قوله تعالى : { ها أنتم } . ها تنبيه ، وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور .
قوله تعالى : { أولاء } . اسم للمشار إليهم ، يريد أنتم أيها المؤمنون .
قوله تعالى : { تحبونهم } . أي : تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من القرابة والرضاع والمصاهرة .
قوله تعالى : { ولا يحبونكم } . لما بينكم من مخالفة الدين ، وقال مقاتل : هم المنافقون يحبهم المؤمنون لما أظهروا من الإيمان ، ولا يعلمون ما في قلوبهم .
قوله تعالى : { وتؤمنون بالكتاب كله } . يعني : بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم .
قوله تعالى : { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا } . وكان بعضهم مع بعض .
قوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } . يعني : أطراف الأصابع واحدتها أنملة بضم الميم وفتحها من الغيظ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ، وعض الأنامل عبارة عن شدة الغيظ وهذا من مجاز المثال ، وإن لم يكن ثم عض .
قوله تعالى : { قل موتوا بغيظكم } . أي : ابقوا إلى الممات بغيظكم .
قوله تعالى : { إن الله عليم بذات الصدور } . أي بما في القلوب من خير وشر .
قال الله مهيجا للمؤمنين على الحذر من هؤلاء المنافقين من أهل الكتاب ، ومبينا شدة عداوتهم { هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } أي : جنس الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه وهم لا يؤمنون بكتابكم ، بل إذا لقوكم أظهروا لكم الإيمان { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل } وهي أطراف الأصابع من شدة غيظهم عليكم { قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور } وهذا فيه بشارة للمؤمنين أن هؤلاء الذين قصدوا ضرركم لا يضرون إلا أنفسهم ، وإن غيظهم لا يقدرون على تنفيذه ، بل لا يزالون معذبين به حتى يموتوا فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة .
{ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفار وتحبونهم ولا يحبونكم ، بيان لخطئهم في موالاتهم ، وهو خبر ثان أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك : أنت زيد تحبه ، أو صلته أو حال والعامل فيها معنى الإشارة ، ويجوز أن ينصب أولاء بفعل مضمر يفسره ما بعده وتكون الجملة خبرا . { وتؤمنون بالكتاب كله } بجنس الكتاب كله ، وهو حال من لا يحبونكم والمعنى : إنهم لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم أيضا فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . { وإذا لقوكم قالوا آمنا } نفاقا وتغريرا { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } من أجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلا . { قل موتوا بغيظكم } دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به . { إن الله عليم بذات الصدور } فيعلم ما في صدورهم من البغضاء والحنق ، وهو يحتمل أن يكون من المقول أي وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا ، وأن يكون خارجا عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم .
تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفاً : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم } [ آل عمران : 66 ] والضمير في { تحبونهم } لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله : { بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] والضمير في هذه الآية اسم للجنس ، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم ، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم إياهم ، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم ، وقوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل } عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي طالب{[3459]} : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يعضُّون غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ
ومنه قول الآخر : [ الفرزدق ] :
وَقَدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا . . . قُتَيْبَةَ إلاَّ عَضَّها بِالأَباهِمِ{[3460]}
وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة ، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس النادمة فقط ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه ، ويكتب هذا العض بالضاد ، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة وواحد «الأنامل » أنملة بضم الميم ، ويقال بفتحها والضم أشهر ، ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد ، له نظائر في الجموع ، وقوله { وتؤمنون بالكتاب كله } يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب ، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب يفعلون ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي{[3461]} فلم يبق إلا أن قولهم : { آمنا } معناه : صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم ، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة ، وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه ، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم { آمنا } ، «عض الأنامل من الغيظ » ، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم }{[3462]} بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة ، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الإباضية{[3463]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : { قل موتوا بغيظكم } ، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين : هو دعاء عليهم .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة ، قال قوم : بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة ، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو :
وننمي في أرومتنا *** ونفقأ عين من حسدا{[3464]}
وينظر إلى هذا المعنى في قوله ، { موتوا بغيظكم } قوله تعالى : { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع }{[3465]} ، وقوله : { إن الله عليم بذات الصدور } وعيد يواجهون به على هذا التأويل الأخير في { موتوا بغيظكم } و «ذات الصدور » : ما تنطوي عليه ، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن بنت خارجة{[3466]} ، ومنه قولهم : الذيب مغبوط بذي بطنه{[3467]} ، وال «ذات » : لفظ مشترك في معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه .