السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

{ يسألونك عن الخمر والميسر } . روي أنه لما نزل بمكة قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } ( النحل ، 67 ) كان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال يومئذٍ ، ثم إنّ عمر ومعاذاً في نفر من الصحابة قالوا : ( أفتنا في الخمر يا رسول الله فإنها مذهبة للعقل ) فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم إنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً ، فدعا ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا ، فحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلي بهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، هكذا إلى آخر السورة بحذف لا فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ( النساء ، 43 ) فحرم السكر في أوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة ، وتركها قوم في أوقات الصلاة وشربوها في غير وقتها ، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ، ويشرب بعد صلاة الصبح فيصحو إذا جاء وقت الظهر ، ثم إنّ عتبان بن مالك صنع طعاماً ودعا رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه ، وقد كان شوى لهم رأس بعير ، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى اشتدّت فيهم ، ثم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار ، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار ، وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة ، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا له الأنصاري فقال عمر : اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل : { في الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } ( المائدة ، 91 ) فقال عمر رضي الله تعالى عنه : انتهينا يا رب ، قال القفال الحكمة في وقوع : التحريم على هذا الترتيب أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم به كثيراً ، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم ، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق ،

وسمي عصير العنب والتمر إذا اشتدّ وغلا خمراً ؛ لأنه يخمر العقل ، كما سمي سكراً ؛ لأنه يسكره أي : يحجزه وهو حرام مطلقاً . وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء ، وقال أبو حنيفة : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتدّ حل شربه ما دون السكر . وسمي القمار ميسراً ؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر والمعنى يسئلونك عن تعاطيهما ؛ لقوله تعالى : { قل } لهم { فيهما } أي : في تعاطيهما { إثم كبير } أي : عظيم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش ، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة والباقون بالباء الموحدة .

{ ومنافع للناس } باللذات والفرح ، ومصادقة الفتيان ، وتشجيع الجبان ، وتوفر المروءة ، وتقوية الطبيعة في الخمر ، وإصابة المال بلا كدّ في الميسر { وإثمهما } أي : ما ينشأ عنهما من المفاسد { أكبر } أي : أعظم { من نفعهما } المتوقع منهما ولذا قيل : إن هذا هو المحرّم للخمر ، فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والظاهر أن المحرم لها آية المائدة كما مرّ .

{ ويسألونك } يا محمد { ماذا ينفقون } وذلك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثهم على الصدقة فقالوا : ماذا ننفق ؟ فقال الله تعالى { قل } لهم { العفو } ) ، قرأ أبو عمرو برفع الواو بتقدير هو والباقون بنصبها بتقدير أنفقوا ، واختلفا في معنى العفو وهو نقيض الجهد فقيل : أن ينفق مالاً يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع ، كما قال الشاعر :

خذي العفو مني تستديمي مودّتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وسَوْرة الغضب : شدّته وحِدَّته ، وقال قتادة وعطاء والسدّيّ : هو ما فضل عن الحاجة ، وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يكتسبون المال ، ويمسكون قدر النفقة ، ويتصدّقون بالفضل بحكم هذه الآية ، وقال مجاهد معناه التصدّق عن ظهر غنى .

روي : ( أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغنائم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم حتى كرّر مراراً ، فقال : هاتها مغضباً فأخذها ، فحذفه بها حذفاً لو أصابه لشجه ثم قال : ( يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ) قال ابن الأثير : والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً ، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قويّ من المال . وقال عمرو بن دينار : الوسط من غير إسراف ولا إقتار كما قال تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } ( الفرقان ، 67 ) { كذلك } كما بين لكم ما ذكر { يبين الله لكم الآيات } قال الزجاج : إنما قال كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة ؛ لأنّ الجماعة معناها القبيل كأنه قيل : كذلك أيها القبيل وقيل : هو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّ خطابه يشتمل على خطاب الأمّة كقوله تعالى : { يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء } ( الفرقان ، 1 ) { لعلكم تتفكرون } .