محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

{ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون 219 } .

{ يسألونك عن الخمر والميسر } هذه الآية أول آية نزلت في الخمر ، على ما قاله ابن عمر والشعبيّ ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم . ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية التي في المائدة .

وروى الإمام أحمد{[1252]} وأبو داود{[1253]} والترمذي{[1254]} عن عمر أنه قال ( لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ! فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يسألونك عن الخمر والميسر . . . } الآية . فدعي عمر في الخمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزلت / الآية التي في النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن : لا يقربنّ الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ { فهل أنتم منتهون } قال عمر : انتهينا انتهينا ) .

وحقيقة الخمر ما أسكر من كل شيء روى ( الشيخان ) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال{[1255]} : ( كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يُدمنها لم يتب منها ، لم يشربها في الآخرة ) .

وأما الميسر فهو القِمار بكسر القاف مصدر من يَسَرَ كالموعد والمرجع من فعلهما يقال : يَسَرْته إذا قمرته ، واشتقاقه من ( اليُسْر ) لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب ، أو من ( اليسار ) لأنه سلب يساره .

وصفته : أنه كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام والأقلام وهي :

( الفذّ ، والتوأم ، والرقيب ، والحِلْس ، بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وككَتِف والنافس ، والمُسْبِل ، كمُحْسِن والمُعَلَّى كمُعَظَّم ، والمنيح كأمير ، والسّفيح بوزن ما قبله ، والوغد ) لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزّئونها عشرة أجزاء ( كما قاله أبو عمر ) أو ثمانية وعشرين جزءا ( كما قاله الأصمعيّ ) وهو الأكثر ، إلا ثلاثة منها وهي ( المنيح والسفيح والوغد ) فلا أنصباء لها . وإنما يكثر بها القداح كراهة التهمة . ولبعضهم :

لي في الدنيا سهام *** ليس فيهن ربيح

وأساميهن : وغد *** وسفيح ومنيح

/ فللفذّ سهم أي : فرض واحد وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحِلْس أربعة وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلّى سبعة يجعلونها في الربابة ( وهي خريطة ) ويضعونها على أيدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج ، باسم رجل رجل ، قدحا منها . فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله . وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البَرَم ( بفتحتين ) . كذا في ( الكشاف ) بزيادة .

وفي ( القاموس وشرحه ) : ( الميسر ) اللعب بالقداح ، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها . كانوا إذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزورا نسيئة ونحروه وقسّموه ثمانية وعشرين قسما أو عشرة أقسام فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء وغرم من خرج له الغفل . وإنما سمي الجزور ميسرا لأنه يجزّأ أجزاء . وكل شيء جزأته فقد يَسَرْته ؛ ويسرت الناقة جزأت لحمها ، ويسر القوم الجزور أي : اجتزروها واقتسموا أجزاءها . قال سُحَيْم بن وُثَيْلٍ اليَربوعيّ :

أقول لهم بالشِّعب إذ يَيْسِرُونني*** ألم تعلموا أني ابن فارس زَهْدَمِ ؟

كان وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام . وقوله ( ييسرونني ) هو من الميسر ، أي : يجزونني ويقتسمونني . وقال لبيد :

واعفف عن الجارات وامنح*** هن ميسرك السمينا !

فجعل الجزور نفسه ميسِراً . ونقل الصاغاني ، أن الميسر النرد . وقال مجاهد : كل شيء فيه قمار فهو من الميسر . حتى لعب الصبيان بالجوز .

{ قل فيهما إثم كبير } أي : عظيم وقرئ بالمثلثة وذلك لما فيهما من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع . من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير { ومنافع / للناس } دنيوية من اللذة والطرب والتجارة في الخمر ، وإصابة المال بلا كد في الميسر . وفي تقديم بيان إثمه ، ووصفه بالكِبَر ، وتأخير ذكر منافعه ، مع تخصيصها بالناس ، من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى على ما نطق به قوله تعالى : { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي : المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه ، أي : لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين . وفي هذا من التنفير عنها ما لا يخفى . ولهذا ، كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرّضة ؛ ولهذا ، قال عمر لما قرئت عليه : ( اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ! ) حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } {[1256]} .

تنبيه :

ألّف كثير من أعلام الأطباء والفلاسفة مؤلفات خاصة في مضرّات المسكرات . ولم تزل تعقد في بعض ممالك النصارى مؤتمرات دولية ، تدعى إليه نواب من جميع دول العالم الكبيرة لمحاربة المسكرات ، وعِيافها ، وإعلان تأثيرها في الأجساد والعقول والأرواح ، وما ينشأ عنها من الخسران الماليّ . ومما قرره خمسون طبيبا منهم هذه الجمل :

1 إن المسكرات لا تروي الظمأ بل تزيده .

2 إنها لا تفيد شيئا في قضاء الأعمال .

3 إنها توقف النمو العقلي والجسدي في الأولاد .

4 إنها تضعف قوة الإرادة فتفضي إلى ارتكاب الموبقات ، وتجرّ إلى الفقر والشقاء .

5 هي من المسكنات كالبنج والإيثر .

/ 6 إنها تعدّ للأمراض المعدية .

7 إنها تعدّ بنوع خاص للتدرّن والسلّ .

8 إنها تضر في ذات الرئة والحمّى التيفودية أكثر مما تنفع .

9 إنها تقرّب النهاية المحزنة في الأمراض التي تنتهي بالموت . وتطيل مدة الشفاء في الأمراض التي تنتهي بالصحة .

10 إنها تعدّ لضربة الشمس والرعْن في أيام الحر .

11 إنها تسرع بإنفاق الحرارة في أيام البرد .

12 إنها تغير مادة القلب والأوعية الدموية .

13 إنها كثيرا ما تسبب التهاب الأعصاب ، والآلام المبرّحة .

14 إنها تسرع بحويصلات الجسم إلى الهدم .

15 إن المقدار العظيم الذي يتناوله أصحاب الأعمال الجسدية من أشربتها هو سبب شقائهم وفقرهم وذهاب صحتهم .

16 إن الامتناع عنها يفضي إلى صحة وسعادة الجنس البشري .

{ ويسألونك ماذا ينفقون } أي : يتصدقون به من أموالهم { قل العفو } وهو ما يفضل عن النفقة ، أي : الفاضل الذي يمكن التجاوز عنه لعدم الاحتياج إليه .

وفي ( الصحيحين ) {[1257]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول ) .

وأخرج مسلم{[1258]} عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فضل / شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ) .

وروى أبو داود{[1259]} والنسائي{[1260]} عن أبي هريرة قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عندي دينار ، قال : أنفقه على نفسك . قال عندي آخر ، قال : أنفقه على ولدك . قال : عندي آخر ، قال : أنفقه على أهلك . قال : عندي آخر ، قال : أنفقه على خادمك . قال : عندي آخر ، قال : أنت أعلم ) .

{ كذلك } أي : كما بين لكم ما ذكر { يبين الله لكم الآيات } أي : الأمر والنهي وهوانَ الدنيا { لعلكم تتفكرون } .


[1252]:أخرجه أحمد في المسند. الصفحة 53 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) حديث 378 (طبعة المعارف).
[1253]:أخرجه أبو داود في: 25 ـ كتاب الأشربة، 1 ـ باب في تحريم الخمر، حديث 3670.
[1254]:أخرجه الترمذي في: 44 ـ كتاب التفسير، 5 ـ سورة المائدة، 8 ـ باب حدثنا عبد بن حميد.
[1255]:أخرجه مسلم في: 36 ـ كتاب الأشربة، حديث 73 (طبعتنا). ولم يخرجه البخاري عن ابن عمر.
[1256]:[5/ المائدة/ 90 و91].
[1257]:أخرجه البخاري في: 69 – كتاب النفقات، 2 – باب وجوب النفقة على الأهل والعيال، حديث 762. ولم يخرجه مسلم.
[1258]:أخرجه مسلم في: 12 ـ كتاب الزكاة، حديث 41 (طبعتنا) ونصه: عن جابر قال: (أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دُبُر. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ فقال: لا. فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نُعَيْم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم. فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: ابدأ بنفسك..) إلخ.
[1259]:أخرجه أبو داود في: 9 ـ كتاب الزكاة، 45 ـ باب صلة الرحم، حديث 1691.
[1260]:أخرجه النسائي في: 23 ـ كتاب الزكاة، 54 ـ باب تفسير ذلك (أي الصدقة عن ظهر غنى) وهو ترجمة الباب السابق.