قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } . الآية ، نزلت في عمر بن الخطاب ، ومعاذ بن جبل ، ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر أفتنا في الخمر والميسر ؟ فإنهما مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فأنزل الله هذه الآية . وجملة القول في تحريم الخمر على ما قال المفسرون ، أن الله تعالى أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وهي : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً ) فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذ ، ثم نزلت في مسألة عمر ومعاذ بن جبل .
قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير } . فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد تقدم في تحريم الخمر " فتركها قوم لقوله :
قوله تعالى : { إثم كبير } . وشربها قوم لقوله :
قوله تعالى : { ومنافع للناس } . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعا ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا ، وحضرت صلاة المغرب فقدموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، هكذا إلى آخر السورة بحذف " لا " فأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) فحرم السكر في أوقات الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية تركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة ، وتركها قوم في أوقات الصلاة ، وشربوها في غير حين الصلاة ، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر ، واتخذ عتبان بن مالك صنيعاً ، ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص ، وكان قد شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ، ثم إنهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار ، فانشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار وفخر لقومه ، فأخذ رجل من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحه . فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري ، فقال عمر : اللهم بين لنا رأيك في الخمر بياناً شافياً ؟ ، فأنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة . إلى قوله ( فهل أنتم منتهون ) وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام ، فقال عمر رضي الله عنه . انتهينا يا رب .
قال أنس حرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرم عليهم شيئاً أشد من الخمر . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما نزلت الآية في سورة المائدة حرمت الخمر ، فخرجنا بالحباب إلى الطريق فمنا من كسر جبه ، ومنا غسله بالماء والطين ، ولعله غودرت أزقة المدينة بعد ذلك حيناً ، فلما مطرت استبان فيها لون الخمر ، وفاحت منها ريحها .
وعن أنس رضي الله عنه ، سميت الخمر خمرا لأنهم كانوا يدعونها في الدنان حتى تختمر وتتغير ، وعن ابن المسيب لأنها تركت حتى صفا لونها ، ورسب كدرها .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم ، أخبرنا ابن علية ، أخبرنا عبد العزيز بن صهيب قال : قال لي أنس بن مالك . ما كان لنا خمر غير فضيخكم ، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : حرمت الخمر . فقالوا : أهرق هذه القلائل يا أنس ، قال : فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل .
واختلف الفقهاء في ماهية الخمر ، فقال قوم : هي عصير العنب أو الرطب الذي اشتد وغلا من غير عمل النار فيه ، واتفقت الأئمة على أن هذا الخمر نجس يحد شاربها ، ويفسق ويكفر مستحلها ، وذهب سفيان الثوري ، وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعدى هذا ، ولا يحرم ما يتخذ من غيرهما كالمتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانيذ ، إلا أن يسكر منه فيحرم ، وقالوا إذا طبخ عصير العنب والرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال ولكنه يكره ، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه قالوا : هو حلال مباح شربه إلا أن السكر منه حرام ، ويحتجون بما روي أن عمر بن الخطاب كتب إلى بعض عماله أن أرزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه . ورأى أبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث . وقال قوم : إذا طبخ العصير أدنى طبخ صار حلالاً ، وهو قول إسماعيل بن علية . وذهب أكثر أهل العلم إلى أن كل شراب أسكر كثيره فهو خمر ، وقليله حرام يحد شاربه . واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " .
أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن أبي سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج أنا أبو الربيع العتكي ، أخبرنا حماد بن زيد ، عن أيوب بن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو مدمنها ولم يتب لم يشربها في الآخرة " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا أحمد بن أبي رجاء ، أنا يحيى عن أبي حيان ، عن الشعبي عن ابن عمر قال : خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنه قد نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة أشياء : من العنب والتمر ، والحنطة والشعير والعسل ، والخمر ما خامر العقل .
وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً " .
فثبت أن الخمر لا يختص بما يتخذ من العنب أو الرطب .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال : إني وجدت من فلان ريح خمر أو شراب ، وزعم أنه شرب الطلاء ، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته ، فجلده عمر الحد تاماً .
وما روى عن عمر ، وأبي عبيدة ومعاذ في الطلاء فهو فيما طبخ حتى خرج عن أن يكون مسكراً .
سئل ابن عباس عن الباذق فقال : سبق حكم محمد الباذق ، فما أسكر فهو حرام .
قوله تعالى : { والميسر } . يعني القمار ، قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والميسر : مفعل من قولهم يسر لي الشيء إذا وجب بيسر يسراً وميسراً ، ثم قيل للقمار ميسر ، وللمقامر ياسر ويسر ، وكان أصل الميسر في الجزور وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزوراً فينحرونها ، ويجزؤونها عشرة أجزاء ، ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الأزلام والأقلام السبعة ، منها أنصباء وهي : الفذ وله نصيب واحد ، والتوأم وله نصيبان ، والرقيب وله ثلاثة أسهم ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسبل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، وثلاثة منها : لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد ، ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدي رجل عدل عندهم يسمى المحيل والنفيض ، ثم يحيلها ويخرج قدحاً منها باسم رجل منهم ، فأيهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج ، فإن خرج له واحد من الثلاثة التي لا أنصباء لها كان يأخذ شيئاً ، ويغرم ثمن الجزور كله . وقال بعضهم : كان لا يأخذ شيئاً ولا يغرم ، ويكون ذلك القدح لغواً ، ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك ويسمونه البرم ، وهو أصل القمار الذي كانت تفعله العرب . والمراد من الآية أنواع القمار كلها ، قال طاووس وعطاء ومجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر . حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب ، وروي عن علي رضي الله عنه في النرد والشطرنج أنهما من الميسر .
قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } . وزر عظيم من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش ، قرأ حمزة والكسائي إثم كثير بالثاء المثلثة وقرأ الباقون بالباء فالإثم في الخمر والميسر ما ذكره الله في سورة المائدة . ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) .
قوله تعالى : { ومنافع للناس } . فمنفعة الخمر اللذة عند شربها والفرح ، واستمراء الطعام ، وما يصيبون من الربح بالتجارة فيها ، ومنفعة الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب ، وارتفاق الفقراء به . والإثم فيه أنه إذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه فقصده بالسوء .
قوله تعالى : { وإثمهما أكبر من نفعهما } . قال الضحاك وغيره : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ، وقيل : إثمهما أكبر من نفعهما قبل التحريم وهو ما يحصل من العداوة والبغضاء .
قوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق ؟ فقال :
قوله تعالى : { قل العفو } . قرأ أبو عمرو والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق " العفو " بالرفع ، معناه : الذي ينفقون هو العفو . وقرأ الآخرون بالنصب ، على معنى ، قل : أنفقوا العفو . واختلفوا في معنى العفو ، فقال قتادة وعطاء والسدي : هو ما فضل عن الحاجة ، وكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة ، ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية ، ثم نسخ بآية الزكاة . وقال مجاهد : معناه : التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلاً على الناس .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد ابن مخمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ، أنا إبراهيم ابن عبد الله بن عمر الكوفي ، أنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " .
وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال الله تعالى ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) وقال طاووس : ما يسر ، والعفو : اليسر من كل شيء ومنه قوله تعالى ( خذ العفو ) أي الميسور من أخلاق الناس . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع بن سليمان ، أخبرنا الشافعي أنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله عندي دينار ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أنفقه على نفسك قال : عندي آخر قال : أنفقه على ولدك قال : عندي آخر ؟ قال : أنفقه على أهلك قال : عندي آخر قال : أنفقه على خادمك ، قال : عندي آخر قال : أنت أعلم .
قوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات } . قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة ، لأن الجماعة معناها القبيل كأنه قال : كذلك أيها القبيل ، وقيل : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه خطاب يشتمل على خطاب الأمة كقوله تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) .
ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : يسألك - يا أيها الرسول - المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر ، وقد كانا مستعملين في الجاهلية وأول الإسلام ، فكأنه وقع فيهما إشكال ، فلهذا سألوا عن حكمهما ، فأمر الله تعالى نبيه ، أن يبين لهم منافعهما ومضارهما ، ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما ، وتحتيم تركهما .
فأخبر أن إثمهما ومضارهما ، وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال ، والصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، والعداوة ، والبغضاء - أكبر مما يظنونه من نفعهما ، من كسب المال بالتجارة بالخمر ، وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس ، عند تعاطيهما ، وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما ، لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته ، ويجتنب ما ترجحت مضرته ، ولكن لما كانوا قد ألفوهما ، وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة ، قدم هذه الآية ، مقدمة للتحريم ، الذي ذكره في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } إلى قوله : { مُنْتَهُونَ } وهذا من لطفه ورحمته وحكمته ، ولهذا لما نزلت ، قال عمر رضي الله عنه : انتهينا انتهينا .
فأما الخمر : فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه ، من أي نوع كان ، وأما الميسر : فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين ، من النرد ، والشطرنج ، وكل مغالبة قولية أو فعلية ، بعوض{[137]} سوى مسابقة الخيل ، والإبل ، والسهام ، فإنها مباحة ، لكونها معينة على الجهاد ، فلهذا رخص فيها الشارع .
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ }
وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم ، فيسر الله لهم الأمر ، وأمرهم أن ينفقوا العفو ، وهو المتيسر من أموالهم ، الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم ، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه ، من غني وفقير ومتوسط ، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ، ولو شق تمرة .
ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم ، ولا يكلفهم ما يشق عليهم . ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا ، أو تكليفا لنا [ بما يشق ]{[138]} بل أمرنا بما فيه سعادتنا ، وما يسهل علينا ، وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد .
قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر أنَّه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ]{[3785]} } فدُعي عمر فقرئتْ عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [ النساء : 43 ] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ . فدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في المائدة . فدعي عمر ، فقرئت عليه ، فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ؟ قال عمر : انتهينا ، انتهينا{[3786]} .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق{[3787]} . وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدويه من طريق الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، واسمه عمرو بن شُرَحْبِيل الهَمْداني الكوفي ، عن عمر . وليس له عنه سواه ، لكن قال أبو زُرْعَة : لم يسمع منه . والله أعلم . وقال علي بن المديني : هذا إسناد صالح وصحّحه الترمذي . وزاد ابن أبي حاتم - بعد قوله : انتهينا - : إنها تذهب المال وتذهب العقل . وسيأتي هذا الحديث أيضا مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضًا{[3788]} - عند قوله في سورة المائدة : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] الآيات .
فقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : إنه كل ما خامر العقل . كما سيأتي بيانُه في سورة المائدة ، وكذا الميسر ، وهو القمار .
وقوله : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أما إثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية ، من حيث إن{[3789]} فيها نفع البدن ، وتهضيم الطعام ، وإخراجَ الفضلات ، وتشحيذ بعض الأذهان ، ولذّة الشدّة المطربة التي فيها ، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته :
ونشربها فتتركنا ملوكًا *** وأسْدًا لا يُنَهْنهها اللقاءُ
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها . وما كان يُقَمِّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله . ولكن هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الراجحة ، لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ؛ ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرضة ؛ ولهذا قال عمر ، رضي الله عنه ، لما قرئت عليه : اللهم بَين لنا في الخمر بيانًا شافيًا ، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [ المائدة : 90 ، 91 ] وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله ، وبه الثقة .
قال ابن عمر ، والشعبي ، ومجاهد ، وقتادة ، والرّبيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه{[3790]} أوّل آية نزلت في الخمر : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ]{[3791]} } ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ، ثم التي في المائدة ، فحرمت الخمر{[3792]} .
وقوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قُرئ بالنصب وبالرفع {[3793]} وكلاهما حسن متَّجَه قريب .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى أنه بلغه : أنّ معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله ، إن لنا أرقاء وأهلين [ فما ننفق ]{[3794]} من أموالنا . فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ }{[3795]} .
وقال الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال : ما يفضل عن أهلك .
وكذا روي عن ابن عمر ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب ، والحسن ، وقتادة ، والقاسم ، وسالم ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، وغير واحد : أنهم قالوا في قوله : { قُلِ الْعَفْوَ } يعني الفضل .
وعن طاوس : اليسير من كل شيء ، وعن الربيع أيضًا : أفضل مالك ، وأطيبه . والكل يرجع إلى الفضل .
وقال عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هوذة بن خليفة ، عن عوف ، عن الحسن : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } قال : ذلك ألا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس .
ويدل على ذلك ما رواه ابنُ جرير : حدثنا علي بن مسلم ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن عَجْلان ، عن المَقْبُريّ ، عن أبي هريرة قال : قال رجل : يا رسول الله ، عندي دينار ؟ قال : " أنفقه على نفسك " . قال : عندي آخر ؟ قال : " أنفقه على أهلك " . قال : عندي آخر ؟ قال : " أنفقه على ولدك " . قال : عندي آخر ؟ قال : " فأنت أبصَرُ " .
وقد رواه مسلم في صحيحه{[3796]} . وأخرج مسلم أيضًا عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فَضَل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " {[3797]} .
وعنده عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصدقة ما كان عن ظَهْر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " {[3798]} .
وفي الحديث أيضًا : " ابن آدم ، إنك إن تبذُل الفضلَ خيرٌ لك ، وإن تمسكه شر لك ، ولا تُلام على كَفَافٍ " {[3799]} .
ثم قد قيل : إنها منسوخة بآية الزكاة ، كما رواه علي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس ، وقاله عطاء الخراساني والسدي ، وقيل : مبينة بآية الزكاة ، قاله مجاهد وغيره ، وهو أوجه .
وقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : كما فصَّل لكم هذه الأحكام وبينَها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ، ووعيده ، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الآخرة وبقائها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي ، حدثنا أبو أسامة ، عن الصعَّق العيشي{[3800]} قال : شهدت الحسن –
وقرأ هذه الآية من البقرة : { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } قال : هي والله لمن تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ، ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ، ثم دار بقاء .
وهكذا قال قتادة ، وابن جُرَيْج ، وغيرهما .
وقال عبد الرزاق عن مَعْمَر ، عن قتادة : لتعلموا فضل الآخرة على الدنيا . وفي رواية عن قتادة : فآثرُوا الآخرة على الأولى .
[ وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [ آل عمران : 190 ] آثارًا كثيرة عن السلف في معنى التفكر والاعتبار ]{[3801]} .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ ) يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشربها . والخمر : كل شراب خامر العقل فستره وغطى عليه ، وهو من قول القائل : خَمَرت الإناء إذا غطيته ، وخَمِرَ الرجل : إذا دخل في الخَمَرِ ، ويقال : هو في خُمار الناس وغُمارهم ، يراد به : دخل في عُرض الناس ، ويقال للضبع : خامري أم عامر ، أي استتري . وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر ، ومن ذلك أيضا خِمار المرأة ، وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه ، ومنه يقال : هو يمشي لك الخَمَر ، أي مستخفيا ، كما قال العجاج :
فِي لامِعِ الِعقْبانِ لا يأتي الخَمَرْ *** يُوجّهُ الأرْضَ ويَسْتاقُ الشّجَرْ
ويعني بقوله : لا يأتي الخمر : لا يأتي مستخفيا ولا مسارقة ، ولكن ظاهرا برايات وجيوش والعقبان جمع عقاب ، وهي الرايات .
وأما «الميسر » فإنها «المفعِل » من قول القائل : يسَر لي هذا الأمر : إذا وجب لي فهو يَيْسِر لي يَسَرا ومَيْسِرا ، والياسر : الواجب ، بقداح وجب ذلك أو مباحه أو غير ذلك ، ثم قيل للمقامر : ياسر ، ويَسَر ، كما قال الشاعر :
فَبِتّ كأنّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ *** يُقَلّبُ بَعْدَما اخْتُلِعَ القِدَاحا
أوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِه *** أسِفٌ تآكَلَهُ الصّديقُ مُخَلّعُ
يعني بالياسر : المقامر ، وقيل للقمار : ميسر ، وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : يَسألُونَكَ عَن الخَمْرِ وَالمَيْسِر قال : القمار ، وإنما سمي الميسر لقولهم أيسروا واجزروا ، كقولك ضع كذا وكذا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كل القمار من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، قال : قال عبد الله : إياكم وهذه الكعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرا فإنهن من الميسر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، مثله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن نافع ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله أنه قال : إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زجرا ، فإنها من الميسر .
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين ، قال : القمار : ميسر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن محمد بن سيرين ، قال : كل شيء له خطر ، أو في خطر أبو عامر شك فهو من الميسر .
حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين ، قال : كل قمار ميسر حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، قال : كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا الأشعث ، عن الحسن ، أنه قال : الميسر : القمار .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا المعتمر ، عن ليث ، عن طاوس وعطاء قالا : كل قمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، قال : الميسر : القمار .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، عن عبيد الله قال : إياكم وهاتين الكعبتين يزجر بهما زجرا فإنهما من الميسر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : أما قوله والميسر ، فهو القمار كله .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد : النرد : ميسر ، أرأيت الشطرنج ميسر هو ؟ فقال القاسم : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو ميسر .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الميسر : القمار ، كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله ، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : الميسر القمار .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : الميسر القمار .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الليث ، عن مجاهد وسعيد بن جبير ، قالا : الميسر : القمار كله ، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : سمعت عبيد بن سليمان يحدث عن الضحاك قوله : الميسر : قال : القمار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الميسر : القمار .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ، قال : حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع أن ابن عمر كان يقول : القمار من الميسر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الميسر قداح العرب ، وكعاب فارس . قال : وقال ابن جريج ، وزعم عطاء بن ميسرة أن الميسر : القمار كله .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : قال مكحول : الميسر : القمار .
حدثنا الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الميسر : القمار .
وأما قوله : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهم فيهما ، يعني في الخمر والميسر إثم كبير . فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس . وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ قال : هذا أول ما عيبت به الخمر .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها .
والذي هو أولى بتأويل الآية ، الإثم الكبير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر ، فالخمر ما قاله السدي : زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه ، وذلك أعظم الاَثام ، وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله . وأما في الميسر فما فيه من الشغل به عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه ، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله : إنّمَا يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصّلاةِ .
وأما قوله : وَمَنافِعُ للنّاسِ فإن منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها ، وما يصلون إليه بشربها من اللذة ، كما قال الأعشى في صفتها :
لنَا مِنْ ضُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبَةٌ **** وَذِكْرَى هَمُومٍ ما تَفُكّ أذَاتُها
وَعِندَ العِشاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذّةٌ *** ومالٌ كَثِيرٌ عِدّةٌ نَشَوَاتُها
فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكا *** وأُسْدا ما يُنَهْنِهُنا اللّقاءُ
وأما منافع الميسر فيما يصيبون فيه من أنصباء الجزور ، وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور ، وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره ، ثم اقتسموا أعشارا على عدد القداح ، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة :
وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ إلى النّدَى *** ونِياطِ مُقْفِرَةٍ أخافُ ضَلاَلهَا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المنافع ههنا : ما يصيبون من الجزور .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما منافعهما فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه ، ومنفعة الميسر فيما يصاب من القمار .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال : منافعهما قبل أن يحرّما .
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَمَنافعُ للنّاسِ قال : يقول فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عظم أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ بالباء ، بمعنى : قل في شرب هذه والقمار هذا كبير من الاَثام . وقرأه آخرون من أهل المصرين ، البصرة والكوفة : «قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ » بمعنى الكثرة من الاَثام ، وكأنهم رأوا أن الإثم بمعنى الاَثام ، وإن كان في اللفظ واحدا فوصفوه بمعناه من الكثرة .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالباء : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ لإجماع جميعهم على قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وقراءته بالباء وفي ذلك دلالة بينة على أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر ، لا الكثرة في العدد . ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة ، لقيل وإثمهما أكثر من نفعهما .
القول في تأويل قوله تعالى : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا .
يعني بذلك عزّ ذكره : والإثم بشرب هذه والقمار هذا ، أعظم وأكبر مضرّة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما . وإنما كان ذلك كذلك ، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا ، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشرّ ، فأدّاهم ذلك إلى ما يأثمون به .
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرّح بتحريمها ، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما ، وإنما الإثم بأسبابهما ، إذ كان عن سببهما يحدث .
وقد قال عدد من أهل التأويل : معنى ذلك : وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال : منافعهما قبل التحريم ، وإثمهما بعدما حرّما .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ينزل المنافع قبل التحريم ، والإثم بعد ما حرّم .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول : ما يذهب من الدين والإثم فيه أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها .
وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر ، فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر الله في هذه الآية فأضافه إليهما إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما على ما وصفنا ، لا الإثم بعد التحريم .
ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فكرهها قوم لقوله : فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وشربها قوم لقوله : وَمَنافِعُ للنّاسِ ، حتى نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ قال : فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، حتى نزلت : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ فقال عمر : ضيعةً لك اليوم قرنت بالميسر .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن أبي توبة المصري ، قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثا ، فكان أول ما أنزل : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ الآية ، فقالوا : يا رسول الله ننتفع بها ونشربها ، كما قال الله جل وعز في كتابه . ثم نزلت هذه الآية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى . . . الآية ، قالوا : يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة قال : ثم نزلت : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ الآية ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حُرّمَتِ الخَمْرُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن قالا : قال الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ويَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسٍ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فنسختها الآية التي في المائدة ، فقال : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ الآية .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عوف ، عن أبي القموص زيد بن عليّ ، قال : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث مرات فأول ما أنزل قال الله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك ، حتى شرب رجلان ، فدخلا في الصلاة ، فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله عز وجل فيهما : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم ، وجعلوا يتقونها عند الصلاة ، حتى شربها فيما زعم أبو القموص رجلٌ ، فجعل ينوح على قتلى بدر :
تُحَيّي بالسّلامَةِ أُمّ عَمرو *** وهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ
ذَرِيِني أصْطَبِحْ بَكْرا فإنّي *** رأيْتُ المَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشامِ
وَوَدّ بَنُو المَغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ *** بألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ
كأيَ بالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ *** مِنَ الشيّزَى يُكَلّلُ بالسّنامِ
كأيَ بالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ *** مِنَ الفِتْيانِ والحُلَل الكِرَامِ
قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتى انتهى إليه ، فلما عاينه الرجل ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بيده ليضربه ، قال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ، والله لا أطعَمُها أبدا فأنزل الله تحريمها : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ وَالأزْلامُ رجْسٌ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : انتهينا انتهينا .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن زكريا عن سماك ، عن الشعبي ، قال : نزلت في الخمر أربع آيات : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فتركوها ، ثم نزلت : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا فشربوها . ثم نزلت الاَيتان في المائدة إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : نزلت هذه الآية : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ الآية ، فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم عليّ بن أبي طالب ، فقرأ : قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ ولم يفهمها ، فأنزل الله عز وجل يشدّد في الخمر : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاَة وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فكانت لهم حلالاً ، يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار أو ينتصف ، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مُصْحون ، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة وهي العشاء ، ثم يشربونها حتى ينتصف الليل وينامون ، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا . فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار ، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه ، فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث ، فتكلم سعد بشيء ، فغضب الأنصاري ، فرفع لحى البعير فكسر أنف سعد ، فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها وقال : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وعن رجل عن مجاهد في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قال : لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض ، حتى نزل تحريمها في سورة المائدة .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ قال : هذا أوّل ما عيبت به الخمر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فذمهما الله ولم يحرّمهما لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل ، ثم أنزل الله في سورة النساء أشدّ منها : لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُوُلونَ فكانوا يشربونها ، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها ، فكان السكر عليهم حراما . ثم أنزل الله جل وعز في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ إلى : لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر ، وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِي تَحْريمِ الخَمْرِ » . قال : ثم نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِي تَحْرِيمِ الخَمْرِ » . قال : ثم نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ فحرّمت الخمر عند ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ الآية كلها ، قال نسخت ثلاثةً : في سورة المائدة ، وبالحدّ الذي حدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدّا ، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه ، ولم يكن حدّا مسمى وهو حد . وقرأ : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ .
يعني جل ذكره بذلك : ويسألك يا محمد أصحابك : أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ، فقل لهم يا محمد أنفقوا منها العفو .
واختلف أهل التأويل في معنى : العَفْو في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : الفضل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ الباهلي ، قال : حدثنا وكيع ح ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : العفو : ما فضل عن أهلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قل العفو : أي الفضل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : هو الفضل .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : العفو ، قال : الفضل .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : العفو ، يقول : الفضل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه ، فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا ، ويتصدقون به على الناس .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : هوالفضل فضل المال .
وقال آخرون : معنى ذلك ما كان عفوا لا يبين على من أنفقه أو تصدق به . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ يقول : ما لا يتبين في أموالكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن جريج ، عن طاوس في قول الله جل وعز : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : اليسير من كل شيء .
وقال آخرون : معنى ذلك : الوسط من النفقة ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ يقول : لا تجهد مالك حتى ينفد للناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ قال : العفو في النفقة أن لا تجهد مالك حتى ينفد ، فتسأل الناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء ، عن قوله يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : العفو : ما لم يسرفوا ، ولم يقتروا في الحقّ . قال : وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظهر غنى .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : هو أن لا تجهد مالك .
وقال آخرون : معنى ذلك قُلِ العَفْوَ خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلاً أو كثيرا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قَلِ العَفْوَ يقول : ما أتوك به من شيء قليل أو كثير ، فاقبله منهم .
وقال آخرون : معنى ذلك ما طاب من أموالكم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ قال : يقول الطيب منه ، يقول : أفضل مالك وأطيبه .
حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كان يقول : العفو : الفضل . يقول : أفضل مالك .
وقال آخرون : معنى ذلك : الصدقة المفروضة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، أو عيسى عن قيس ، عن مجاهد شك أبو عاصم قول الله جل وعز : قُلِ العَفْوَ قال : الصدقة المفروضة .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى العفو : الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مئونتهم وما لا بدّ لهم منه . وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة ، وصدقته في وجه البرّ .
ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك :
3حدثنا عليّ بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رجل : يا رسول الله عندي دينار قال : «أنْفِقْهُ على نَفْسِكَ ؟ » قال : عندي آخر قال : «أنْفِقْهُ على أهْلِكَ » قال : عندي آخر قال : «أنْفِقْهُ على وَلَدِكَ » قال : عندي آخر قال : «فأنْتَ أبْصَرُ » .
حدثني محمد بن معمر البحراني ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِيرا فَلْيَبَدأ بِنَفْسِهِ ، فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِمَنْ يَعُولُ ، ثُمّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدّقْ على غَيْرِهِمْ » .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم ، عن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن ، فقال : يا رسول الله ، خذ هذه مني صدقة ، فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه ، فأتاه من ركنه الأيمن ، فقال له مثل ذلك ، فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك ، فقال : «هاتها » مغضبا ، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره ، ثم قال : «يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلّهِ يَتَصَدّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفّفُ النّاسَ إنّمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غَنِى » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن إبراهيم المخرمي ، قال : سمعت أبا الأحوص يحدث عن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ارْضَخْ مِنَ الفَضْلِ ، وَابْدأ بِمَنْ تَعُولُ ، وَلا تُلامُ على كَفافٍ » .
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب . فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق الفضل من ذلك ، هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو في كلام العرب في المال وفي كل شيء هو الزيادة والكثرة ، ومن ذلك قوله جل ثناؤه : حَتى عَفَوْا بمعنى : زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا ، ومنه قول الشاعر :
وَلَكِنّا يَعضّ السّيْفُ مِنّا *** بأسْوُقِ عافِياتِ الشّحْمِ كُومِ
يعني به كثيرات الشحوم . ومن ذلك قيل للرجل : خذ ما عفا لك من فلان ، يراد به : ما فضل فصفا لك عن جهده بما لم تجهده . كان بينا أن الذي أذن الله به في قوله قُلِ العَفْوَ لعباده من النفقة ، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه هو الذي بين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : «خَيْرُ الصّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى » وأذنهم به .
فإن قال لنا قائل : وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة المفروضة ؟ قيل : أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أن من حلت في ماله الزكاة المفروضة ، فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة ، أن عليه أن يسلمه إليهم ، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم ( في ) ماله إليهم ، وذلك لا شك أنه جهده إذا سلمه إليهم لا عفوه ، وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علم عباده وجه إنفاقهم من أموالهم عفوا ، ما يبطل أن يكون مستحقا اسم جهد في حالة ، وإذا كان ذلك كذلك فبّين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ المال إلى إمامه ، فأعطاه كائنا ما كان من قليل ماله وكثيره ، وقول من زعم أنه الصدقة المفروضة .
وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول : إن معناه ما لم يتبين في أموالكم ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة : إن من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ » وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له نحوا من ذلك . والثلث لا شك أنه بين فقده من مال ذي المال ، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه : وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلم يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَحْسُورا وذلك هو ما حده صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله .
ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي منسوخة ، أم ثابتة الحكم على العباد ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة نسختها الزكاة المفروضة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : كان هذا قبل أن تفرض الصدقة .
3حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة ، ثم قال : خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة .
3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ هذه نسختها الزكاة .
وقال آخرون : بل مثبتة الحكم غير منسوخة . ذكر من قال ذلك :
3حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد أو عيسى ، عن قيس ، عن مجاهد شك أبو عاصم ، قال قال : العفو : الصدقة المفروضة .
والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية من أن قوله : قُلِ العَفْوَ ليس بإيجاب فرض فرض من الله حقا في ماله ، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مما يسخطه جوابا منه لمن سأل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضا ، فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقة غير المفروضات ثابت الحكم غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه ، ولا منسوخ بحكم حدث بعده ، فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوّع وهباته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : «إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ بِنَفْسِهِ ، ثُمّ بأهْلِه ، ثُمّ بِوَلَدِهِ » ثُمّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الّتِي تُرْضِي اللّهَ ويُحِبّها . وذلك هو القوام بين الإسراف والإقتار الذي ذكره الله عز وجلّ في كتابه إن شاء الله تعالى . ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ : ما الدلالة على نسخه ؟ وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث ، فما الذي دلّ على أن ذلك منسوخ ؟ فإن زعم أنه يعني بقوله : إنه منسوخ أن إخراج العفو من المال غير لازم فرضا ، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة في المال قيل له : وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضا ، فأسقطه فرض الزكاة ؟ ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضا ، إذ لم يكن أمر من الله عز ذكره ، بل فيها الدلالة على أنها جواب ما سأل عنه القوم على وجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات ، ولا سبيل لمدعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادّعى .
وأما القراء فإنهم اختلفوا في قراءة العفو ، فقرأته عامة قراء الحجاز وقراء الحرمين وعظم قراء الكوفيين : قُلِ العَفْوَ نصبا ، وقرأه بعض قراء البصريين : قُلِ العَفْوُ رفعا . فمن قرأه نصبا جعل «ماذا » حرفا واحدا ، ونصبه بقوله : يُنْفِقُونَ على ما قد بينت قبل ، ثم نصب العفو على ذلك فيكون معنى الكلام حينئذٍ : ويسألونك أيّ شيء ينفقون ؟ ومن قرأه رفعا جعل «ما » من صلة «ذا » ورفعوا العفو فيكون معنى الكلام حينئذٍ : ما الذي ينفقون ، قل الذي ينفقون العفو . ولو نصب العفو ، ثم جعل «ماذا » حرفين بمعنى : يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل ينفقون العفو ، ورفع الذين جعلوا «ماذا » حرفا واحدا بمعنى : ما ينفقون ؟ قل الذي ينفقون خبرا كان صوابا صحيحا في العربية . وبأيّ القراءتين قرىء ذلك عندي صواب لتقارب معنييهما مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما . غير أن أعجب القراءتين إليّ وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بالنصب ، لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ .
يعني بقول عز ذكره : كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ هكذا يبين أي ما بينت لكم أعلامي وحججي ، وهي آياته في هذه السورة ، وعرفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي ، وبينت لكم حدودي وفرائضي ، ونبهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي ، ثم على حجج رسولي إليكم ، فأرشدتكم إلى ظهور الهدى ، فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحججي ، وأوضحها لكم لتتفكروا في وعدي ووعيدي وثوابي وعقابي ، فتجاوزوا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الاَخرة ، والفوز بنعيم الأبد على القليل من اللذات ، واليسير من الشهوات ، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية التي من ركبها ، كان معاده إليّ ، ومصيره إلى ما لا قبل له به من عقابي وعذابي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَة قال : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الاَخرة وبقائها .
3حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ يقول : لعلكم تتفكرون في الدنيا والاَخرة ، فتعرفون فضل الاَخرة على الدنيا .
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قوله : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ قال : أما الدنيا فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء ، والاَخرة دار جزاء ثم بقاء ، فتتفكرون ، فتعملون للباقية منهما . قال : وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ في الدّنْيا والاَخِرَة وإنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء ، وأن الاَخرة دار جزاء ثم دار بقاء ، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الاَخرة .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 )
وقوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية( {[2046]} ) ، السائلون هم المؤمنون ، و { الخمر } مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «خمروا الإناء »( {[2047]} ) ، ومنه خمار المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، ومنه قول الشاعر :
ألا يا زيد والضحاك سيرا . . . فقد جاوزتما خمر الطريق( {[2048]} )
أي سيرا مدلين( {[2049]} ) فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره ، ومنه قول العجاج :
في لامِعِ العقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمر . . . ( {[2050]} ) يصف جيشاً جاء برايات غير مستخف ، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم( {[2051]} ) ، أي هو بمكان خاف ، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك ، والخمر ماء العنب الذي غلي( {[2052]} ) ولم يطبخ أو طبخ طبخاً لم يكف غليانه ، وما خامر العقل من غير ذلك فهو في ( {[2053]} )حكمه . قال أبو حنيفة : قد تكون الخمر من الحبوب ، قال ابن سيده : وأظنه تسفحاً منه ، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الخمر من هاتين الشجرتين : العنب والنخلة » ، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح ، ولم تكن عندهم خمر عنب ، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها ، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير ، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره . والحد في ذلك واجب . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب ، فما لا يسكر منه حلال ، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف يرده النظر( {[2054]} ) ، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه ، وروي أن النبي عليه السلام قال : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام »( {[2055]} ) ، قال ابن المنذر في الإشراف : «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج » ، وروي أن هذه الآية أول( {[2056]} ) تطرق إلى تحريم الخمر ، ثم بعده { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }( {[2057]} ) [ النساء : 43 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه }( {[2058]} ) [ المائدة : 90 ] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حرمت الخمر » ، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين ، خرجه مسلم وأبو داود ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضرب فيها ضرباً مشاعاً ، وحزره أبو بكر أربعين سوطاً ، وعمل بذلك هو ثم عمر ، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين ، وبه قال مالك ، وقال الشافعي بالأربعين ، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة العلماء ولا يبدو إبط الضارب ، وقال مالك : «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح » ، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع ، وقالت طائفة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [ المائدة : 90 ] ، يريد ما في قوله { ومنافع للناس } من الإباحة والإشارة إلى الترخيص( {[2059]} ) .
و { الميسر } مأخوذ من يسر إذا جزر ، والياسر الجازر( {[2060]} ) ، ومنه قول الشاعر :
فلَمْ يَزَلْ بِكَ واشيهمْ وَمَكْرُهُمْ . . . حتَّى أَشَاطُوا بِغْيبٍ لَحْمَ مَنْ يَسَرُوا( {[2061]} )
أقُولُ لَهُمْ بِالشَّعْبِ إذْ يَيْسِرونني . . . أَلَمْ تَيْأسُوا إنّي ابْنُ فَارِسِ زهدمِ ؟( {[2062]} )
والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسراً لأنه موضع اليسر ، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة . وقال الطبري : «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتسنى » ، ونسب القول إلى مجاهد ، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله ، بل أراد مجاهد الجزر( {[2063]} ) ، واليسر : الذي يدخل في الضرب بالقداح ، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر ، كحارس وحرس وأحراس ، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ ، وثلاثة لا حظوظ لها ، ولا فروض فيها ، وهي( {[2064]} ) الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى ، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد ، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة( {[2065]} ) وهو الضارب بها ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء ، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام ، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور ، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسماً ، وليس كذلك( {[2066]} ) ، ثم يضرب على العشرة الأقسام ، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدماً أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء ، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه .
ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي ، ومنه قول الأعشى : [ السريع ]
المطعمو الضيف إذا ما شتا . . . والجاعلو القوت على الياسر( {[2067]} )
بأيديهمُ مَقْرومَةٌ وَمَغَالقٌ . . . يَعُودُ بأرزاقِ العُفَاةِ مَنِيحُها( {[2068]} )
والمنيح في هذا البيت المستمنح ، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه ، فلذلك المنيح الممدوح( {[2069]} ) ، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال ، فذلك إنما يوصف بالكر ، وإياه أراد جرير بقوله : [ الكامل ]
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً . . . كَرَّ الْمَنيحِ وَجُلْنَ ثمَّ مَجَالاَ( {[2070]} )
وإذا يَسِرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ بَيْنَهُمْ . . . فَوَاحِش يُنْعى ذكرُها بِالْمَصَايِفِ( {[2071]} )
فهذا كله هو نفع الميسر( {[2072]} ) ، إلى أنه أكل المال بالباطل ، ففيه إثم كبير ، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم : كل قمار ميسر( {[2073]} ) من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز .
وقوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } الآية ، قال ابن عباس والربيع : الإثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبله ، وقالت طائفة : الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية( {[2074]} ) والتعدي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت :
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا ملوكاً . . . وَأسْداً ما يُنَهْنِهُنَا اللقَاءُ( {[2075]} )
إلى غير ذلك من أفراحها ، وقال مجاهد : «المنفعةَ بها كسب أثمانها » ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم ، وقرأ حمزة والكسائي «كثير » بالثاء المثلثة ، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ، وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، فهذه آثام كثيرة ، وأيضاً فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام ، و «كثير » بالثاء المثلثة يعطي ذلك ، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير » بالباء بواحدة ، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق ، وأيضاً فاتفاقهم على { أكبر } حجة لكبير بالباء بواحدة ، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة ، إلا ما مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر » بالثاء مثلثة في الحرفين ، وقوله تعالى : «فيهما إثم » يحتمل مقصدين ، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي ، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما ، وقال سعيد بن جبير : لما نزلت { قل فيهما إثم كبير( {[2076]} ) ومنافع للناس } كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع ، فلما نزلت :{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس ، فلما نزلت { إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }( {[2077]} ) [ المائدة : 90 ] قال عمر بن الخطاب : ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر .
ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى : { فهل أنتمْ منتهون } [ المائدة : 91 ] قال : «انتهينا ، انتهينا » ، قال الفارسي : وقال بعض أهل النظر : حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [ الأعراف : 33 ] ، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً ، فهي حرام .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ليس هذ النظر بجيد لأن الإثم( {[2078]} ) الذي فيها هو الحرام ، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر( {[2079]} ) ، وقال قتادة : ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها .
وقوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال قيس بن سعد : «هذه الزكاة المفروضة » . وقال جمهور العلماء : بل هي نفقات التطوع . وقال بعضهم : نسخت بالزكاة . وقال آخرون : هي محكمة( {[2080]} ) وفي المال حق سوى الزكاة . و { العفو } : هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله . ونحو هذا هي عبارة المفسرين : وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر ، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : «من كان له فضل فلينفقه على نفسه ، ثم على من يعول ، فإن فضل شيء فليتصدق به »( {[2081]} ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «خير الصدقة ما أبقت غنى » ، وفي حديث آخر : «ما كان عن ظهر غنى »( {[2082]} ) .
وقرأ جمهور الناس «العفو » بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وحده «العفُو » بالرفع ، واختلف عن ابن كثير( {[2083]} ) ، وهذا ( {[2084]} )متركب على { ماذا } ، فمن جعل «ما » ابتداء و «ذا » خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في { ينفقونه } عائداً قرأ «العفوُ » بالرفع ، لتصح مناسبة الجمل ، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم ، أو الذي تنفقون العفو( {[2085]} ) ، ومن جعل { ماذا } اسماً واحداً مفعولاً ب { ينفقون } ، قرأ «قل العفوَ » بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع «العفوُ » مع نصب «ما » جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها .
وقوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق ، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته ، وقال مكي : «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات ، فقوله { في الدنيا } متعلق( {[2086]} ) على هذا التأويل ب { الآيات } ، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق { في الدنيا } ب { تتفكرون } .
استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية ، والمشروع في بيانها من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } [ البقرة : 178 ] إلى آخر السورة ، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص ؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطاً للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ ، وقد تناسقت في هذه الآية .
والسائلون هم المسلمون ؛ قال الواحدي : نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال ، فنزلت هذه الآية ، قال في « الكشاف » : فلما نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم وشربها آخرون ثم نزلت بعدها آية المائدة ( 90 ) : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديماً لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه ، وأما ما يذكره علماء الإسلام أن الإسكار حرام في الشرائع كلها فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة ، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع ، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها ، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير شريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم ، على أن مراعاتها درجات ، ولا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها ، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحاً شرب الخمر حتى سكر ، وأن لوطاً شرب الخمر حتى سكر سكراً أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع ، والأخير من الأكاذيب ؛ لأن النبوءة تستلزم العصمة ، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء ، والذي يجب اعتقاده : أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء ؛ لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر ، وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء ولأنها يشربونها لقصد التقوي لقلة هذا القصد من شربها .
وفي سفر اللاويين من التوراة وكلم الله هارون قائلاً : خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا . فرضاً دهرياً في أجيالكم وللتمييز بين المقدس والمحلَّل وبين النجس والطاهر .
وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم ، وقصارى لذَّاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم ، قال طرفة :
ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عُوَّدِي
فمنهن سبقي العاذلات بشَربـة *** كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وعن أنس بن مالك : حرمت الخمر ولم يكن يومئذٍ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر . فلا جرَم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبةً إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنانُ بذلك في قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] على تفسير من فسر السَّكَر بالخمر . وقيل السَّكَر : هو النبيذ غير المسكر ، والأظهر التفسير الأول . وآية سورة النحل نزلت بمكة ، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام ، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب . والصحيح الأول ، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكراً من الثمرات التي خلقها لهم ، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم في ذلك بالتدريج ، فقيل : إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم ، وأن سبب نزولها ما تقدم ، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيهاً لهم ، إذ كانوا لا يذكرون إلاّ محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم ، قال البغوي : إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تَقَدَّم في تحريم الخمر " أي ابتدأَ يُهيىء تحريمها يقال : تقدمت إليك في كذا أي عرضتُ عليك ، وفي « تفسير ابن كثير » : أنها ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزهاً . وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة ، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داود ، وروَى أيضاَ عن ابن عباس أنّه رأى أن آية المائدة نسخت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] ، ونسخت آية { يسألونك عن الخمر والميسر } ، ونُسب لابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زين بن أسلم .
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة ، فيجيء على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقاً بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها .
وأن معنى { فيهما إثم كبير } في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم ، وهذا هو الأظهر من الآية ؛ إذ وُصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلاّ مؤكدة للتحريم ونصاً عليه ؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوّله المتأوّلون بالعذر في شربها ، وقد روي في بعض الآثار أنّ ناساً شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلّى رجلان فجعلا يهجران كلاماً لا يُدْرَى ما هو ، وشرِبها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فزعاً ورفع شيئاً كان بيده ليضربه فقال الرجل : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآلى : لا أطعمها أبداً ، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة .
والخمر اسم مشتق من مصدر خَمَر الشيءَ يخمرُه من باب نصر إذا ستَره ، سمي به عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكراً ؛ لأنه يَستر العقل عن تصرفه الخَلْقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر ، أو هو اسم جاء على زِنة المصدر وقيل : هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أوْ عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وتُرك حتى يختمر ويُزبد ، واستظهره صاحب « القاموس » . والحق أن الخمر كل شراب مسكر إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر ؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه ، وأن غيره يطلق عليه خَمر ونبيذ وفضيخ ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر ، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب ، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ ، والنقيع ، والسُّكَرْكَةَ ، والبِتْع . وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر : نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب ، معناه ليس معدوداً في الخمسة شرابُ العنب لقلة وجوده وليسر المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة . وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عَمرو ابن كلثوم :
* ولا تُبِقي خُمور الأَنْدَرِين *
وقد انبنى على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام ، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعاً وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى ، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور : كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذاً بمسمى الخمر عندهم ، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري : يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر ، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة ، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقاً حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئاً ، ويزيد ذلك إيهاماً قاعدة أن المأذون فيه شرعاً لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس :
أباح العراقي النبيذ وشربه *** وقال حَرامان المدامة والسَّكْرُ
ولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان ، أحدهما محرم شربه وهو أربعة : ( الخمر ) وهو النيء من عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذَف بالزبد ، ( والطِلاء ) بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكراً ، ( والسَّكَر ) بفتح السين والكاف وهو النيء من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكراً ، ( والنقيع ) وهو النيء من نبيذ الزبيب ، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسة العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها ، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر .
القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة ، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة ، ونبيذ العسل والتين والبُرّ والشعير والذُّرة طُبخ أم لم يطبخ . والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، فهذه الأربعة يحل شربها ؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوي على العبادة ( كذا ) أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر .
وهذا التفصيل دليله القياس ، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد ، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار ، على أنه يلزم ألاّ يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك ، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه . وتَمسكُّ الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أوهى مما قبله ، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها ، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط ، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور . وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاقُ غيره به إثبات اللغة بالقياس ، وهذا باطل ، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق ، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام .
فإن قالوا : إن الصفة التي ذكرت في القرآن قد سوينا فيها جميع الأشربة وذلك بتحريم القدر المسكر وبقيت للخمر أحكام ثبتت بالسنة كتحريم القليل والحد عليه أو على السُّكر فتلك هي محل النظر ، قلنا : هذا مصادرة لأننا استدللنا عليهم بأنه لا يظن بالشارع أن يفرق في الأحكام بين أشياء متماثلة في الصفات ، على أنه قد ثبت في « الصحيح » ثبوتاً لا يدع للشك في النفوس مجالاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة " رواه النعمان بن بشير وهو في « سنن أبي داود » وقال : " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة " رواه أبو هريرة وهو في « سنن أبي داود » ، وقال : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " رواه ابن عمر في « سنن الترمذي » ، وقال أنس : لقد حُرِّمت الخمر وما نجد شراب العنب إلا قليلاً ، وعامة شرابنا فضيخ التمر . كما في « سنن الترمذي » . وأما التوسع في الخمر بعد الطبخ ، فهو تشويه للفقه ولطخ ، وماذا يفيد الطبخ إن كان الإسكار لم يزل موجوداً .
وصف الله الخمر بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع . والإثم : معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضى الله ، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير ، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف : الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل ، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب ، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في الشرع ، فهو ضد القربة فيكون معنى { فيهما إثم كبير } أنهما يتسبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحال الربح والخسارة من التشاجر .
وإطلاق الكبير على الإثم مجاز ، لأنه ليس من الأجسام ، فالمراد من الكبير : الشديد في نوعه كما تقدم آنفاً .
وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما ؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق ، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب ، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة ، والمراد في استعمالهما المعتاد .
واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة .
وقرأ الجمهور { إثم كبير } بموحَّدَة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي ( كثير ) بالثاء المثلثة ، وهو مجازاً استعير وصف الكثير للشديد تشبيهاً لقوة الكيفية بوفرة العدد .
والمنافع : جمع منفعة ، وهي اسم على وزن مَفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً قصد منه قوة النفع ، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبنى . ويحتمل أن يكون اسم مكان دالاً على كثرة ما فيه كقولهم مَسْبَعة ومَقْبَرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مَصْلَحة ومَفْسَدة ، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع .
والإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة ، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية ، وفيها ذهاب المال في شربها ، وفي الإنفاق على الندامى حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عُمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي :
ولسنا بشَرْبٍ أمَّ عمرو إذَا انْتَشَوْا *** ثِيابُ الندامَى عندهم كالمغانم
ولكننا يا أمَّ عمرو نديمنــــا *** بمنزلة الريَّان ليس بعائــم
وإذا سَكِرْتُ فإنني مُستهلك *** مالي وعِرضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ
وكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيباً ، قال لبيد :
أُغْلِي السِّبَاءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ *** أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها
ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها أضراراً في الكبد والرئتين والقلب وضعفاً في النَّسل ، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها ، لأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية ، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قَيْس بن عاصم المِنْقَري بسبب أنه شرب يوماً حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها ، ورأى القمر فتكلم معه كلاماً ، فلما أخبر بذلك حين صحا آلى لا يذوق خمراً ما عاش وقال :
رأيتُ الخمرَ صالحة وفيها *** خصال تُفسد الرجلَ الحليما
فلا واللَّه أَشْرَبُها صَحِيحـا *** ولا أُشْفَى بها أَبدا سَقيمـا
ولا أعطي بها ثَمنا حياتـي *** ولا أَدعو لها أبداً نديـماً
فإنَّ الخمر تفضح شاربيها *** وتُجنيهم بها الأمر العظيما
وفي « أمالي القالي » نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية ، ومنهم عامر بن الظَّرِب العَدْواني ، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عم الأشعث بن قيس ، وصفوان بن أمية الكناني ، وأسلوم البالي ، وسويد بن عدي الطائي ، ( وأدرك الإسلام ) وأسد بن كُرْز القَسْري البَجَلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة ، وعثمان بن عفان ، وأبو بكر الصديق ، وعباس بن مرداس ، وعثمان بن مظعون ، وأمية بن أبي الصلت ، وعبد الله بن جُدْعان .
وأما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر ، وفيها منافع من اللذة والطرب ، قال طرفة :
ولولا ثلاث هُنَّ من عيشة الفتى *** وجدك لم أَحفل متى قام عُوَّدِي
فمنهن سَبْقِي العاذِلات بشَرْبَـة *** كُمَيْتٍ متـى ما تُعْلَ بالمَاء تُزْبِد
وذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فراراً من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت .
وذُكر في هذه الآية الميسر عطفاً على الخمر ومخبراً عنهما بأخبار متحدة فما قيل في مقتضى هذه الآية من تحريم الخمر أو من التنزيه عن شربها يقال مثله في الميسر ، وقد بان أن الميسر قرين الخمر في التمكن من نفوس العرب يومئذ وهو أكبر لهو يَلْهُون به ، وكثيراً ما يأتونه وقت الشراب إذا أعوزهم اللحم للشِّواء عند شرب الخمر ، فهم يتوسلون لنحر الجَزور ساعتئذ بوسائل قد تبلغ بهم إلى الاعتداء على جزر الناس بالنحر كما في قصة حمزة ، إذ نحر شارفاً لعليّ بن أبي طالب حين كان حمزة مع شَرْب فغنته قينته مغرية إياه بهذا الشارف :
ألا يا حَمْزَ للشُّرُف النِّوَاءِ *** وهُنَّ معقَّلاتٌ بالفِناء
فقام إليها فشق بطنها وأخرج الكبد فشواه في قصة شهيرة ، وقال طرفةُ يذكر اعتداءه على ناقة من إبل أبيه في حال سُكره :
فَمَرَّتْ كَهَاةٌ ذات خَيْفٍ جُلاَلَةٌ *** عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبيل يَلَنْــدَدِ
يقول وقد تَرَّ الوَظيفَ وساقَها *** أَلَسْتَ ترى أن قد أتيتَ بمُؤْيِدِ
وقال ألا ماذا ترون بشـارب *** شديد علينا بغيه متعمِّـــدِ
فلا جرم أن كان الميسر أيسر عليهم لاقتناء اللحم للشرب ولذلك كثر في كلامهم قرنه بالشُّرب ، قال سبرة بن عمرو الفقعسي يذكر الإبل :
نُحَابي بها أَكْفَاءَنَا ونُهِينها *** ونَشْرَبُ في أثمانها ونُقَامِرُ
وذكر لبيد الخمر ثم ذكر الميسر في معلقته فقال :
أغلى السِّباءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ *** أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها
وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها *** بمَغَالِققٍ مُتَشَابِهٍ أَجْسَامُها
وذكرهما عنترة في بيت واحد فقال يذكر محاسن قرنه الذي صرعه في الحرب :
رَبِذٍ يَدَاهُ بالقِدَاحِ إذَا شَتَا *** هَتَّاككِ غَايَاتِ التِّجار مُلَوَّمَ
فلأجل هذا قُرن في هذه الآية ذكر الخمر بذكر الميسر ، ولأجله اقترنا في سؤال السائلين عنهما إن كان ثمة سؤال .
والميسر : اسم جنس على وزن مَفْعِل مشتق من اليُسر ، وهو ضد العسر والشدة ، أو من اليسار وهو ضد الإعسار ، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يَسر يَيْسِر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر ، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المَحْل وكَلَب الشِّتَاء ، وقال صاحب « الكشاف » : هو مصدر كالمَوْعد ، وفيه أنه لو كان مصدراً لكان مفتوح السين ؛ إذ المصدر الذي على وزن المفعِل لا يكون إلا مفتوح العين ما عدا ما شذ ، ولم يذكروا الميسر في الشاذ ، إلا أن يجاب بأن العرب وضعوا هذا الاسم على وزن المصدر الشاذ ليعلم أنه الآن ليس بمصدر .
والميسر : قمار كان للعرب في الجاهلية ، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعادٍ من قبل ، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عَاد ويقال لقمان العادي ، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام ، وهو غير لقمان الحكيم ، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعباً بالميسر حتى قالوا في المثل « أيسرُ من لقمان » وزعموا أنه كان له ثمانية أيسار لا يفارقونه هم من سادة عاد وأشرافهم ، ولذلك يشبِّهون أهلَ الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأَيْسار لقمان قال طرفة بن العبد :
وهُمُ أَيْسَار لقُمْانَ إذا *** أَغْلَتِ الشَّتْوة أَبْدَاءَ الجُزُرْ
وصفة الميسر أنهم كانوا يجعلون عشرة قِداح جمع قِدْح بكسر القاف وهو السهم الذي هو أصغر من النبل ومن السهم فهو سهم صغير مثل السهام التي تلعب بها الصبيان وليس في رأسه سنان وكانوا يسمونها الخِطاء جمع حَظْوَة وهي السهم الصغير وكلها من قصَب النبْعِ ، وهذه القداح هي : الفذ ، والتَّوْأم ، والرَّقِيبُ ، والحِلْس ، والنَّافِس ، والمُسْبل ، والمُعَلَّى ، والسَّفيح ، والمنيح ، والوَغْد ، وقيل النافسُ هو الرابع والحِلس خامس ، فالسبعة الأوَل لها حظوظ من واحد إلى سبعة على ترتيبها ، والثلاثة الأخيرة لا حظوظ لها وتسمى أَغفالاً جمع غُفْل بضم الغين وسكون الفاء وهو الذي أغفل من العَلامة ، وهذه العَلامات خُطُوط من واحد إلى سبعة ( كأرقام الحساب الروماني إلى الأربعة ) ، وقد خطُّوا العلامات على القِداح ذات العلامات بالشلط في القصَبة أو بالحرق بالنار فتسمى العلامة حينئذ قَرْمَة ، وهذه العلامات توضع في أسافل القداح . فإذا أرادوا التقامر اشتَرَوْا جزوراً بثمن مؤجل إلى ما بعد التقامر وقسموه أَبْدَاءً أي أجزَاء إلى ثمانية وعشرين جُزءاً أو إلى عشرة أجزاء على اختلاف بين الأصمعي وأبي عُبيدة ، والظاهر أن للعرب في ذلك طريقتين فلذلك اختلف الأصمعي وأبو عبيدة ، ثم يضعون تلك القِداح في خريطة من جِلْد تسمى الرِّبابة بكسر الراء هي مثل كنانة النبال وهي واسعة لها مخرج ضيق يضيق عن أن يخرج منه قِدحان أو ثلاثة ، ووكلوا بهذه الربابة رجلاً يُدعى عندهم الحُرْضة والضَّرِيب والمُجيل ، وكانوا يُغْشُون عينيه بمِغْمَضَة ، ويجعلون على يديه خِرقة بيضاء يسمونها المِجْوَل يعصبونها على يديه أو جلدةً رقيقة يسمونها السُّلْفة بضم السين وسكون اللام ، ويلتحق هذا الحُرْضة بثوب يُخْرِج رأسه منه ثم يجثو على ركبتيه ويضع الربابة بين يديه ، ويقوم وراءَه رجل يسمى الرقيب أو الوكيل هو الأمين على الحُرْضة وعلى الأَيسار كي لا يحتال أحد على أحد وهو الذي يأمر الحُرْضة بابتداء الميسر ، يجلسون والأيسارَ حول الحرضة جُثياً على رُكَبهم ، قال دريد بن الصمة :
دَفَعْتُ إلى المُجيل وقد تَجَاثَوْا *** على الرُّكبات مطلع كل شمس
ثم يقول الرقيب للحرْضة جَلْجِلْ القِداح أي حركها فيخضخضها في الرِبابة كي تختلط ثم يفيضها أي يدفعها إلى جهة مَخرج القِداح من الربابة دَفْعة واحدة على اسم واحد من الأيسار فيخرج قِدح فيتقدم الوكيل فيأخذه وينظره فإن كان من ذوات الأنصباء دفعه إلى صاحبه وقال له قم فاعتزِلْ فيقوم ويعتزل إلى جهة ثم تعاد الجلجلة ، وقد اغتفروا إذا خرج أول القداح غُفْلاً ألا يحسب في غُرم ولا في غُنْم بل يُرد إلى الربابة وتعاد الإحالة وهكذا ومن خَرَجت لهم القداح الأغفال يدفعون ثمن الجزور .
فأما على الوصف الذي وصفَ الأصمعي أن الجزور يقسم إلى ثمانية وعشرين جزءا فظاهر أن لجميع أهل القدح القامرة شيئاً من أَبْداء الجزور لأن مجموع ما على القداح الرابحة من العلامات ثمانية وعشرون ، وعلى أهل القداح الخاسرة غرم ثمنه .
وأما على الوصف الذي وصف أبو عبيدة أن الجزور يقسم إلى عشرة أبداء فذلك يقتضي أن ليس كل المتقامرين برابح ، لأن الربح يكون بمقدار عشرة سهام مما رقمت به القداح وحينئذ إذا نفدت الأجزاء انقطعت الإفاضة وغرم أهل السهام الأغفال ثمن الجزور ولم يكن لمن خرجت له سهام ذات حظوظ بعد الذين استوفوا أبداء الجزور شيءٌ إذ ليس في الميسر أكثر من جزور واحد قال لبيد :
* وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها * البيت
وإذْ لا غنم في الميسر إلا من اللحم لا من الدراهم أو غيرها ، ولعل كلاً من وصفي الأصمعي وأبي عبيدة كان طريقة للعرب في الميسر بحسب ما يصطلح عليه أهل الميسر ، وإذا لم يجمع العدد الكافي من المتياسرين أَخَذ بعض من حضر سهمين أو ثلاثة فكثر بذلك ربحه أو غُرمه وإنما يفعل هذا أهلُ الكرم واليسار لأنه معرض لخسارة عظيمة ، إذ لم يفز قدحه ، ويقال في هذا الذي يأخذ أكثر من سهم مُتَمِّمَ الأيسار قال النابغة :
إني أُتَمِّمُ أيْساري وأمنحُهم *** مثنى الأيادِي وأَكْسُو الجفنة الأدُما
ويسمُّون هذا الإتمام بمثْنى الأيادي كما قال النابغة ، لأنه يقصد منه تكرير المعروف عند الربح فالأيادي بمعنى النعم ، وكانوا يعطون أجر الرقيب والحرضة والجَزّار من لحم الجزور فأما أجر الرقيب فيعطاه من أول القسمة وأفضل اللحم ويسمونه بدءا ، وأما الحرضة فيعطى لحماً دون ذلك وأما الجزار فيعطى مما يبقى بعد القسم من عظم أو نصف عظم ويسمونه الريم .
ومن يحضر الميسر من غير المتياسرين يسمون الأعران جمع عرن بوزن كتف وهم يحضرون طمعاً في اللحم ، والذي لا يحب الميسر ولا يحضره لفقره سمي البرم بالتحريك .
وأصل المقصد من الميسر هو المقصد من القمار كله وهو الربح واللهو يدل لذلك تمدحهم وتفاخرهم بإعطاء ربح الميسر للفقراء ، لأنه لو كان هذا الإعطاء مطرداً لكل من يلعب الميسر لما كان تمدح به قال الأعشى :
المُطْعِمُو الضيفِ إذا ما شَتَوْا *** والجاعِلُو القُوتِ على اليَاسِر
ثم إن كرامهم أرادوا أن يظهروا الترفع عن الطمع في مال القمار فصاروا يجعلون الربح للفقراء واليتامَى ومَن يُلم بساحتهم من أضيافهم وجيرتهم ، قال لبيد :
أَدْعُو بهن لعَاقِرٍ أو مُطْفِلٍ *** بُذِلَتْ لجيرانِ الجميع لِحَامُها
فالضَّيفُ والجارُ الجَنيب كأنما *** هبَطا تَبالَةَ مخصِبا أَهْضَامُها
فصار الميسر عندهم من شعار أهل الجود كما تقدم في أبيات لبيد ، وقال عنترة كما تقدم :
رَبِذٍ يَداه بالقِداح إذا شَتَا *** هَتَّاكِ غَايَات التِّجار ملوح
أي خفيف اليد في الميسر لكثرة ما لعب الميسر في الشتاء لنفع الفقراء ، وقال عُمير ابن الجَعد :
يَسِرٍ إذا كان الشتاءُ ومُطْعمٍ *** للَّحْم غير كُبُنَّةٍ عَلْفُوفِ
الكُبُنَّة بضمتين المنقبض القليل المعروف والعلفوف كعصفور الجافي .
فالمنافع في الميسر خاصة وعامة وهي دنيوية كلها ، والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء ومن إضاعة الوقت والاعتياد بالكسل والبطالة واللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التفقه في الدين وعن التجارة ونحوها مما به قوام المدنِيَّة وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة ، ولهذه الاعتبارات ألحق الفقهاء بالميسر كل لعب فيه قمار كالنّرد ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إيَّاكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم » يريد النرد ، وعن علي : النرد والشطرنج من الميسر ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ومالك وأبو حنيفة وقال الشافعي : إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسانُ عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال وأخذه وهذا ليس كذلك وهو وجيه والمسألة مبسوطة في الفقه .
والناس مراد به العموم لاختلاف المنافع ، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة ( في ) المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتقع بالخمر والميسر ، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى : { فيه شفاء للناس } [ النحل : 69 ] . وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال : { وأنهار من خمر لذة للشاربين } [ محمد : 15 ] .
فإن قلت : ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع ، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء ، لأن الله جعل هذا الدين ديناً دائماً وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرِّعون لمختلف ومتجددِ الحوادث ، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } [ الحجرات : 12 ] ونحو ذلك ، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل ، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها ، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم ، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلاَّ صلاحَهم دون نكايتهم كقوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وقوله : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] . وهنالك أيضاً فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم } [ البقرة : 187 ] .
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلاً مع سؤالهم { ماذا ينفقون } ، فعطفت الآية التي فيها جَوابُ سؤالهم { ماذا ينفقون } على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر ، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل { يسألونك } بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها .
ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج ، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق .
روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غَنَمَة ، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } [ البقرة : 215 ] إلخ ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه .
ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف .
والعفو : مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَى قال تعالى : { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا } [ الأعراف : 95 ] ، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله ، فالمعنى أن المرء ليس مطالباً بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج ، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق ، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم ، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني ، وفي الحديث : « خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غنى وابدأ بمن تَعول » فإن البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق ، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء ، وفي الحديث : « إنك أنْ تَدَع ورثتَك أغنياء خير من أن تَدَعهم عالة يتكففون الناس » أي يمدون أكفهم للسؤال ، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم ، ولذلك جاء في الحديث : « وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك » . ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو ، لأنها لعموم المنفقين ، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبَر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته .
وآل في العفو للجنس المعروف للسامعين ، والعفو مقول عليه بالتشكيك ؛ لأنه يتبع تعيينَ ما يحتاجه المنفق والناسُ في ذلك متفاوتون ، وجعل الله العفو كلَّه منفقاً ترغيباً في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به ، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذَر ، إذ كان يرى كنز المال حراماً وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه ، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة ، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة ، وعلى قوله يكون ( أل ) في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب .
وقرأ الجمهور ( قل العفو ) بنصب العفو على تقدير كونه مفعولاً لفعل دل عليه { ماذا ينفقون } ، وهذه القراءة مبنية على اعتبار ذا بعد ( ما ) الاستفهامية ملغاة فتكون ( ما ) الاستفهامية مفعولاً مقدماً لينفقون فناسب أن يجيء مفسر ( ما ) في جواب السؤال منصوباً كمفسره .
وقرأ ابن كثير في إحدى روايتين عنه وأبو عمرو ويعقوب بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره هو العفو ، وهذه القراءة مبنية على جعل ذا بعد ما موصولة أي يسألونك عن الذي ينفقونه ، لأنها إذا كانت موصولة كانت مبتدأ إذ لا تعمل فيها صلتها وكانت ما الاستفهامية خبراً عن ما الموصولة ، وكان مفسرها في الجواب وهو العفو فناسب أن يجاء به مرفوعاً كمفسره ليطابق الجوابُ السؤال في الاعتبارين وكلا الوجهين اعتبار عربي فصيح .
وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } ، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات ، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبيِّن لنوع { يُبَيِّن } ، وقد تقدم القول في وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] .
أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } إلى قوله { العفو } ، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيماً لشأن المشار إليه لكماله في البيان ، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس ، وحتى يلحقوا به نظائره ، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين ، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله : { يبين الله لكم } .
واللام في { لكم } للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب ، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين . وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله : { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة ، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله { والآخرة } إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل : قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة ، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين ، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا ، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له : « الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ » .
ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله : { ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } .
ويجوز أن تكون الإشارة بقوله { كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف ، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجاً لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة ، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة ، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور .
وقوله : } لعلكم تتفكرون } غاية هذا البيان وحكمته ، والقول في لعل تقدم .