قوله( {[14]} ) : ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) [ 217 ] .
من قرأ بالثاء( {[15]} ) فقراءته( {[16]} ) مختارة ، لأن الكثرة تشتمل على العظم( {[17]} ) والكبر ، والكبر( {[18]} ) والعظم لا يشتمل على الكثرة فبالثاء( {[19]} ) أعم وأولى . وكل ما كثر فقد عظم وليس كل ما عظم بكثير ، فوصف الإثم بالكثرة أبلغ من وصفه بالعظم ، وقد قال تعالى : ( وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً )( {[20]} ) ، وأيضاً فإن الإثم الأول بمعنى الآثام لقوله : " ومنافع " ولم يقرأ " ومنفعة " . والآثام فبالكثرة توصف أولى من العِظم . وأما الثاني فهو إجماع بالباء لأنه يراد به التوحيد لا الجمع( {[21]} ) .
ومن قرأ( {[22]} ) بالباء( {[23]} ) فحجته إجماعهم( {[24]} ) على ( أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا )( {[25]} ) بالباء( {[26]} ) ، أي أعظم . وقوله : ( حُوباً كَبِيراً )( {[27]} )( {[28]} ) ، وقول العرب : " إِثْمٌ صَغِيرٌ " ، يدل على جواز " كبير " وَحُسْنِهِ وترك استعمالهم " لإثم قليل " ، يدل على بعد " كثير " . وإجماع المسلمين على قولهم : " صغائر وكبائر " ، يدل على حسن " كبير " . ونزلت الآية جواباً لمن سأل النبي [ عليه السلام ]( {[29]} ) عن الخمر والميسر .
/والخمر : ما خامر العقل أي ستره ، فكل شراب ستر العقل وأحاله فهو خمر ، يقال : " دخل( {[30]} ) فِي خِمَارِ النَّاسِ " أي هو مستتر في الناس ، ويقال للضبع : " خَامِرِي أُمِّ عَامِر " ( {[31]} ) ، أي استتري( {[32]} ) . وخمار المرأة قناعها لأنه يسترها . وقولهم : " اخْتَمَرَ العَجِينُ " ، أي غطى فطورته الاختمار( {[33]} ) .
والميسر القمار سمي بذلك لما كانوا ييسرون من الجزور وغيرها للقمار عليها( {[34]} ) .
وقال مجاهد : " كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز( {[35]} ) " ( {[36]} ) .
وقال عطاء : " حتى لعب الصبيان بالكعاب " ( {[37]} ) .
وقال القاسم : " كل ما أنهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر " ( {[38]} ) .
قال( {[39]} ) ابن عباس : " كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله وماله ، فأيهما قامر صاحبه ذهب بأهل الآخر( {[40]} ) وماله " ( {[41]} ) .
وأشعار العرب : تدل على أن الميسر كان قماراً بينهم في الجزور( {[42]} ) خاصة( {[43]} ) .
وقيل : سمي ميسراً لأنهم كانوا يجزرون( {[44]} ) الجزور . وكل/شيء جزرته فقد يسرته والياسر الجازر . فقيل للضاربين بالقداع : ياسرون ، لأنه سبب لتجزئة( {[45]} ) الجزور( {[46]} ) .
ويقال للضارب بالقداح " يَسَرٌ وأَيْسَارٌ " ( {[47]} ) .
وقيل : إن " يَسْراً " جمع " لِيَاسِرٍ " ، ثم يجمع " يَسَرٌ " على " أَيْسَارٍ " ، وكانت العرب( {[48]} ) أهل المقدرة منهم يقامرون على الإبل في الشدائد ، ويجعلون لحومها للفقراءنهم لتعدل أحوال الناس ، ولذلك قال( {[49]} ) : ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ )( {[50]} ) " ( {[51]} ) .
والقداع التي كانوا يقامرون بها عشرة : منها سبعة ذوات خطوط ، على واحد علامة يعرف بها ، وهي : الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل( {[52]} ) ، والمعلى . ومنها ثلاثة لا خطوط فيها ، يقال لها : الأغفال/والغفل من الدواب الذي لا سمعة له ؛ وهي : السفيح والمنيح ، والوغد( {[53]} ) وليس لها سهام . والسبعة الأول للفذ منها نصيب ، وللتوأم نصيبان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس( {[54]} ) أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة ، وعلى كل واحد من العلامة على قدر ماله من الأنصباء( {[55]} ) .
وقوله : ( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ )( {[56]} ) [ 217 ] .
هي أثمانها( {[57]} ) وما كانوا يصيبون من الجزور .
( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا ) [ 217 ] .
أي( {[58]} ) الإثم فيهما بعد التحريم أكبر من النفع قبل التحريم . قال( {[59]} ) سعيد بن جبير : " لما نزلت : ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) كره الخمر قوم للإثم ، وشربها قوم للمنافع وهو الفرح الذي فيها حتى نزلت ( لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى )( {[60]} ) ، فتركوها عند الصلاة حتى نزلت/( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالاَنْصَابُ والاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ )( {[61]} ) فحرمت( {[62]} ) " ( {[63]} ) .
فهذا يدل على أنها منسوخة بما في " المائدة " ( {[64]} ) .
وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقول : " اللهم بيّن لنا في الخمر " ، فنزلت : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ )( {[65]} ) الآية [ البقرة 218 ] ، فقرئت عليه ، فقال : [ اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فإنها تذهب العقل والمال ]( {[66]} ) ، فنزلت ( لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ) ، فقرئت عليه( {[67]} ) ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ ) الآية التي في المائدة فقال عمر : انتهينا ، انتهينا( {[68]} ) " ( {[69]} ) .
فالخمر محرمة بنص القرآن لأن الله جل ذكره أخبرنا في هذه( {[70]} ) السورة أن فيها إثماً كبيراً ، وحرم( {[71]} ) تعالى اكتساب( {[72]} ) الإثم بقوله تعالى( {[73]} ) : ( قُلِ اِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاِثْمَ )( {[74]} ) أي واكتساب الإثم( {[75]} ) . فهذا نص ظاهر في التحريم مع قوله : ( فَهَلَ اَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ )( {[76]} ) . فهذا تهدد ووعيد ؛ وذلك لا يكون إلا في المحرمات مع قوله : ( لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى )( {[77]} ) ، فتحريم المسكر منصوص بَيِّنٌ في كتاب الله [ جل وعز ]( {[78]} ) ، وكل ما أسكر فهو خمر ، لأن كل مسكر يخامر العقل ، وكل ما خامر العقل فهو خمر وهو مسكر( {[79]} ) .
وإنما سميت الخمر خمراً لأنها تخامر العقل ، أي تخالطه .
وقيل : سميت بذلك لأنها تخمر ، أي تغطي من الخمار الذي تغطى به .
وقيل : سميت بذلك لأنها تخمر العقل ، أي تستره( {[80]} ) من الخمار الذي يغطى( {[81]} ) به الرأس( {[82]} ) .
قوله : ( قُلِ العَفْوَ ) [ 217 ] . أي تتصدق بما فضل عن أهلك( {[83]} ) .
قال السدي : " كانوا يعملون كل يوم بما فيه ، فإن فضل في ذلك اليوم فضْلٌ عن العيال قدموه " ( {[84]} ) .
وقال ابن عباس : " العفو( {[85]} ) مالا يتبين/خروجه من المال( {[86]} ) " .
وقال طاوس : " العفو اليسير من كل شيء " ( {[87]} ) .
وقال اليزيدي( {[88]} ) : العفو هو ما أطقته من غير أن تجهد( {[89]} ) فيه نفسك( {[90]} ) " .
وقيل : ما فضل عن أهلك( {[91]} ) .
وروي أن هذه الآية ( وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ) نزلت في رجل أتى إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ]( {[92]} ) فقال : " إن( {[93]} ) لي ديناراً " ، فقال : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ . فقال : إن لي دينارين . فقال : أَنْفِقْهُمَا( {[94]} ) عَلَى أَهْلِكَ ، فقال : إن لي ثلاثة ، قال( {[95]} ) أَنْفِقْهَا( {[96]} ) عَلَى خَادِمِكَ . [ قال : إن ]( {[97]} ) لي أربعة ، قال( {[98]} ) : أَنْفِقْهَا عَلَى وَالِدَيْكَ( {[99]} ) ، قال : إِنَّ لي خمسة . قال : أَنْفِقْهَا عَلَى قَرَابَتِكَ قال : إن لي ستة . قال أَنْفِقْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ " ( {[100]} ) .
يريد لي الدينار غير الدينار ، ولي اثنان غير الاثنين/ ، وثلاثة غير الثلاثة ، وكذلك ما بعده .
وقيل : العفو ما لا يكون إسرافاً ولا إقتاراً( {[101]} ) . قاله عطاء والحسن( {[102]} ) وقاله مجاهد : " العفو الصدقة عن ظهر غنى( {[103]} ) " ( {[104]} ) .
وروي عن ابن عباس في حد العفو : أمر النبي صلى الله عليه وسلم [ أن يأخذ ]( {[105]} ) ما أتوا به من قليل( {[106]} ) أو كثير( {[107]} ) .
وقال الربيع : " العفوا( {[108]} ) طاب من المال " ( {[109]} ) .
/وقال قتادة : " العفو أفضل المال ، وأطيبه( {[110]} ) أفضله " ( {[111]} ) .
قال( {[112]} ) ابن عباس : " هي منسوخة بالزكاة " ( {[113]} ) .
وقيل : إنما هي الزكاة ، وليست منسوخة( {[114]} ) .
وقيل : إنما في التطوع ، سألوا عنه فأجيبوا ، فهي محكمة وليست بغرض( {[115]} ) .