قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . . } [ البقرة :219 ] .
السائلُون : هم المؤمنُونَ ، والخَمْر : مأخوذ من خمر ، إِذا ستر ، ومنه : خِمَارُ المَرْأة ، والخَمَرُ : ما واراك من شَجَر ، وغيره ، ومنه قولُ الشاعر : [ الوافر ]
أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا *** فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ
ولما كانت الخمر تستُرُ العَقْل ، وتغطِّي عليه ، سُمِّيت بذلك ، وأجمعت الأمة على تحريمِ خَمْر العِنَبِ ، ووجوبِ الحدِّ في القليلِ والكثيرِ منْه ، وجمهورُ الأمة على أن ما أسكر كثيرُهُ مِنْ غير خَمْرِ العِنَبِ محرَّم قليلُهُ وكثيرُهُ ، والحدُّ في ذلك واجبٌ .
وروي أنَّ هذه الآية أولُ تطرُّق إِلى تحريمِ الخَمْر ، ثم بعده : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] ثم { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ }[ المائدة :91 ] إلى قوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ثم قوله تعالى : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } [ المائدة : 90 ] فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( حُرِّمَتِ الخَمُرْ ) ، ولم يحفَظْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حدِّ الخمر إِلا أنَّه جلد أربعين ، خرَّجه مسلم ، وأبو داود ، وروي عَنْه صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ ضرب فيها ضَرْباً مُشَاعاً ، وحَزَرَهُ أبو بكر أربعين سوطاً ، وعمل بذلك هو ، ثُمَّ عمر ثم تهافَتَ النَّاس فيها ، فشدَّد عليهم الحَدَّ ، وجعله كَأخفِّ الحدود ثَمَانِينَ ، وبه قال مالك .
ويجتنبُ من المضروبِ : الوجْهُ ، والفَرْجُ ، والقَلْب ، والدِّماغ ، والخَوَاصر ، بإِجماع .
قال ابن سِيرِينَ ، والحسنُ ، وابْنُ عَبَّاس ، وابن المُسَيَّب ، وغيرهم : كلُّ قمارٍ مَيْسِرٌ ، مِنْ نَرْدٍ وشِطْرَنْجٍ ، ونحوه ، حتَّى لِعْب الصِّبْيَان بالجَوْز .
( ت ) وعبارةُ الداوديّ : وعن ابْنِ عُمَر : المَيْسِرُ القِمَار كلُّه ، قال ابن عبَّاس : كلُّ ذلك قمارٌ ، حتى لعِبْ الصِّبْيَان بالجَوْز ، والكِعَاب ، انتهى .
وقوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ . . . } [ البقرة :219 ] .
قال ابن عبَّاس ، والرَّبيع : الإِثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعةُ قبله .
وقال مجاهد : المنفعةُ بالخَمْر كسب أثمانها ، وقيل : اللَّذَّة بها ، إِلى غير ذلك من أفراحِها ، ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ ، أنَّ الإِثم أكْبَرُ من النَّفْع ، وأعود بالضَّرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم .
وقوله تعالى : { وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو }[ البقرة :219 ] قال جمهور العلماء : هذه نفقاتُ التطوُّع ، والعفُو مأخوذ من عَفَا الشَّيْء ، إِذا كَثُر ، فالمعنَى : أنفِقُوا ما فَضَل عن حوائجِكُم ، ولم تُؤْذُوا فيه أنفُسَكم ، فتكونوا عالَةً على النَّاس .
وقوله تعالى : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }[ البقرة :219 ] . الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر ، والإِنفاق ، وأخبر تعالى ، أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكْرته .
قال الداوديّ : وعن ابن عبَّاس : ( لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ ) ، يعني : في زوال الدنْيا وفنائِها ، وإِقبال الآخرة وبقائِها ، انتهى .
قال الغَزَّالِيُّ -رحمه اللَّه تَعَالَى- : العَاقِل لا يغفُلُ عن ذكْر الآخرةِ في لَحْظة ، فإِنها مصيره ومستقرُّه ، فيكون لَهُ في كلِّ ما يراه من ماءٍ ، أو نارٍ ، أو غيرهما عبرةٌ ، فإن نظر إلى سوادٍ ، ذكر ظلمة اللَّحْد ، وإِن نَظَر إِلى صورة مروِّعة ، تذكَّر مُنْكَراً ونكيراً والزبانيةَ ، وإِن سمع صوتاً هائلاً ، تذكَّر نفخة الصُّور ، وإِنْ رأى شيئاً حسَناً ، تذكَّر نعيم الجنَّة ، وإِن سمع كلمةَ ردٍّ أو قَبُولٍ ، تذكَّر ما ينكشفُ لَهُ من آخر أمره بعد الحسَابِ ، من ردٍّ أو قبول ، وما أجدر أن يكون هذا هو الغالِبَ على قَلْبِ العاقِلِ ، لا يصرفُهُ عنه إِلاَّ مُهِمَّاتُ الدنيا ، فإِذا نسب مدةَ مُقَامه في الدُّنْيا إِلى مدة مُقَامه في الآخِرة استحقر الدنيا ، إِنْ لم يكُنْ أغفل قلبه ، وأعميتْ بصيرته ، انتهى من «الإِحياء » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.