تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

الآية 219 وقوله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ) بعد الحرمة ( ومنافع للناس ) قيل الحرمة ( وإثمهما ) بعد الحرمة ( أكبر من نفعهما ) قيل التحريم ، والمنفعة : في الميسر : بعضهم ينتفع به ، وبعضهم يخسر ، وهو القمار ؛ وذلك أن نفرا كانوا يشترون الجزور ، فيجعلون لكل رجل منهم سهما ، ثم يقترعون ، فمن خرج سمعه برئ من الثمن حتى يبقى آخر رجل ، فيكون ثمن الجزور عليه وحده ، ولا حق له في الجزور ، ويقتسم{[2451]} الجزور بقيتهم ، وقيل : تقسم{[2452]} بين الفقراء ، فذلك الميسر .

ثم قال : ( فيهما إثم كبير ) في ركوبهما ، لأن فيها ترك الصلاة وترك ذكر الله وركوب المحارم والفواحش . ثم قال : ( ومنافع للناس ) يعني التجارة واللذة والربح . ثم اختلف فيه ؛ قال قوم : إن الخمر محرمة بهذه الآية حيث قال : ( إثم كبير ) ، والإثم محرم بقوله : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم ) [ الأعراف : 33 ] ، وقال قوم : لم تحرم بهذه الآية إذ فيها ذكر النفع ، ولكن حرمت بقوله : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس ) [ المائدة : 90 ] والرجس محرم ، وقال [ الله تعالى ]{[2453]} : ( من عمل الشيطان ) [ المائدة : 9 ] وعمل الشيطان محرم . ثم أخبر أنه ( يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ) [ المائدة : 91 ] وذلك كله محرم .

والأصل عندنا في هذا أنهم أجمعوا على حرمة الميسر مع ما كان فيه من المنافع للفقراء وأهل الحاجات والمعونة لهم ؛ لأنهم كانوا يقتسمون على الفقراء . فإذا حرم الله هذا ثبت أن المقرون به أحق في الحرمة مع ما فيه من الضرر الذي ذكرنا ، والله أعلم .

وقال الشيخ ، رحمه الله تعالى : في قوله : ( يسألونك عن الخمر والميسر ) ولم يبين في السؤال أنه عن أي [ أمر منهما ]{[2454]} كان السؤال ؟ وأمكن استخراج حقيقة ذلك عن الجواب بقوله : ( قل فيهما إثم كبير ) ؛ كأن السؤال كان عما فيهما ؟ فقال : فيهما كذلك . وعلى ذلك قوله : ( ويسألونك عن اليتامى ) [ البقرة : 220 ] كأن السؤال عما يعمل في [ أموال اليتامى ]{[2455]} من المخالطة وأنواع المصالح ، وكذلك قوله : ( ويسألونك عن المحيض ) [ البقرة : 222 ] كأنه سأل{[2456]} عن غشيان في المحيض ؛ إذ في ذلك جرى الجواب ، لم يبين في السؤال لما في الجواب دليله أو لما كان الذين سألوا معروفين يوصل بهم إلى حقيقة ذلك ، والله أعلم .

وقيل : هذه الآية تدل على حرمتها بما قال : ( فيهما إثم كبير ) وقد قال الله تعالى : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ) إلى قوله : ( والإثم ) [ الأعراف : 33 ] ثبت أن الإثم محرم . وأكثر السلف على أن الحرمة فيهما ليست بهذه الآية ولكن بقوله : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس ) [ المائدة : 90 ] .

وقوله : ( فيهما إثم كبير ) أمر الشرب والميسر إلى ما يكون ( فيهما إثم كبير ) من نحو ما بين عند السكر والميسر في سورة المائدة [ الآية : 95 ] من وقوع العداوة والبغضاء والصد{[2457]} عما ذكر ، وفيهما ( ومنافع ) في ذلك الوقت بوجوه : أما في الخمر فإلى{[2458]} أن يسكر ، وفي التجارة فيها ، وفي الميسر لما كان يفرق ما فيه ذلك على الفقراء وما فيه على التجارة ونحو ذلك . وعلى التأويل الأول يخرج قوله : ( قل فيهما إثم كبير ) أي في الشرب والعمل إذ حرما ( ومنافع للناس ) قبل أن يحرما ، والله أعلم .

ثم الذي علينا أن نعرف حرمتهما اليوم ، إن كانت في هذه الآية أو{[2459]} لم تكن ، فنهي الانتفاع بهما [ وتحذير ذلك ]{[2460]} ؛ وقد بين الله الكافي من ذلك في سورة المائدة [ الآيتين / 90 و /91 ] ، وجاءت الآثار في تحريمهما على ما في الميسر من الخطر والجهالة ، كذلك{[2461]} جاءت الآثار على كون أمثالها في حكم الربا ، وفي حكم الخمر ما لا يتخذ للمنافع ، وإنما يتخذ للهو والطرب ، وكل ذلك مما نهينا عنه ، مع ما في ذلك من ذهاب العقل الذي هو أعز ما في البشر وغلبة السفه في أهله . فحقيق لمن عقل اتقاؤه ، لو كان حلالا ، لما في ذلك من التبذير{[2462]} ، فكيف وقد ظهرت الحرمة ؟

ثم كان معلوما علة حرمة الخمر إذ سكر منها الشارب ، ثم جاء به القرآن ، وليست تلك العلة في شرب القليل منه ، فلم يلحق القليل غيرها ، وألحق بالكثير كل شراب يعمل [ ذلك العمل ]{[2463]} لما فيه المعنى الذي ذكر ، إذ كانت الخمر لا تتخذ في المتعارف للمصالح وأنواع المنافع ، بل تتخذ لما ذكرت من اللهو والطرب ، ولا يستعمل شربها إلا المعروفون بالفسق ، فتكون حرمة الخمر لعينها لا لما ذكرت من قصد العواقب بها ، وكل جوهر لا يتخذ ، لا يقصد باتخاذ ذلك ، فهو محرم بعينه ، والله أعلم .

وقوله : ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) وهو الفضل عن القوت ؛ وذلك أن أهل الزروع كانوا يتصدقون بما{[2464]} يفضل عن قوت سنة وأهل الغلات يتصدقون بما يفضل عن قوت الشهور ، وأهل الحرف والأعمال يتصدقون بما يفضل عن قوت يوم ، ثم نسخ ذلك بما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " الزكاة نسخت كل صدقة كانت ، وصوم رمضان نسخ كل صوم كان ، والأضحية نسخت كل دم كانت " [ الدارقطني : 4702 ] ، / فإن ثبت هذا فهو ما ذكرنا ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[2465]} قال : ( كان هذا قبل أن تفرض الصدقة ) ؛ دليل ذلك ظهور أموال كثيرة لأهلها في الصحابة [ رضوان الله عليهم أجمعين ]{[2466]} إلى يومنا ، لم يخرجوا من أملاكهم ، ولا أنكر /35-أ/ عليهم ، فثبت أن الأمر في ذلك منسوخ أو هو على الإرب بقوله{[2467]} تعالى : ( كذلك يبين الله لكم لعلكم تتفكرون )


[2451]:- من م، في الأصل و ط ع: وتقسيم.
[2452]:- في النسخ الثلاث: يقسم.
[2453]:- من ط ع.
[2454]:- في النسخ الثلاث: أمرهما.
[2455]:- من ط ع، في الأصل و م: أموالهم.
[2456]:- في النسخ الثلاث: قال.
[2457]:- من ط ع، في الأصل و م: وصد.
[2458]:- الفاء ساقطة من النسخ الثلاث.
[2459]:- من ط ع، في الأصل و م: إذ.
[2460]:- في النسخ الثلاث: ويحذر لك.
[2461]:- في النسخ الثلاث: التي.
[2462]:- من ط ع و م، في الأصل: التدبر.
[2463]:- ساقطة من ط ع.
[2464]:- في النسخ الثلاث: ما.
[2465]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[2466]:- من ط ع، في الأصل و م: رضي الله عنه.
[2467]:- في النسخ الثلاث: وقوله.