تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

الخمر والميسر

{ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون( 219 ) في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم( 220 ) }

المفردات :

الخمر : ما أسكر من عصير العنب ، ثم أصبح اسما لكل ما أسكر ، وسميت خمر لأنها تستر العقول ***

وتغطيه ، من خمر شيء إذا ستره وغطاه .

الميسر : القمار من اليسر وهو السهولة ، لأنه كسب بلا مشقة ولا كد .

الإثم : الذنب أو الشر أو الضرر .

العفو : الفضل والزيادة على الحاجة .

219

التفسير :

{ يسألونك عن الخمر والميسر . . . }

أي يسألونك عن حكم تناول الخمر ، أحلال أم حرام ، ومثل بيعها وشراؤها ونحو ذلك مما يدخل في التصرفات التي تخالف الشرع وعن حكم استعمال الميسر وفعله .

{ قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما . . . }

أي قل لهم : إن في تعاطي الخمر والميسر إثما لأن فيهما أضرارا كثيرة ومفاسد عظيمة ، وفيهما منافع للناس وضررهما أكبر من نفعهما .

أما ضرر الخمر من أي نوع اتخذت فقد أثبته الطب بما لا يدع مجالا للشك فيه ، فإن شرب الخمر يؤدي إلى التهاب الكبد وضعف المعدة وضعف مقاومة الجسم للأمراض وقد ثبت من بحوث عديدة بالمستشفيات العامة أن نسبة الوفيات بين المدمنين ترتفع على خمسين في المائة ، على حين لا تتجاوز نسبتها في غير المدمنين أربعا وعشرين في المائة( 126 ) .

وتأثيرها في العقول ملموس فقد تمت تجارب عديدة ثبت منها الغول( الكحول ) المتولد في الخمر سبب مباشر لخمس الإصابات في مستشفى الأمراض العقلية( 163 ) .

معاني الخمر :

1 . الخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة ، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره ، ومنه :

" خمروا آنيتكم " فالخمر تخمر العقل أي تغطيه وتستره .

2 . سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى لأدركت كما يقال : قد اختمر العجين أيبلغ إدراكه ، وخمر الرأي أي ترك حتى يتبين فيه الوجه .

3 . سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة ، ومنه قولهم دخلت في خمار الناس أي اختلطت بهم .

والمعاني الثلاثة متقاربة ، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ثم خالطت العقل والأصل الستر( 164 ) .

الخمر والنبيذ :

أجمع جمهور العلماء على أن كلمة خمر تشمل كل شرب مسكر ، سواء كان من عصير العنب أم من الشعير أممن التمر أم من غير ذلك ، وكلها سواء في التحريم . قل المشروب منها أم كثر ، سكر شاربه أم لم يسكر ، ومن أدلتهم ما رواه الإمام مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها ، لم يشربها في الآخرة " ( 165 ) .

ومن أدلتهم أيضا أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر ، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره ، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره .

وقال أبوا حنيفة والثوري وابن أبى ليلي وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : " إن كلمة الخمر لا تطلق إلا عللا الشراب المسكر من عصير العنب فقط ، أما السكر من غيره كالشراب المتخذ من التمر أو الشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذا ، وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب .

أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حلال ، وإذا سكر منها احد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه .

ورأى الحنيفة ومن وافقهم رأي ضعيف يرده النظر والخبر( 166 ) .

قال ابن العربي : وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لهم خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها ، والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال : حمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرها البسر والتمر . أخرجه البخاري واتفق الأئمة عن رواية " أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب ، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم أي أواني الخمر وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك طله خمر " أي وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك( 167 ) .

وقال الألوسي : " وعندي أن الحق الذي ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب ، كيف كان وبأي اسم سمى ، متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام ، وقليله ككثيره ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة . وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع وهو نبيذ العسل فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " ( 168 ) . والأحاديث متضافرة على ذلك ولعمر إن اجتماع الفسق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ورغبتهم فيها ، فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء كالعنبرية والإكسير ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة ، وتبيح شربها للأمة وهيهات هيهات فالأمر وراء ما يظنون ، وإنا لله وإنا إليه راجعون " ( 169 ) .

دعوى باطلة :

ادعى بعض المعاصرين أن القرآن لم ينص على تحريم الخمر ، بل قال " فاجتنبوه " وهو في نظرهم حث على الاجتناب وليس أمرا قاطعا يدل على تحريم الخمر .

ونقول لهؤلاء : إن الله عز وجل حرم الخمر تحريما قاطعا .

فذكر القرآن أنها رجس من عمل الشيطان ، وأمر باجتنابها ونهانا عن الاقتراب منها باستفهام تقريعي يدل على غاية التهديد قال سبحانه : { فهل أنتم منتهون ؟ }

وعندما سمع الصحابي الآيتين90-91 من سورة المائدة قالوا : انتهينا ، وأريقت الخمر في شوارع المدينة .

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى اتله عليه وسلم بروايات متعددة وأسانيد مختلفة تثبت حرمة الخمر وضررها .

قال صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه " ( 170 ) .

" والأحاديث في تحريم الخمر أكثر من أن تحصى حتى قال العلماء : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر ، وأجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على تحريمها وبذلك استقرت الحرمة حكما للخمر في الإسلام وصارت حرمتها من المعلوم من الدين بالضرورة ، ومن لوازم ذلك أم من استحلها وأنكر حرمتها ، يكون خارجا عن الإسلام وأم من يتناولها طائعا مختارا يكون فاسقا عن أمر الله خارجا عن حدوده عاصيا لأحكامه( 171 ) .

حكم الخمر :

من أحكام الإسلام في الخمر ما يأتي :

حرمة تناولها ، حرمة الانتفاع بذاتها ، حرمة إهدائها حرمة بيعها والانتقام بمثلها ، إهدار قيمتها ، وجوب العقوبة عليها إثبات مضارها الصحية والعقلية والمالية والنفسية .

الخمر أم الخبائث :

الخمر مفتاح كل شر ، فلإنسان إذا سكر هذى إذا هذى افترى وتجرأ على المنكر القبيح " ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء فيلعب ببوله وعذرته ، وربما يمسح بهما وجهه ، حتى رأى بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " .

بل إن الخمر دليل على الزنا ، ومن القولة المشهورة لأحد الفضلاء أيشرب هذا نساؤكم ؟ قالوا نعم . قال : زنين ورب الكعبة .

" والخمر والميسر يجران إلى الإثم والمخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله " .

" روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال : اجتنبوا الخمر فهي أم الخبائث ، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية ، فأرسلت إليه جاريتها ، فقالت له : إنا ندعوك للشهادة . فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذا الخمر كأسا ، أو تقتل هذا الغلام ، قال : فاسقيني من هذه الخمر كأسا فسقته ، قال : زيدوني ، فلم يبرح حتى وقع عليها ، وقتل النفس . فاجتنبوا الخمر فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه( 173 ) .

" وروى أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم لقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له : أين تذهب ؟ فأخبرهم أنه يرد محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة ، فقال : إن خدمة الرب واجبة ، فقالوا : إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء ، فقال : اصطناع المعروف واجب ، فقيل له : إنه ينهى عن الزنى ، فقال : هو فحش وقبح في العقل ، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه ، فقيل له : إنه ينهي عن شرب الخمر ، فقال : أما هذا فإني لا أصبر عليه . فرجع ، وقال : أشرب الخمر سنة ثم أرجه إليه ، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات( 174 ) .

" وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة( 175 ) ابنته وهو سكران ، وسب أبويه ورأى القمر فتكلم في شيء ، وأعطى الخمار كثيرا من ماله فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه ، وفيها يقول :

رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحا ولا أشفى بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي ولا أدعو لها أبدا نديما

فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنبهم بها الأمر العضيما

* * *

ويقول أبو الطيب المتنبي :

وغير فؤادي للغواني رمية *** وغير بناني للزجاج ركاب

وللسر منى موضع لا يناله *** صديق ولا يطغى إليه شراب

وللخمود مني ساعة ثم بيننا *** فلاة على غير اللقاء تجاب

وما العشق إلا عزة وطماعة *** يعرض قلب نفسه فيصاب

تركنا لأطراف القنا كل شهوة *** فليس لنا إلا بهن لعاب

الميسر :

الميسر هو القمار بكسر القاف وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر كالموعد من عد ، وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجيء للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .

وقال القرطبي : " الميسر قمار العرب بالأزلام ، قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه بماله وأهله فنزلت الآية " ( 176 ) .

وصفة الميسر الذي كانت تستعمله العرب ، أنهم كانت لهم عشرة أقداح تسمى الأزلام والأقلام أيضا ( واحدها قدح وزلم وقلم وهي قطع من الخشب ) وأسماؤها الفذ والتؤم والرقيب والجلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفح والرغد ، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها إما عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرون جزءا ولا شيء للثلاثة الأخيرة .

فكانوا يعطون للفذ سهما ، وللتؤم سهمين ، وللرقيب ثلاثة ، وللجلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة وللمعلى سبعة ومن ثم يضرب به المثل فيقال لذي الحظ الكبير من كل شيء( هو صاحب القدح المعلى ) .

ومجموع هذه الأنصباء 28 سهما كالآتي :

1+2+3+4+5+6+7=28 .

وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الرعاية وهي الخريطة توضع على يد عدل يجلجلها ، ويدخل يده فيها ويخرج منها واحدا باسم رجل ثم واحد باسم رجل آخر وهكذا ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، زمن خرج له القدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها شيئا ، ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم ( الوغد : اللئيم عديم المروءة ) .

واتفق العلماء على أن كل ذلك حرام كالقمار على النرد والشطرنج وغيرهما إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد .

مضار الميسر :

" ومن مضارات الميسر إفساد التربية بتعويد النفس على الكسل وانتظار الرزق من الطرق الوهمية ، وإضعاف القوى العقلية بترك الأعمال المفيدة من طرق الكسب الطبيعية ، وإهمال المقامرين للزراعة والصناعة والتجارة التي أركان العمران ، ومن أشهر مضرات القمار تخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة ، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها عليها في ليلة واحدة ، فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن تعيش على ما تعودت عليه من السعة . ويشترك الميسر مع الخمر في أن متعاطيهما قلما يقدر على تركهما السلامة من أثرهما ، ، فللخمر تأثير في الأعصاب يدعو صاحبه إلى العودة إليها ، وأما الميسر فإن صاحبه كلما ربح طمع في المزيد ، وكلما خسر طمع في تعويض الخسارة ، ويضعف الإدراك حتى تعز مقاومة هذا الطمع الوهمي وهذا شر في هاتين الجريمتين " ( 177 ) .

إن من رحمة الله بهذه الأمة وإكرامه لها ، أنه لم يترك شيئا من أسباب الاضمحلال والفساد إلا حذرها منه ، وبين لها مضرته وسوء عاقبته ، كما أنه سبحانه تدرج في التشريع الإلهي وسلك سبيل اليسر والهداية إلى النفوس رحمة منه بعباده ، وتخفيفا عنهم قال تعالى :

{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم*والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما*يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } . ( النساء : 26-28 ) .

{ ويسألونك عن ماذا ينفقون قل العفو }

المعنى ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر ، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم ، وسهل عليكم إخراجه ، ولا يشق عليكم بذله .

المراد العفو ، ما بفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة ، إذ هذا القدر هو الذي يتيسر إخراجه ، ويسهل بذله ولا يتضرر صاحبه بالتبرع به .

وهذا الجزء من الآية مرتبط بما قبله ارتباطا وثيقا ، فهو في الإنفاق فيما يحل ، وما قبله في الإنفاق فيما يحرم ، وهو معطوف على : { يسألونك عن الخمر } . عطف القصة على القصة .

وفي نصوص الدين ما يحث على التعاون والتراحم ، وما يوجه إلى المنهاج الوسط في الإسلام ، فليس من الخير أن ينفق الإنسان ماله كله ثم يبقى عالة يسأل الناس ، وليس من الحكمة أن يمسك الإنسان ماله ويبخل به على كل خير أو بر . ومن سماحة الإسلام انه حث على الصدقة ورغب أن تكون من فائض مال الإنسان وفيما زاد عن حاجته وحاجة عياله وفيما استغنى عنه حتى تخرج الصدقة من يده سهلة سمحة ، لا تتطلع نفسه إليها ولا تطمع فيها .

أخرج الشيخان وغيرهما ، عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى : وابدأ بمن تعول " ( 178 ) .

وفي صحيح مسلم عن جابر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " ( 179 ) .

ويقول الإمام محمد عبده : " عن الأمة المؤلفة من مليون فرد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها الهامة كإعداد القوة وتربية الناشئة ، تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون فرد لا يبذلون شيئا في مثل ذلك ، لأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة إذ هو يعتبر نفسه جزءا منها وهي كل له ، بينما الأمة الثانية لا تعد بواحدة لأن كل فرد من أفرادها يخذل الآخر . . وفي الحقيقة إن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة ، لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض ، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم " ( 180 ) .

ثم ختم سبحانه الآية بقوله .

{ كذلك يبين الله لكم لعلكم تتفكرون } .