اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هَـٰٓأَنتُمۡ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا يُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ عَضُّواْ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۚ قُلۡ مُوتُواْ بِغَيۡظِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (119)

قوله تعالى : { هَآأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ } قد تقدم نظيره .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " ها " للتنبيه ، و " أنْتُمْ " مبتدأ و " أولاءِ " خبره ، و " تُحِبُّونَهُمْ " في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة .

ويجوز أن يكون " أولاء " بمعنى : الذي ، و " تُحِبُّونَهُمْ " صلة له ، والموصول مع الصلة خبر .

قال الفرَّاء : " أولاَءِ " خبر ، و " يحبونهم " خبر بعد خبر .

ويجوز أن يكون " أولاء " في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ، نحو : أنا زيداً ضربته .

قوله : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } يحتمل أن يكون استئناف إخبار ، وأن يكون جملة حالية .

فصل

قال المُفَضَّل : " تحبّونهم " تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، و { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، وهو يوجب الهلاك .

وقيل : { يُحِبُّونَهُمْ } بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة ، والرضاع ، و المصاهرة ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } لأجل الإسلام .

وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب إظهارهم لكم الإسلام { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم .

وقال أبُو العَالِيَةِ ، ومُقَاتِلٌ : المحبة - هاهنا - بمعنى : المصافاة ، أي : أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم ، ولا يصافونكم ؛ لنفاقهم .

وقال الأصمّ : { تُحِبُّونَهُمْ } بمعنى : أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات ، والمحن ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بمعنى : أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن ، ويتربصون بكم الدوائر .

وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يبغضون الرسول ، ومحب المبغوض مبغوض .

وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } أي : تخالطونهم ، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يفعلون ذلك بكم .

قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس ، والمعنى : بالكتب كلها ، فاكتفى بالواحد .

وقيل : أفرد الكتاب ؛ لأنه مصدر ، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع .

وقيل : إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل ، فلهذا لم يَقُل : الكتب - بدلاً من الكتاب - ، وإن كان لو قاله لجاز ، توسعاً .

ويجوز أن يكون للعهد ، والمراد به : كتاب مخصوص .

وهنا جملة محذوفة ، يدل عليها السياق ، والتقدير : { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } ، وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وحَسُنَ العطفُ ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر ، وتقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها ، وهم - مع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ .

وفيه توبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم .

قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } ومعناه : إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين ، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل ، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه ، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه ، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب ، وإن لم يكن هناك عض .

قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلق ب " عَضُّوا " ، وكذلك { مِنَ الْغَيْظِ } و " مِنْ " فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون بمعنى اللام ، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي : من أجل الغيظ . -

وجوز أبو البقاء - في " عَلَيْكُمْ " ، وفي { مِنَ الْغَيْظِ } - أن يكونا حالين ، فقال : " ويجوز أن يكون حالاً ، أي : حنقين عليكم من الغيظ . و { مِنَ الْغَيْظِ } متعلق ب " عَضُّوا " أيضاً ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي : مغتاظين " . انتهى .

وقوله : و " من " لابتداء الغاية - أي : من أجل الغيظ كلام متنافر ؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى : " من أجل " ، فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة ، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا ؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة .

والعَضّ : الأزم بالأسنان ، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض ، يقال : عَضِضْتُ - بكسر العين في الماضي - أعَضُّ - بالفتح – عَضًّا ، وعضِيضاً .

قال امرؤ القيس : [ الطويل ]

. . . *** كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ{[5835]}

ويعبر به عن الندم المفرط - ومنه : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } [ الفرقان : 27 ] - وإن لم يكن ثم عَضٌّ حقيقة .

قال أبو طالب : [ الطويل ]

وَقَدْ صَالَحُوا قَوْماً عَلَينَا أشِحَّةً *** يَعَضُّونَ غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأنَامِلِ{[5836]}

جعل الباء زائدة في المفعول ؛ إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل .

وقال آخر : [ المتقارب ]

قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ *** فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا{[5837]}

وقال الحارث بن ظالم المري : [ الطويل ]

وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً *** يَعُضُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ{[5838]}

وقال آخر : [ البسيط ]

إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ *** عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ{[5839]}

والعَضّ كله بالضاد ، إلا في قولهم : عَظَّ الزمان - أي : اشتد - وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء - أخت الطاء- .

قال الشاعر : [ الطويل ]

وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ{[5840]}

قال شهاب الدين : " وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : وعضُّ زمان – بالضاد " .

والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره ، ومنه : بَعير عُضَاضِيّ - أي : سمين - كأنه منسوب إليه ، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك ، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية ، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته .

وزمن عضوض - أي : جدب ، والتَّعْضوض : نوع من التمر ، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته .

والأنامل : جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع .

قال الرُّماني : واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها ، وسرعة تصرفها وحركتها ، ومنه قالوا للنمام : " نمل ومنمل " لذلك .

قال الشاعر : [ المتقارب ]

وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ *** وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ{[5841]}

وفي ميمها الضم والفتح .

والغيظ : مصدر غاظه ، يغيظه - أي : أغضبه - . وفسره الراغب{[5842]} بأنه أشد الغضب ، قال : وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه . وإذا وصف به الله تعالى ، فإنما يراد به الانتقام . والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت ، قال تعالى : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] ، والجملة من قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ } معطوفة على { تُحِبُّونَهُمْ } ، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة .

قال الزمخشري : والواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم - مع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم .

قال أبو حيان{[5843]} : " وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال ، تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز : ويضحك ، فأما قولهم : قمت وأصُكُّ عينه ، ففي غاية الشذوذ ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ ، أي : وأنا أصُكّ عينه ، فتصير الجملة اسمية ، ويحتمل هذا التأويل هنا : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف " .

يعني : فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف ، بخلاف تقديره مبتدأ ، فإنه على خلاف الأصل .

قوله : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } يجوز أن تكون الباء للحال ، أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة الإسلام وفُشوِّه ؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم ، ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غَيْظكم ، وليس بالقويّ .

وقوله : { مُوتُواْ } صورته أمر ومعناه الدعاء ، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم ، حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ : ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام ، وعِزِّ أهْلِه ، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ ، والخِزْي ، والعار .

وقيل : معناه الخبر ، أي : أن الأمر كذلك .

وقد قال بعضهم : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى : الدعاء ؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة ؛ فإنَّ دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ ، [ وليس بخبر ] {[5844]} ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره ، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ ، والتهديد ، كقوله تعالى : { اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] و " إذَا لَمْ تَسْتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ{[5845]} " .

وهذا - الذي قاله - ليس بشيء ؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر ، إن قُصِد به الإخبار .

قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر - تعالى - بذلك ؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن يكون من جملة المقول ، أي : قُلْ لهم : كذا ، وكذا ، فيكون في محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : { بِذَاتِ } أي : بالمُضْمَرات ، ذوات الصدور ، ف " ذَات " - هنا - تأنيث " ذي " بمعنى صاحب ؛ فحُذِف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ، أي : عَلِيمٌ بالمضمرات صاحبة الصدُور ، و " ذو " جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها ، وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب النار ، وأصحاب الجنة .

والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب من الدواعي ، والصوارف الموجودة فيه .

واختلفوا في الوقف على هذه اللفظة ، هل يوقف عليها بالتاء ، أو بالهاء ؟ .

فقال الأخفش ، والفَرَّاءُ ، وابن كيسان : الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف .

وقال الكسائي ، والجَرْمِيّ : يوقف عليها بالهاء ، لأنها تاء تأنيث ، كهي في صاحبة ، وموافقة الرسم أوْلَى ؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء ، وافقنا تلك اللغة ، والرسم ، بخلاف عكسه .


[5835]:هذا عجز بيت وصدره: له قصريا عير وساقا نعامة *** ... ينظر ديوانه (75) والدر المصون 2/197.
[5836]:ينظر البيت في ديوانه ص 101 والروض الأنف 2/13 والسيرة النبوية 1/272 والمقتضب 4/90 والدر المصون 2/197.
[5837]:البيت لصخر الغي –ينظر ديوان الهذليين 2/73 وزاد المسير 4/348 وشرح أشعار الهذليين 1/299 والدر المصون 2/197.
[5838]:ينظر البيت في شواهد الكشاف 4/19، والبحر المحيط 2/44 والدر المصون 197.
[5839]:البيت للفرزدق ينظر ديوانه 2/358 والبحر المحيط 3/44 والتاج 8/208 والقرطبي 4/182 واللسان (بهم) والدر المصون 2/197.
[5840]:تقدم.
[5841]:ينظر البيت في الدرر 6/165، وشرح شواهد المغني 2/869، ولسان العرب (نمش)، ومغني اللبيب 2/477، وهمع الهوامع 2/142، والدر المصون 2/198.
[5842]:ينظر: المفردات 282.
[5843]:ينظر: البحر المحيط 3/43.
[5844]:في أ: ولا يجوز أن يكون بمعنى الخبر.
[5845]:أخرجه البخاري (10/523) كتاب الأدب باب إذا لم تستح فاصنع ما تشاء رقم (6120) وأبو اود (4/252) رقم (4797) وابن ماجه (2/1400) كتاب الزهد باب الحياء (4183) والبغوي في "شرح السنة" (1/76).