضع لعباد الله ، المنقاد لأمر الله وشرعه ، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل ، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه ، غير منقاد لأوامره ، ولا متواضع للخلق ، بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله ، ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا } أي : معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق { فَخُورًا } يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله .
{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } صنما أو غيره ، أو شيئا من الإشراك جليا أو خفيا { وبالوالدين إحسانا } وأحسنوا بهما إحسانا . { وبذي القربى } وبصاحب القرابة . { واليتامى والمساكين والجار ذي القربى } أي الذي قرب جواره . وقيل الذي له الجوار قرب واتصال بسبب أو دين . وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه . { والجار الجنب } البعيد ، أو الذي لا قرابة له . وعنه عليه الصلاة والسلام : " الجيران ثلاثة . فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام . وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب " . { والصاحب بالجنب } الرفيق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر ، فإنه صحبك وحصل بجنبك . وقيل المرأة . { وابن السبيل } المسافر أو الضعيف . { وما ملكت أيمانكم } العبيد والإماء . { إن الله لا يحب من كان مختالا } متكبرا بأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم . { فخورا } يتفاخر عليهم .
عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء ، وقُدّم له الأمرُ بعبادة الله تعالى وعدمِ الإشراك على وجه الإدماج ، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم ، تجديداً لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قُدّم لذلك في طالع السورة بقوله : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } [ النساء : 1 ] . والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة .
والخطاب للمؤمنين ، قُدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك ، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله ، والاستزادة منها ، ونُهُوا عن الشرك تحذيراً ممّا كانوا عليه في الجاهلية . ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصْر ؛ إذ مفاده : اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي ، كأنّه قيل : لا تعبدوا إلاّ الله . والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل ، أو عبدِ الملك بن عبد الرحيم الحَارثي :
تَسيلُ على حَدّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا *** وليستْ على غَيْرِ الظُّبَات تَسيل
وإنّما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات ، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له ، لأنّه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضَى المقام هنا ، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تبعدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً } [ البقرة : 83 ] الآية ، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله ، لأنّهم قالوا لموسى : « اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة » ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربَّه ، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله .
وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يُقتلون في الحرب ، فتزهق نفوسهم بالسيوف ، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغةَ فيها .
و { شيئاً } منصوب على المفعولية ل ( تُشركوا ) أي لا تجعلوا شريكاً شيئاً ممّا يعبد كقوله : { ولن نشرك بربنا أحداً } [ الجن : 2 ] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد ، أي شيئاً من الإشراك ولو ضعيفاً كقوله : { فلن يضروك شيئاً } [ المائدة : 42 ] .
وقوله : { وبالوالدين إحسانا } اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة ، كقوله : { أن اشكر لى ولوالديك } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه } [ لقمان : 13 ، 14 ] ، ولذا قدّم معمول ( إحساناً ) عليه تقديماً للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء ، ووقع المصدر موقع الفعل . وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ . وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا . وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها ، وهو معنى البرّ ولذلك جاء « وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن » ؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى ، تقول : أحْسَنَ إلى فلان ، إذا وصله بمال ونحوه .
{ وذُو القربى } صاحب القرابة ، والقربى فُعلى ، اسم للقُرب مصدرِ قَرُب كالرجعي ، والمراد بها قرابة النسب ، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي : وهو قولهم : ذو القربى ، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب ، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل . وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم ؛ قال ارطأة بن سهية :
ونحو بنو عمّ على ذاكَ بيننا *** زَرَابِيّ فيها بِغْضَةٌ وتَنَافُس
وحسبك ما كان بين بَكر وتغلب في حرب البَسُوس ، وهما أقارب وأصهار ، وقد كان المسلمون يومَها عَرَبا قَريبي عهد بالجاهلية ؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة . وكانوا يحسنون بالجار ، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه ، وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف . ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { وذي القربى } [ البقرة : 83 ] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره . وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه ، وآمِن من غوائله ، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم ، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ ، وتَدينها الشدّة ، لنفس لَئيمة ، وكما ورد « شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه » فكذلك نقول : « شرّ الناس من عَظَّم أحداً لشرّه » .
وقوله : { واليتامى والمساكين } هذان صنفان ضعيفان عديما النصير ، فلذلك أوصي بهما .
والجار هو النزيل بقرب منزلك ، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها ، فالمراد ب { الجار ذي القربى } الجار النسيب من القبيلة ، وب { الجار الجنب } الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة ، فهو جُنُب ، أي بعيد ، مشتقّ من الجَانب ، وهو وصف على وزن فُعُل ، كقولهم : ناقة أجُد ، وقيل : هو مصدر ، ولذلك لم يُطابق موصوفه ، قال بَلْعَاء بن قيس :
لا يجتوينا مُجَاور أبداً *** ذُو رحم أو مُجَاور جُنُب
ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني ، ليطلق له أخاه شَاسا ، حين وقع في أسر الحارث :
فلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عن جَنَابَةٍ *** فإنِّي امرؤٌ وَسْط القباب غريب
وفسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار ، والجُنُبُ بعيدها ، وهذا بعيد ، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني ، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار ، وأقوالهم في ذلك كثيرة ، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق ، ومن ذلك الإحسان إلى الجار .
وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة : ففي « البخاري » عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه " . وفيه عن أبي شريح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول : " والله لاَ يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن " . قيل : « ومن يا رسول الله » قال : " من لا يأمن جارُه بوائقه " وفيه عن عائشة ، قلت : « يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي » قال " إلى أقربهما منك بابا " وفي « صحيح مسلم » : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ " إذا طبخت مَرَقة فأكْثِر ماءها وتعاهده جيرانك " . واختلف في حدّ الجوار : فقال ابن شهاب ، والأوزاعي : أربعون داراً من كلّ ناحية ، وروي في ذلك حديث : وليس عن مالك في ذلك حدّ ، والظاهر أنّه موكول إلى ما تعارفه الناس .
وقوله : { والصاحب بالجنب } هو المصاحب الملازم للمكان ، فمنه الضيف ، ومنه الرفيق في السفر ، وكلّ من هو مُلمّ بك لطلب أن تنفعه ، وقيل : أراد الزوجة .
{ وابن السبيل } هو الغريب المجتاز بقوم غيرَ نَاو الإقامة ، لأنّ من أقام فهو الجار الجُنب . وكلمة ( ابن ) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص ، كقولهم : أبو الليل ، وقولهم في المثل : أبوها وكيَّالُها . والسبيل : الطريق السابلة ، فابن السبيل هو الذي لازمَ الطريق سائراً ، أي مسافراً ، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها ، فعرَّفوه بأنه ابن الطريق ، رمى به الطريق إليهم ، فكأنّه وَلَدَه . والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة ، قليل النصير ، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه ، وبلد غير بلده .
وكذلك { ما ملكت أيمانكم } لأنّ العبيد في ضعف الرقّ والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم ، فلذلك كانوا أحقّاء بالوصاية .
وجملة : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سمّاهم بذمّ موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر . والاختيال : التكبّر ، افتعال مشتقّ من الخُيَلاء ، يقال : خالَ الرجلُ خَوْلا وخَالا . والفخور : الشديد الفخر بما فعل ، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء ، فهما ينافيان الإحسان المأمور به ، لأنّ المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفّع على من يظنّ به سبب يمنعه من الانتقام .
ومعنى نفي محبّة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمّن هذا وصفه ، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك ، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء ، فهو في معنى التحذير من بَقايا الأخلاق التي كانوا عليها .