فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

219

{ الخمر } ما خامر العقل وغطاه وستره .

{ الميسر } القمار . { العفو } فضل المال .

قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات : نزلت بمكة { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا . . }{[677]} فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من أصحابه قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ { قل يا أيها الكافرون } أعبد ما تعبدون فنزلت { . . . لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون . . . }{[678]} فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه أعرابي بلحى بعير فشجه شجة موضحة{[679]} ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت { . . إنما الخمر والميسر والأنصاب . . . } إلى قوله { . . فهل أنتم منتهون . . . }{[680]} فقال عمر انتهينا يا رب ، والحكمة في وقوع التحريم على هذا الوجه أن القوم قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيرا فلوا منعوا دفعة واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدرج والرفق وكل ما خامر العقل وخالطه فهو خمر وفيه ملحظ للستر ومنه خمار المرأة ؛ { والميسر } القمار قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله ، فنزلت الآية وقال أيضا : كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب ، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق ، { قل فيهما إثم كبير } إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور ، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقة وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله إلى غير ذلك . . . . وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء لأنه أكل مال الغير بالباطل ؛ . . { ومنافع للناس } أما في الخمر فربح التجارة . . ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب . . وقيل منفعته التوسعة على المحاويج . . { وإثمهما أكبر من نفعهما } أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة-{[681]} .

{ ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } كأنما سألوا في الآية الكريمة السابقة رقم 215 من هذه السورة المباركة سألوا عن مصارف النفقة إلى من تصرف فأجيبوا { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين . . . } وفي هذه سألوا كم ينفقون فأجيبوا ما يفضل عن حاجاتهم ؛ روى الشيخان{[682]} وغيرهما{[683]} عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ) . { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } قال ابن عباس يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها .


[677]:من سورة النحل من الآية 67.
[678]:من سورة النساء الآية 43
[679]:الموضحة هي الشجة الجرح في الرأس إذا أبدت بياض العظم.
[680]:من سورة المائدة الآيتان 90-91.
[681]:ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن.
[682]:الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
[683]:أخرج ابن سعد عن جابر قال قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم آتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال (يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول)