فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

{ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } .

{ يسألونك عن الخمر } السائلون المؤمنون فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم عن عمر أنه قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب بالمال والعقل فنزلت يعني هذه الآية فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في سورة النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فكان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة أن لا يقربن الصلاة سكران فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعى عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون ؟ قال عمر انتهينا انتهينا .

والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة وكل شيء غطى شيئا فقد خمره ، ومنه " خمروا آنيتكم " وسمي الخمر لأنه يخمر العقل أي يغطيه ويستره وقيل سميت خمرا لأنها تركت حتى أدركت أي بلغت إدراكه وقيل لأنها تخالط العقل من المخامرة وهو المخالطة .

وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت ثم خالطت العقل فخمرته أي سترته ، والخمر ماء العنب الذي غلا واشتد وقذف بالزبد ، وما خامر من غيره فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن شرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال أي ما دون المسكر منه ، وذهب أبو حنيفة إلى حل ما ذهب ثلثاه بالطبخ والخلاف في ذلك مشهور وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي لبلوغ المرام ، وأطال الشوكاني الكلام عليه في شرحه للمنتقى فليرجع إليهما .

وجملة القول في تحريم الخمر أن الله أنزل فيه أربع آيات :

نزل بمكة { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا } فكان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهي لهم حلال ، ثم نزل بالمدينة في جواب عمر ومعاذ هذه الآية فتركها قوم لقوله { فيهما إثم كبير } وشربها قوم لقوله { ومنافع للناس } ثم نزل { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فترك قوم شربها في أوقات الصلاة ثم أنزل الله الآية التي في المائدة وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام .

والخمر تذكر وتؤنث وقال الأصمعي الخمر أنثى وأنكر التذكير .

{ والميسر } مصدر ميمي مأخوذ من اليسر وهو وجوب الشيء لصاحبه يقال يسر لي كذا إذا وجب والياسر اللاعب بالقداح وقال الأزهري : الميسر الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسرا لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة وكل شيء جزأته فقد يسرته ، والياسر الجازر وقال : وهذا الأصل في الياسر ، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور ياسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .

والمراد بالميسر في الآية قمار العرب بالأزلام ، قال جماعة من السلف : من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كل شيء فيه قمار من نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق وقال مالك : الميسر ميسران ميسر اللهو وميسر القمار فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها وميسر القمار ما يتخاطر الناس عليه وكل ما قومر به فهو ميسر كالطاب والمنقلة والطاولة وغيرها ، وسيأتي البحث مطولا في هذا في سورة المائدة عند قوله { إنما الخمر والميسر } إن شاء الله تعالى .

{ قل فيهما إثم كبير } يعني في الخمر والميسر ، فإثم الخمر أي إثم تعاطيها ينشأ من فساد عقل مستعملها فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور ، وتعطيل الصلوات وسائر ما يجب عليه ، وأما إثم الميسر أي إثم تعاطيه فيما ينشأ عن ذلك من الفقر وذهاب المال في غير طائل والعداوة وإيحاش الصدور .

{ ومنافع للناس } أما منافع الخمر فربح للتجارة فيها ، وقيل ما يصدر عنها من الطرب واللذة والنشاط والفرح وقوة القلب وثبات الجنان وإصلاح المعدة وقوة الباه وتصفية اللون ، وحمل البخيل على الكرم ، وزوال الهم وهضم الطعام وتشجيع الجبان ، وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك في أشعارهم .

ومنافع الميسر مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كد وما يحصل من السرور والأريحية عند أن يصير له منها سهم صالح ، وسهام الميسر أحد عشر منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الخطوط وهي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافر والمسبل والمعلى والسفح والوغد والضعف والجزور ، ولا نطول بذكر علاماتها وأحوالها .

{ وإثمهما أكبر من نفعهما } أخبر سبحانه بأن الخمر والميسر وإن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع ، لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر ، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر ، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم .

وقد وردت في تحريم الخمر ووعيد شاربها أحاديث كثيرة .

{ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } والعفو ما سهل وتيسر ولم يشق على القلب ، والمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا فيه أنفسكم وقيل هو ما فضل عن نفقة العيال ، وقال جمهور العلماء هو نفقات التطوع وقيل إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة وقيل هي محكمة وفي المال حق سوى الزكاة .

وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وأبدأ بمن تعول ) وثبت نحوه في الصحيح مرفوعا من حديث حكيم ابن حزام وفي الباب أحاديث كثيرة وقيل المعنى خذ الميسور من أخلاق الرجال ولا تستقص عليهم{[204]} .

{ كذلك يبين الله لكم الآيات } أي في أمر النفقة ومصارفها { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } أي في أمرهما فتحبسون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم وتنفقون الباقي في الوجوه المقربة إلى الآخرة وقيل في الكلام تقديم وتأخير أي كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها ، وفي الآخرة وبقائها فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة .


[204]:صحيح الجامع الصغير / 3276