الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . . } [ البقرة :219 ] .

السائلُون : هم المؤمنُونَ ، والخَمْر : مأخوذ من خمر ، إِذا ستر ، ومنه : خِمَارُ المَرْأة ، والخَمَرُ : ما واراك من شَجَر ، وغيره ، ومنه قولُ الشاعر : [ الوافر ]

أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا *** فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ

ولما كانت الخمر تستُرُ العَقْل ، وتغطِّي عليه ، سُمِّيت بذلك ، وأجمعت الأمة على تحريمِ خَمْر العِنَبِ ، ووجوبِ الحدِّ في القليلِ والكثيرِ منْه ، وجمهورُ الأمة على أن ما أسكر كثيرُهُ مِنْ غير خَمْرِ العِنَبِ محرَّم قليلُهُ وكثيرُهُ ، والحدُّ في ذلك واجبٌ .

وروي أنَّ هذه الآية أولُ تطرُّق إِلى تحريمِ الخَمْر ، ثم بعده : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] ثم { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ }[ المائدة :91 ] إلى قوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ثم قوله تعالى : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( حُرِّمَتِ الخَمُرْ ) ، ولم يحفَظْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حدِّ الخمر إِلا أنَّه جلد أربعين ، خرَّجه مسلم ، وأبو داود ، وروي عَنْه صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ ضرب فيها ضَرْباً مُشَاعاً ، وحَزَرَهُ أبو بكر أربعين سوطاً ، وعمل بذلك هو ، ثُمَّ عمر ثم تهافَتَ النَّاس فيها ، فشدَّد عليهم الحَدَّ ، وجعله كَأخفِّ الحدود ثَمَانِينَ ، وبه قال مالك .

ويجتنبُ من المضروبِ : الوجْهُ ، والفَرْجُ ، والقَلْب ، والدِّماغ ، والخَوَاصر ، بإِجماع .

قال ابن سِيرِينَ ، والحسنُ ، وابْنُ عَبَّاس ، وابن المُسَيَّب ، وغيرهم : كلُّ قمارٍ مَيْسِرٌ ، مِنْ نَرْدٍ وشِطْرَنْجٍ ، ونحوه ، حتَّى لِعْب الصِّبْيَان بالجَوْز .

( ت ) وعبارةُ الداوديّ : وعن ابْنِ عُمَر : المَيْسِرُ القِمَار كلُّه ، قال ابن عبَّاس : كلُّ ذلك قمارٌ ، حتى لعِبْ الصِّبْيَان بالجَوْز ، والكِعَاب ، انتهى .

وقوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ . . . } [ البقرة :219 ] .

قال ابن عبَّاس ، والرَّبيع : الإِثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعةُ قبله .

وقال مجاهد : المنفعةُ بالخَمْر كسب أثمانها ، وقيل : اللَّذَّة بها ، إِلى غير ذلك من أفراحِها ، ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ ، أنَّ الإِثم أكْبَرُ من النَّفْع ، وأعود بالضَّرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم .

وقوله تعالى : { وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو }[ البقرة :219 ] قال جمهور العلماء : هذه نفقاتُ التطوُّع ، والعفُو مأخوذ من عَفَا الشَّيْء ، إِذا كَثُر ، فالمعنَى : أنفِقُوا ما فَضَل عن حوائجِكُم ، ولم تُؤْذُوا فيه أنفُسَكم ، فتكونوا عالَةً على النَّاس .

وقوله تعالى : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }[ البقرة :219 ] . الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر ، والإِنفاق ، وأخبر تعالى ، أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكْرته .

قال الداوديّ : وعن ابن عبَّاس : ( لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ ) ، يعني : في زوال الدنْيا وفنائِها ، وإِقبال الآخرة وبقائِها ، انتهى .

قال الغَزَّالِيُّ -رحمه اللَّه تَعَالَى- : العَاقِل لا يغفُلُ عن ذكْر الآخرةِ في لَحْظة ، فإِنها مصيره ومستقرُّه ، فيكون لَهُ في كلِّ ما يراه من ماءٍ ، أو نارٍ ، أو غيرهما عبرةٌ ، فإن نظر إلى سوادٍ ، ذكر ظلمة اللَّحْد ، وإِن نَظَر إِلى صورة مروِّعة ، تذكَّر مُنْكَراً ونكيراً والزبانيةَ ، وإِن سمع صوتاً هائلاً ، تذكَّر نفخة الصُّور ، وإِنْ رأى شيئاً حسَناً ، تذكَّر نعيم الجنَّة ، وإِن سمع كلمةَ ردٍّ أو قَبُولٍ ، تذكَّر ما ينكشفُ لَهُ من آخر أمره بعد الحسَابِ ، من ردٍّ أو قبول ، وما أجدر أن يكون هذا هو الغالِبَ على قَلْبِ العاقِلِ ، لا يصرفُهُ عنه إِلاَّ مُهِمَّاتُ الدنيا ، فإِذا نسب مدةَ مُقَامه في الدُّنْيا إِلى مدة مُقَامه في الآخِرة استحقر الدنيا ، إِنْ لم يكُنْ أغفل قلبه ، وأعميتْ بصيرته ، انتهى من «الإِحياء » .