السائلون في قوله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } هم المؤمنون كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية ، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة ، وكل شيء غطى شيئاً ، فقد خمره ، ومنه : «خمروا آنيتكم » وسمي خمراً ، لأنه يخمر العقل ، أي : يغطيه ويستره ، ومن ذلك الشجر الملتفّ يقال : له الخمر بفتح الميم ، لأنه يغطي ما تحته ويستره ، يقال منه أخمرت الأرض : كثر خمرها . قال الشاعر :
ألا يا زَيْدُ والضَّحَاك سِيرَا *** فَقَد جَاوَزْتُما خَمْر الطَّرِيقِ
أي : جاوزتما الوهد . وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ؛ لأنها تركت حتى أدركت ، كما يقال قد اختمر العجين : أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرأي : أي : ترك حتى تبين فيه الوجه ، وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ؛ لأنها تخالط العقل من المخامرة ، وهي : المخالطة . وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر ؛ لأنها تركت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، فخمرته : أي : سترته . والخمر : ماء العنب الذي غلا ، واشتدّ ، وقذف بالزَّبدَ ، وما خامر العقل من غيره ، فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن عكرمة ، وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب ، فهو حلال : أي : ما دون المسكر فيه . وذهب أبو حنيفة إلى حِل ما ذهب ثلثاه بالطبخ ، والخلاف في ذلك مشهور . وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي للمنتقى ، فليرجع إليه .
والميسر مأخوذ من اليسر ، وهو وجوب الشيء لصاحبه ، يقال يسر لي كذا : إذا وجب ، فهو ييسر يسراً ، وميسراً ، والياسر : اللاعب بالقداح . وقد يسر ييسر . قال الشاعر :
فَأعِنهُم وَأيْسرْ كما يَسَرُوا به *** وإذا هُمُ نَزلوُا بضَنْك فَانْزِلِ
وقال الأزهري : الميسر : الجَزُور التي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً ؛ لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته ، فقد يسرته ، والياسر : الجازر ، قال : وهذا الأصل في الياسر ، ثم يقال للضاربين بالقداح ، والمتقامرين على الجزور : ياسرون ، لأنهم جازرون ، إذ كانوا سبياً لذلك . وقال في الصحاح : ويسر القوم الجزور : إذا اجتزروها ، واقتسموا أعضاءها ، ثم قال : ويقال يسر القوم : إذا قامروا ، ورجل ميسر وياسر بمعنى ، والجمع أيسار ، قال النابغة :
إني أتمِّم أيسارِى وأمْنَحُهم *** مَثْنَى الأيادِي وأكْسوا الحفْنَة الأدَمَا
والمراد بالميسر في الآية : قمار العرب بالأزلام ، قال جماعة من السلف من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعضهم : كل شيء فيه قمار من نَرْدٍ ، أو شطرنج ، أو غيرهما ، فهو الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز ، والكِعَاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل ، والقرعة في إفراز الحقوق . وقال مالك : الميسر ميسران : ميسر اللهو ، وميسر القمار ، فمن ميسر اللهو : النرد ، والشطرنج ، والملاهي كلها ، وميسر القمار : ما يتخاطر الناس عليه ، وكل ما قومر به ، فهو ميسر ، وسيأتي البحث مطوّلاً في هذا في سورة المائدة عند قوله :
{ إِنَّمَا الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] .
قوله : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } يعني الخمر والميسر ، فإثم الخمر أي : إثم تعاطيها ينشأ من فساد عقل مستعملها ، فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة ، والمشاتمة ، وقول الفحش ، والزور ، وتعطيل الصلوات ، وسائر ما يجب عليه ، وأما إثم الميسر أي : إثم تعاطيه ، فما ينشأ عن ذلك من الفقر ، وذهاب المال في غير طائل ، والعدواة ، وإيحاش الصدور . وأما منافع الخمر فربح التجارة فيها ، وقيل : ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوّة القلب ، وثبات الجنان ، وإصلاح المعدة ، وقوّة الباءة ، وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال :
وَإذَا شَرِبْتُ فَإِنَّني *** رَبُّ الخَوَرْنَق والسَّدِير
وإذَا صَحوْتُ فَإِنني *** رَبُّ الشَّوَيهةِ وَالبعير
ونشربها فتتركنا ملوكاً *** وأسداً ما يهنهنا اللقاء
وقال من أشار إلى ما فيها من المفاسد ، والمصالح :
رأيتُ الخمرَ صالحة وَفيها *** خِصَالُ تُفْسِدُ الرَّجُلُ الحَليما
فلا والله أشْرَبْها صحيحاً *** ولا أشفَى بها أبداً سقيماً
ولا أعْطى بها ثمناً حَيَاتي *** ولا أدعو لَها أبَداً نَدِيَماً
ومنافع الميسر : مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ، ولا كدّ ، وما يحصل من السرور ، والأريحية عند أن يصير له منها سهم صالح . وسهام الميسر أحد عشر ، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الحظوظ : الأول : الفَذ بفتح الفاء بعدها معجمة ، وفيه علامة واحدة ، وله نصيب ، وعليه نصيب . الثاني : التوأم بفتح المثناة الفوقية ، وسكون الواو وفتح الهمزة ، وفيه علامتان ، وله وعليه نصيبان . الثالث : الرقيب ، وفيه ثلاث علامات ، وله وعليه ثلاثة أنصباء . الرابع الحلس ؛ بمهملتين ، الأولى مكسورة ، واللام ساكنة ، وفيه أربع علامات ، وله وعليه أربعة أنصباء ، الخامس : النافر بالنون ، والفاء ، والمهملة ، ويقال : النافس بالسين المهملة مكان الراء ، وفيه خمس علامات ، وله وعليه خمسة أنصباء . السادس المُسْبَل بضم الميم ، وسكون المهملة ، وفتح الباء الموحدة ، وفيه ست علامات ، وله وعليه ستة أنصباء . السابع المعلَّى بضم الميم ، وفتح المهملة ، وتشديد اللام المفتوحة ، وفيه سبع علامات ، وله وعليه سبعة أنصباء ، وهو أكثر السهام حظاً ، وأعلاها قدراً ، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فرداً .
والجزور تجعل ثمانية وعشرين جزءاً ، هكذا قال الأصمعي ، وبقي من السهام أربعة أغفالاً ، لا فروض لها ، وهي : المنيح ، بفتح الميم ، وكسر النون وسكون الياء التحتية ، وبعدها مهملة ، والسفيح بفتح المهملة ، وكسر الفاء ، وسكون الياء التحتية بعدها مهملة ، والوغد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة ، والضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء ، وإنما أدخلوا هذه الأربعة التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها ، ويضرب بها ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً . وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب ، ويحثوا على ركبتيه ، ويخرج رأسه من الثوب ، ثم يدخل يده في الربابة بكسر المهملة ، وبعدها باء موحدة ، وبعد الألف باء موحدة أيضاً ، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام ، فيخرج منها باسم كل رجل سهماً ، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه ، ومن خرج له سهم لا فرض له لم يأخذ شيئاً ، وغرم قيمة الجزور ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء .
وقد قال ابن عطية : إن الأصمعي أخطأ في قوله : إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءاً ، وقال : إنما تقسم على عشرة أجزاء .
قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نفْعِهِمَا } أخبر سبحانه بأن الخمر ، والميسر ، وإن كان فيهما نفع ، فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع ؛ لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر ، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر ، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال ، والتعرض للفقر ، واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء ، وهتك الحرم . وقرأ حمزة ، والكسائي : «كثير » بالمثلثة . وقرأ الباقون بالباء الموحدة . وقرأ أبيّ : «وإثمهما أقرب من نفعهما » . قوله : { قُلِ العفو } قرأه الجمهور بالنصب . وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع . واختلف فيه عن ابن كثير ، وبالرفع قرأه الحسن ، وقتادة قال النحاس : إن جعلت " ذا " بمعنى الذي كان الاختيار الرفع على معنى : الذي ينفقون هو : العفو ، وإن جعلت " ما " و " ذا " شيئاً واحداً كان الاختيار النصب على معنى : قل ينفقون العفو ، والعفو : ما سهل ، وتيسر ، ولم يشق على القلب ، والمعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ، ولم تجهدوا فيه أنفسكم ، وقيل : هو ما فضل عن نفقة العيال . وقال جمهور العلماء : هو نفقات التطوّع ، وقيل : إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة ، وقيل : هي محكمة ، وفي المال حق سوى الزكاة . قوله : { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } أي : في أمر النفقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.