الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

قوله تعالى : { عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } : الخمرُ : المُعْتَصَرُ من العِنَبِ إذا غَلى وقَذَفَ بالزَّبَدِ ، ويُطْلَقُ على ما غلى وقَذَف بالزَّبَد من غيرِ ماءِ العنب مجازاً .

وفي تسميِتها " خمراً " أربعةُ أقوال ، أحدُها : - وهو المشهورُ - أنها سُمِّيتْ بذلك لأنهَا تَخْمُر العقلَ أي تستُرُه ، ومنه : خِمارُ المرأة لسَتْرِهِ وَجْهَها ، و : " خامِري حَضاجِرُ ، أتَاك ما تُحَاذِرُ " يُضْرَبُ للأحمقِ ، وحضاجرُ عَلَمٌ للضبُع ، أي : استتر عن الناس . ودخَل في خِمار الناس وغِمارهم . وفي الحديث : " خَمِّروا آنيتَكم " ، وقال :

ألا يا زيدُ والضحاكَ سِيرا *** فَقَدْ جاوَزْتُما خَمَرَ الطرِيقِ

أي : ما يَسُْرُكما من شجرٍ وغيرِه . وقال العَّجاج يصف مسير جيشٍ ظاهر :

في لامعِ العِقْبَانِ لا يَمْشِي الخَمَرْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

والثاني : لأنها تُغَطَّى حتى تُدْرَكَ وتشتدَّ ، ومنه " خَمِّروا آنيتَكم "

والثالث : - قال ابنُ الأنباري - لأنها تخامِرُ العقلَ أي : تخالِطُه ، يقال : خامره الداءُ أي : خالَطَه . والرابع : لأنها تُتْرَكُ حتى تُدْرَكَ ، ومنه : " اختمر العجينُ " أي : بَلَغَ إدراكُه ، وخَمَّر الرأيَ أي : تركَه حتى ظهرَ له فيه وجهُ الصوابِ ، وهذه أقوالٌ متقاربةٌ . وعلى هذه الأقوال كلِّها تكونُ الخمرُ في الأصل مصدراً مراداً به اسمُ الفاعلِ أو اسمُ المفعولِ .

والمَيْسِرُ : القِمار ، مَفْعِل من اليُسْر ، يقال : يَسَرَ يَيْسِر . قال علقمة :

لو يَيْسِرون بخيلٍ قد يَسَرْتُ بها *** وكلُّ ما يَسَرَ الأقَوامُ مَغْرومُ

وقال آخر :

أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني *** ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ

وفي اشتقاقِه أربعةُ أقوال ، أحدُها : من اليُسْر وهو السهولةُ ، لأنَّ أَخْذَه سهل . الثاني : من اليَسار وهو الغنى ، لأنه يَسْلُبه يساره ، الثالثة : مِنْ يَسَر لي كذا أي : وَجَب ، حكَاه الطبري عن مجاهد . وردَّ ابنُ عطية عليه . الرابع : من يَسَر إذا جَزَر ، والياسرُ الجازرُ ، وهو الذي يُجَزِّىء الجَزُور أجزاءً . قال ابن عطية : " وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً لأنَّها موضعُ اليُسْرِ ، ثم سُمِّيت السهامُ مَيْسِراً للمجاورة " واليَسَرُ : الذي يَدْخُل في الضربِ بالقِدَاح ، ويُجْمع على أَيْسار ، وقيل ، بل " يُسَّر " جمع ياسِر كحارِس وحُرَّس وأَحْراس .

وللميسر كيفيةٌ ، ولسهامه - وتُسَمَّى القِداحَ والأزلامَ أيضاً - أسماءٌ لا بُدَّ من ذِكْرها لتوقَّفِ المعنى عليها . فالكيفيةُ أنَّ لهم عشرةَ أقداح وقيل أحدَ عشرَ ، لسبعةٍ منها حظوظٌ ، وعلى كل منها خطوطٌ ، فالخطُّ يقدِّرُ الحَظَّ ، وتلك القداحُ هي : الفَذُّ وله سهمٌ واحد ، والتَّوْءَمُ وله اثنان ، والرقيبُ وله ثلاثةُ ، والحِلْسُ وله أربعةٌ ، والنافِسُ وله خمسةٌ ، والمُسْبِلُ وله ستةٌ ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خطوطَ عليها وهي المَنِيح والسَّفِيح والوَغْدُ ، ومَنْ زاد رابعاً سمَّاه المُضَعَّفُ . وإنما كَثُروا بهذه الأغفالِ ليختلطَ على الحُرْضَة وهو الضاربُ ، فلا يميلُ مع أحدٍ ، وهو رجلٌ عَدْلٌ عندهم ، فيجثوا ويلتحِفُ بثوبٍ ، ويُخْرِج رأسه ، فيجعلُ تلك القداحَ في الرِّبابة وهي الخَريطةُ ، ثم يُخَلْخِلُها ويُدْخِلُ يده فيها ، ويُخْرِجُ باسم رجلٍ رجلٍ قَدَحاً فَمَنْ خَرَجَ على اسمه قدحٌ : فإنْ كانَ من ذوات السهام فاز بذلك النصيبِ وأخذَه ، وإنْ كان من الأغفال غرِّم من الجَزور ، وكانوا يفعلون هذا في الشَّتْوة وضيقِ العيش ، ويُقَسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمون مَنْ لم يَدْخُل معهم فيه : البَرَم ، والجَزورُ تُقْسَمُ عند الجمهور على عددِ القداحِ فتقسَمُ عشرةَ أجزاء ، وعند الأصمعي على عددِ خطوط القداحِ ، فتقسم على ثمانيةٍ وعشرين جزءاً .

وخَطَّأ ابنُ عطية الأصمعيَّ في ذلك ، وهذا عجيبٌ منه ، لأنه يُحْتَمل أنَّ العربَ كانت تقسِّمُها مرةً على عشرةٍ ومرةً على ثمانية وعشرين/ .

وقولُه { عَنِ الْخَمْرِ } لا بد من حذفِ مضافٍ ، إذ السؤالُ عن ذَاتَيْ الخمرِ والميسرِ غيرُ مُرادٍ . والتقدير . عن حكمِ الخمرِ والميسرِ حِلاًّ ، وحُرْمَةً ، ولذلك جاء الجوابُ مناسباً لهذا المُقَدَّرِ .

قوله : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } الجارُّ خبرٌ مقدمٌ ، و " إثمٌ " مبتدأٌ مؤخر ، وتقديمُ الخبرِ هنا ليس بواجبٍ وإن كان المبتدأُ نكرةً ، لأنَّ هنا مسوغاً آخر ، وهو الوصفُ أو العطفُ ، ولا بد من حَذْفِ مضافٍ أيضاً ، أي : في تعاطِيهما إثمٌ ، لأنَّ الإِثمَ ليس في ذاتِهما .

وقرأ حمزةُ الكسائي : " كثيرٌ " بالثاء المثلثة ، والباقونَ بالباء ثانيةِ الحروفِ . ووجهُ قراءةِ الجمهور واضح ، وهو أن الإِثمَ يُوصف بالكِبرَ ، ومنه آية { حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] . وسُمِّيت الموبِقات : " الكبائر " ، ومنه قولُه تعالى : { يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ } [ الشورى : 37 ] ، وشربُ الخمرِ والقمارُ من الكبائرِ ، فناسب وصفُ إثمهما بالكِبَر ، وقد أجمعَتِ السبعةُ على قوله : " وإثْمهما أكبرُ " بالباء الموحَّدة ، وهذه توافقها لفظاً .

وأمَّا وجهُ قراءة الأَخَوَين : فإمَّا باعتبارِ الآثمين من الشاربين والمقامرين فلكلِّ واحدٍ إثمٌ ، وإما باعتبارِ ما يترتب على تعاطيهما من توالي العقابِ وتضعيفه ، وإمّا باعتبارِ ما يترتَّبُ على شُرْبها مِمَّا يصدُر من شاربها من الأقوال السيئة والأفعال القبيحةِ ، وإمَّا باعتبار مَنْ يزاولها من لَدُنْ كانت عِنباً إلى أن شُربَتْ ، فقد لَعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر ، ولعن معها عشرةً : بائِعَها ومُبتاعَها ، فناسَب ذلك أن يُوصَف إثمُها بالكثرةِ . وأيضاً فإن قوله : " إثم " مقابلٌ ل " منافع " و " منافع " جمعٌ ، فناسَبَ أن تُوصفَ مقابلةً بمعنى الجمعية وهو الكَثْرَةُ . وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإِنسانُ في القرآن ، وهو أن يَذْكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيفِ القراءة الأخرى كما فعل بعضهُم ، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءَتَيْ : " مَلِكَ " و " مالِك " .

وقال أبو البقاء : " الأحسنُ القراءةُ بالباء لأنه يُقال : إثمٌ كبير وصغير ، ويُقال في الفواحش العظامِ " الكَبائرُ " ، وفيما دونَ ذلك " الصغائرُ " وقد قرئ بالثاءِ وهو جَيدٌ في المعنى ، لأن الكثرةَ كِبر ، والكثيرَ كبيرٌ ، كما أنَّ الصغيرَ حقيرٌ ويَسيرٌ .

وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه - : " وإثمُهما أكثرُ " بالمثلثة ، وكذلك الأَولى في قراءتِهِ ومصحفه . وفي قراءةِ أُبَيّ : " أقربُ من نفعِهما " .

[ وإثمُهما ونفعُهما مصدران مضافان ] إلى الفاعل ، لأنَّ الخمرَ والميسر سببان فيهما ، فهما فاعلان ، ويجوز أن تكونَ الإِضافةُ باعتبار أنهما مَحَلُّهما . وقد تقدَّم القولُ مستوفىً على قولِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } وقرأ أبو عمرو : " قلِ العفوُ " رفعاً والباقون نصباً . فالرفعُ على أن " ما " استفهاميةٌ ، و " ذا " موصولةٌ ، فوقع جوابُها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوف ، مناسبةً بين الجوابِ والسؤال . والتقدير : إنفاقُكُم العفوُ . والنصب على أنها بمنزلةٍ واحدة ، فيكون مفعولاً مقدماً ، تقديره : أيَّ شيء ينفقون ؟ فوقع جوابُها منصوباً بفعلٍ مقدر للمناسبة أيضاً ، والتقديرُ : أنفقوا العفوَ . وهذا هو الأحسنُ ، أعني أن يُعتقدَ في حالِ الرفع كونُ " ذا " موصولةً ، وفي حال النصب كونُها ملغاة . وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونِها ملغاةً مع رفعِ جوابِها ، وموصولةً مع نصبِهِ . وإنما اختصرْتُ القولَ هنا لأني قد استوفيتُ الكلامَ عليها عند قولِهِ تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ } ومذاهبِ الناسِ فيها ، فأغنى عن إعادِتها .

قوله : { كَذالِكَ يُبيِّنُ } الكافُ في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف أي : تبييناً مثلَ ذلك التبيين يُبَيِّن لكم ، وإمَّا حالاً من المصدرِ المعرفة ، أي : يبِّن التبيينَ مماثلاً ذلك التبيينَ . والمشارُ إليه يبيِّنُ حالَ المُنْفَقِ أو يبِّين حكمَ الخمرِ والميسرِ والمُنْفَقَ المذكور بعدها . وأبْعَدَ مَنْ خَصَّ اسمَ الإِشارة ببيانِ حكمِ الخمر والميسر ، وأَبْعَدُ منه مَنْ جَعَلَه إشارةً إلى جميع ما سبق في السورة من الأحكامِ .

و " لكم " متعلِّقٌ ب " يُبَيِّن " . وفي اللامِ وجهان ، أظهرُهما أنَّها للتبليغ كالتي في : قُلْت لك . والثاني : أنها للتعليلِ وهو بعيدٌ . والكاف في " كذلك " تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ للنبي صلى الله عليه وسلم أو للسامِعِ . فتكونَ على أصلِها من مخاطبة المفرد . والثاني : أن تكونَ خطاباً للجماعةِ فيكونَ ذلك مِمَّا خُوطِبَ به الجمعُ بخطابِ المفردِ ، ويؤيِّده قولُه " لكم " و " لعلكم " ، وهي لغةٌ للعربِ ، يخاطبون في اسم الإِشارة بالكافَ مطلقاً ، وبعضُهم يستغنى عن الميمِ بضمة الكاف ، قال :

945 - وإنَّما الهالِكُ ثم التالِكُ *** ذو حَيْرَةٍ ضاقَتْ به المسالِكُ

كيف يكون النَّوْكُ إلا ذلكُ