التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

قوله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ) .

جاء في سبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعا الله في شأن الخمر قائلا : اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل قوله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر ) فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فنزلت الآية التي في النساء ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فكان منادي رسول الله ( ص ) إذا أقام الصلاة ونادى : أن لا يقربّن الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : الله بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) فقال عمر : انتهينا انتهينا{[296]} .

أما الخمر فهي مأخوذة من الفعل خمر أي سكر . ومنه خمار المرأة وهو ما يستر الرأس والجيب ، وسميت خمرة ؛ لأنها تستر العقل وتغطيه بتأثيرها وفعاليتها{[297]}

على أن الخمر يصنع من ماء العنب إذا طبخ وغلي ، ومن غير العنب إذا خامر العقل أو أسكر . وبذلك فمذهب الجمهور من علماء المسلمين أن ما كان من غير العنب إذا أسكر كثيره فإن قليله كذلك حرام استنادا إلى ما رواه الترمذي وأحمد وأبو داود عن ابن عمرو عن النبي ( ص ) قوله : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وقوله : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " وهو ما رواه مسلم وأحمد وأبو دود والنسائي عن ابن عمر .

وذهب آخرون منهم أبو حنيفة وابن شبرمة والثوري وغيرهم إلى أن غير خمر العنب إذا كان قليله غير مسكر فهو مباح{[298]} . وبعبارة أخرى فإن ما كان من غير خمر العنب إذا كان كثيره هو المسكر دون قليله فإن قليله إذا مباح . وهم في ذلك يعتمدون على الحديث : " إنما الخمر من هذه " إشارة إلى العنب وحده . ولا نرى ذلك إلا مرجوحا لا يمكن الاطمئنان إليه . فالراجح هو القول الأول .

وأما الميسر فهو لغة قمار العرب بالأزلام . وهو من اليسر ، بفتح الياء والسين ، ومعناه وجوب الشيء لصاحبه . والياسر هو اللاعب بالقداح ، وقيل هو نقيض اليامن ( من اليمين ) . ويشمل الميسر كل وجوه القمار كالنرد والشطرنج واليانصيب وغير ذلك من أصناف اللعب المقترن بالكسب الحرام{[299]} .

وقوله : ( قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) وإثم الخمر كبير حقا . وهو ما يترتب على الشرب من فاسد الخلق كالشتم والغيبة والقذف والنيل من أعراض الناس وكراماتهم وكذلك الكذب والزور وفاحش القول والخصام ، ومن إثمه أن يفرط الشارب في الصلاة وأن يفتقد من شخصه كل ظاهرة من ظواهر التوازن أو الضبط والوعي .

ومن جليل ما يذكر في عاقبة الخمر ما رواه النسائي عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- قال : اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد ، فعلقته امرأة غوية ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذه الخمر كأسا أو تقتل هذا الغلام . قال : فاسقيني من هذه الخمر كأسا فسقته كأسا . قال : زيدوني فلم يرم ( يبرح ) حتى وقع عليها وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر ، فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه .

أما إثم الميسر فهو كذلك كبير . وهو ينشأ عن مفاسد القمار في تلويث الصدور وإتراعها بالحسد والكراهية والرغبة في الانتقام من اللاعب المقامر الأخر لكسب ماله وإغاظته . وغير ذلك من مفاسد كالخصومات والعداوات والمباغضات وتوتر الأعصاب وشحن النفوس بالحقد . وتلك مفاسد وأضرار توقع المقامرين في الإثم الكبير .

أما نفع الخمر والميسر فهو هيّن صغير إذا ما قيس بمفاسد الخمر والميسر وأضرارهما وما يقتضيه ذلك من كبير الإثم . ونفع الخمرة كما قيل يظهر في نشوتها واستمتاع السكارى بها وما تبعث فيهم من النسيان أثناء الشرب وعقيبه . وأما نفع الميسر فلا يعدو كسبا للمال يحرزه المقامر الكاسب إذا ما أوتي حظا من البراعة أو الحيلة في اللعب . ومثل هذا النفع لكلا المحظورين يكاد لا يُذكر لدى المقارنة بالضرر الفادح الناجم عنهما ؛ لذلك يقول سبحانه في تعبير قصير واضح : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) .

وجدير بالقول هنا أن بعض العلماء استدلوا بهذه الآية على تحريم الخمر ؛ لتسميتها إثما ؛ ولا يكون الإثم إلا حراما . ونحسب أن هذا الحكم وتوجيهه ضعيفان . ولا نستطيع أن نحكم بتحريم الخمر بناء على ما جاء في الآية أن الخمر فيها إثم ، ولم يقل إنها إثم . والصواب في ذلك أن الآية جاءت في ذم الخمر لا تحريمها ، أما الحريم فقد علم من آية أخرى وهي آية المائدة .

قوله : ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) السؤال ههنا عن حجم النفقة أو مقدارها ، والجواب ( العفو ) مرفوع على الإخبار لمبتدأ تقديره هو . وقرئ بالنصب على المفعولية لفعل تقديره ينفقون .

ومما قيل في تأويل العفو ما ذكر عن جماعة بأنه ما فضل عن العيال ، وهو مروي عن ابن عباس . وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظهر غنى . وقيل : المراد بالعفو الزكاة المفروضة ، وهو قول مرجوح ، فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن العفو هنا يدخل في نطاق التطوع .

ويمكن استخلاص الصواب من القول في المراد من العفو ، وهو أنه الفضل ، فما فضل عن الحوائج ولم يكن في أدائه ما يؤذي النفس أو العيال فهو عفو . ويمكن الاستئناس لذلك بقول النبي ( ص ) : " خير الصدقة ما أنفقت عن غنى " وأخرج الإمام مسلم في ذلك عن جابر أن رسول الله ( ص ) قال لرجل : " ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " وذلك ما يدفع القول بنسخ هذه الآية . فالصحيح أنها محكمة غير منسوخة بآية الزكاة . ومما هو معلوم في قواعد الشريعة أن المسلم يبيت مكلفا بالتصديق بما يفضل عن الحاجة إذا دهمت المسلمين ظروف عصيبة شاذة عم فيها الفقر ومست الحاجة . وفي الحديث الشريف : " إن في المال حقا سوى الزكاة " .

219


[296]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 44 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 255.
[297]:- المصباح المنير جـ 1 ص 195.
[298]:- تفسير القرطبي جـ 3 ص 52 وبداية المجتهد جـ 1 ص 406، 407.
[299]:- مختار الصحاح ص 473.