قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود } . أي خرج بهم ، وأصل الفصل : القطع ، يعني قطع مستقره شاخصاً إلى غيره ، فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود ، وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل وقيل : ثمانون ألفاً لم يتخلف عنه إلا كبير لهرمه ، أو مريض لمرضه ، أو معذور لعذره وذلك أنهم لما رأوا التابوت لم يشكو في النصر ، فتسارعوا إلى الجهاد ، فقال طالوت : لا حاجه لي في كل ما أرى ، لا يخرج معي رجل يبني بناء لم يفرغ منه ، ولا صاحب تجارة يشتغل بها ولا رجل عليه دين ، ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ، ولا يتبعني إلا الشباب النشيط الفارغ ، فاجتمع له ثمانون ألفا ممن شرطه ، وكان في حر شديد ، فشكوا قلة الماء بينهم وبين عدوهم فقالوا : إن المياه قليلة لت لا تحملنا ، فادع الله أن يجري لنا نهراً .
قوله تعالى : { قال } . طالوت .
قوله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر } . مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم . بنهر ، قال ابن عباس والسدي : هو نهر فلسطين ، وقال قتادة . نهر بين الأردن وفلسطين عذب .
قوله تعالى : { فمن شرب منه فليس منه } . أي ليس من أهل ديني وطاعتي .
قوله تعالى : { ومن لم يطعمه } . لم يشربه .
قوله تعالى : { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } . قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو " غرفة " بفتح الغين ، وقرأ الآخرون بضم الغين ، وهما لغتان ، قال الكسائي : " الغرفة " بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف ، و " الغرفة " : بالفتح الاغتراف فالضم اسم والفتح مصدر .
قوله تعالى : { فشربوا منه إلا قليلاً منهم } . نصب على الاستثناء ، واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا ، فقال السدي : كانوا أربعة آلاف وقال غيره : ثلاثمائة وبضعة عشر ، وهو الصحيح لما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن رجاء أنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوزا معه إلا مؤمن ، وهم بضعة عشر وثلاثمائة . وروى ثلاثمائة وثلاثة عشر فلما وصلوا إلى النهر وقد ألقى الله عليهم العطش فشرب منه الكل إلا هذا العدد القليل فمن اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه ، وصح إيمانه وعبر النهر سالماً ، وكفته تلك الغرفة الواحد لشربه وحمله وداوبه والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم ، وغلبهم العطش ، فلم يرووا . وبقوا على شط النهر وجنبوا عن لقاء العدو فلم يجاوزوا ، ولم يشهدوا الفتح . وقيل كلهم جاوزوا ، لكن لم يحضر القتال إلا الذين لم يشربوا .
قوله تعالى : { فلما جاوزه } . يعني النهر .
قوله تعالى : { هو } . يعني طالوت .
قوله تعالى : { والذين آمنوا معه } . يعني القليل .
قوله تعالى : { قالوا } . يعني الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شك ونفاق .
قوله تعالى : { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } . وقال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي : فانحرفوا ولم يجاوزوا .
قوله تعالى : { قال الذين يظنون } . يستيقنون .
قوله تعالى : { أنهم ملاقو الله } . وهم الذين ثبتوا مع طالوت .
قوله تعالى : { كم من فئة } . جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه ، وجمعه وفئات ، وفئون في الرفع ، وفئين في الخفض والنصب .
قوله تعالى : { قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } . بقضائه وقدره وإرادته .
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ }
أي : لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم ، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما غفيرا ، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال : { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني } فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته { ومن لم يطعمه } أي : لم يشرب منه فإنه مني { إلا من اغترف غرفة بيده } فلا جناح عليه في ذلك ، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه ، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان ، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه ، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة ، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله ، وتضرعا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم ، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم ، فلهذا قال تعالى : { فلما جاوزه } أي : النهر { هو } أي : طالوت { والذين آمنوا معه } وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا . . . قلتهم وكثرة أعدائهم ، قالوا أي : قال كثير منهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لكثرتهم وعَددهم وعُددهم { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } أي : يستيقنون ذلك ، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم ، وآمرين لهم بالصبر { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } أي : بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى ، والعزيز من أعزه الله ، والذليل من أذله الله ، فلا تغني الكثرة مع خذلانه ، ولا تضر القلة مع نصره ، { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة والتوفيق ، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله .
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد ، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق . . والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص يترك هنا فجوة بين المشهدين . فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود :
( فلما فصل طالوت بالجنود قال : إن الله مبتليكم بنهر . فمن شرب منه فليس مني ، ومن لم يطعمه فإنه مني - إلا من اغترف غرفة بيده . فشربوا منه إلا قليلا منهم ) . .
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل . . إنه مقدم على معركة ؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة . وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة . هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة . الإرداة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق ، وتستعلي على الضرورات والحاجات ، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها ، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء . . فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه ، وصموده وصبره : صموده أولا للرغبات والشهوات ، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب . . واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش . ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ، ويؤثر العافية . . وصحت فراسته :
( فشربوا منه إلا قليلا منهم ) . .
شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده ، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم . انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم . وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف ، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة . والجيوش ليست بالعدد الضخم ، ولكن بالقلب الصامد ، والإرادة الجازمة ، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ؛ ولا بد من التجربة العملية ، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها . ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى . . بل مضى في طريقه .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت - إلى حد - ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :
( فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) . .
لقد صاروا قلة . وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته : بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة . تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم ، فاتصلت بالله قلوبهم ؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم ، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية :
( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . والله مع الصابرين ) . .
هكذا . ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ) . . بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة : أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله : ( بإذن الله ) . . ويعللونه بعلته الحقيقية : ( والله مع الصابرين ) فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل . .
يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفًا فالله أعلم ، أنه قال : { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم [ بِنَهَر ]{[4247]} } قال ابن عباس وغيره : وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني : نهر الشريعة المشهور { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } أي : فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } أي : فلا بأس عليه قال الله تعالى { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ } قال ابن جريج : قال ابن عباس : من اغترف منه بيده روي ، ومن شرب منه لم يرو . وكذا رواه السدي عن أبي مالك ، عن ابن عباس . وكذا قال قتادة وابن شوذب .
وقال السدي : كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال .
وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومِسْعَر{[4248]} بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء بن عازب قال : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ، وما جازه معه إلا مؤمن . ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن البراء{[4249]} قال : " كنا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت ، الذين جازوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة " {[4250]} .
ثم رواه من حديث سفيان الثوري وزهير ، عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه{[4251]} ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } أي : استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم [ وهم ]{[4252]} العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن{[4253]} كثرة عدد ولا عدد . ولهذا قالوا : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
{ فلما فصل طالوت بالجنود } انفصل بهم عن بلده لقتال العمالقة ، وأصله فصل نفسه عنه ولكن لم اكثر حذف مفعوله صار كاللازم . روي : أنه قال لهم لا يخرج معي إلا الشاب النشيط الفارغ ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا ، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازه وسألوه أن يجري الله لهم نهرا . { قال إن الله مبتليكم بنهر } معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه . { فمن شرب منه فليس مني } فليس من أشياعي ، أو ليس بمتحد معي . { ومن لم يطعمه فإنه مني } أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا قال الشاعر : وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا . وإنما علم ذلك بالوحي إن كان نبيا كما قيل ، أو بإخبار النبي عليه الصلاة والسلام . { إلا من اغترف غرفة بيده } استثناء من قوله فمن شرب منه ، وإنما قدمت عليه الجملة الثانية للعناية بها كما قدم والصائبون على الخبر في قوله : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير ، وقرأ ابن عامر والكوفيون { غرفة } بضم الغين . { فشربوا منه إلا قليلا منهم } أي فكرعوا فيه إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط ، وتعميم الأول ليتصل الاستثناء ، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم . وقرئ بالرفع حملا على المعنى فإن قوله { فشربوا منه } في معنى فلم يطيعوه والقليل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا . وقيل ثلاثة آلاف . وقيل : ألفا روي أن من اقتصر على الغرفة كفته لشربه وإداوته ، ومن لم يقتصر غلب عليه واسودت شفته ولم يقدر أن يمضي وهكذا الدنيا لقاصد الآخرة . { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } أي القليل الذين لم يخالفوه . { قالوا } أي بعضهم لبعض . { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لكثرتهم وقوتهم . { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } أي قال الخلص منهم الذين تيقنوا لقاء الله وتوقعوا ثوابه ، أو علموا أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله تعالى . وقيل : هم القليل الذين ثبتوا معه ، والضمير في { قالوا } للكثير المنخذلين عنه اعتذارا في التخلف وتخذيلا للقليل ، وكأنهم تقاولوا به والنهر بينهما . { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } بحكمه وتيسيره ، و{ كم } تحتمل الخبر والاستفهام ، و{ من } مبينة أو مزيدة . والفئة الفرقة من الناس من فأوت رأسه إذا شققته ، أو من فاء رجع فوزنها فعة أو فلة . { والله مع الصابرين } بالنصر والإثابة .
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }
قبل هذه الآية متروك من اللفظ يدل معنى ما ذكر عليه ، وهو فاتفق بنو إسرائيل على طالوت ملكاً وأذعنوا وتهيؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل ، و { فصل } معناه خرج بهم من القطر ، وفصل حال السفر من حال الإقامة( {[2393]} ) ، قال السدي وغيره : كانوا ثمانين ألفاً .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ولا محالة أنهم كان فيهم المؤمن والمنافق والمجد والكسلان ، وقال وهب بن منبه : ولم يتخلف عنه إلا ذو عذر من صغر أو كبر أو مرض .
واختلف المفسرون في النهر ، فقال وهب بن منبه : لما فصل طالوت قالوا له إن المياه لا تحملنا( {[2394]} ) فادع الله يجر لنا نهراً ، فقال لهم طالوت { إن الله مبتليكم } الآية ، وقال قتادة : النهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين ، وقاله ابن عباس ، وقال أيضاً هو السدي ، النهر نهر فلسطين ، وقرأ جمهور القراء «بنهَر » بفتح الهاء ، وقرأ مجاهد وحميد الأعرج وأبو السمال وغيرهم «بنهْر » بإسكان الهاء في جميع القرآن ، ومعنى هذا الابتلاء أنه اختبار لهم ، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلب شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ، وروي أنهم أتوا النهر وهم قد نالهم عطش وهو غاية العذوبة ، والحسن ، ولذلك رخص للمطيعين في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال إلى الاغتراف بالأيدي لنظافته ، وسهولته ، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الأكف انظف الآنية( {[2395]} ) . ومنه قول الحسن رحمه الله : [ البسيط ] .
لاَ يَدْلِفُونَ إلى مَاءٍ بآنِيةٍ . . . إلاَّ اغترافاً مِنَ الغُدْرانِ بِالرَّاحِ( {[2396]} )
وظاهر قول طالوت { إن الله مبتليكم } هو أن ذلك بوحي إلى النبي وإخبار من النبي لطالوت ، ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه فجرب به جنده ، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم ، وهذه النزعة واجب أن تقع من كل متولي حرب ، فليس يحارب إلاّ بالجند المطيع ، ومنه قول معاوية : «عليّ في أخبث جند وأعصاه وأنا في أصح جند وأطوعه » ، ومنه قول علي رضي الله عنه : «أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان » ، وبين أن الغرفة كافة ضرر العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هممهم في غير الرفاهية ، كما قال عروة( {[2397]} ) : [ الطويل ]
وَأَحسوا قَرَاحَ الْمَاءِ والْمَاءُ بَارِد . . . فيشبه أن طالوت أراد تجربة القوم ، وقد ذهب قوم إلى عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر أصحابه بإيقاد النار والدخول فيها تجربة لطاعتهم ، لكنه حمله مزاحه على تخشين الأمر الذي كلفهم( {[2398]} ) .
وقوله : { فليس مني } أي ليس من أصحابي في هذه الحرب ، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من غشنا فليس منا ، ومن رمانا بالنبل فليس منا ، وليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود »( {[2399]} ) ، وفي قوله تعالى : { ومن لم يطعمه } سد للذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم( {[2400]} ) ، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم . ولهذه المبالغات لم يأت الكلام ، ومن لم يشرب منه( {[2401]} ) . وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «غَرفة » بفتح الغين . وهذا على تعدية الفعل إلى المصدر . والمفعول محذوف ، والمعنى إلا من اغترف ماء غرفة ، وقرأ الباقون «غُرفة » بضم الغين وهذا على تعدية الفعل إلى المفعول به ، لأن الغرفة هي العين المغترفة . فهذا بمنزلة إلاَّ من إغترف ماء ، وكان أبو علي يرجح ضم الغين ، ورجحه الطبري أيضاً من جهة أن «غَرفة » بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف( {[2402]} ) ، ثم أخبر تعالى عنهم أن الأكثر شرب وخالف ما أريد منه ، وروي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم . فشرب الكفار شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً ، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو ، بل برَّح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
«جاوز » فاعل من جاز ويجوز . وهي مفاعلة من اثنين في كل موضع . لأن النهر وما أشبهه كأنه يجاوز . واختلف الناس في { الذين آمنوا معه } كم كانوا ؟ فقال البراء بن عازب : كنا نتحدث ان عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، وفي رواية : وثلاثة عشر رجلاً ، وما جاوز معه إلا مؤمن( {[2403]} ) ، وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم كعدة أصحاب طالوت »( {[2404]} ) ، وقال السدي وابن عباس : بل جاوز معه أربعة آلاف رجل ، قال ابن عباس : فيهم من شرب ، قالا : فلما نظروا إلى جالوت وجنوده قالوا : لا طاقة لنا اليوم ، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون ، هذا نص قول السدي ومعنى قول ابن عباس ، فعلى القول الأول( {[2405]} ) قالت الجملة : { لا طاقة لنا اليوم } ، على جهة استكثارا العدو .
فقال أهل الصلابة منهم والتصميم والاستماتة : { كم من فئة قليلة } الآية ، وظن لقاء الله على هذا القول يحسن أن يكون ظناً على بابه ، أي يظنون أنهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال ، كما جرى لعبد الله بن حرام في يوم أحد ، ولغيره ، وعلى القول الثاني( {[2406]} ) قال كثير من الأربعة الآلاف : لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع من الموت ، وانصرفوا عن طالوت ، فقال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله وهم عدة أهل بدر : { كم من فئة قليلة } والظن على هذا بمعنى اليقين ، وهو فيما لم يقع بعد ولا خرج إلى الحس .
قال القاضي أبو محمد : وما روي عن ابن عباس من أن في الأربعة الآلاف من شرب يرد عليه قوله تعالى : { هو والذين آمنوا معه } ، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة ومن لم يشرب جملة ، ثم كانت بصائر هؤلاء مختلفة ، فبعض كع وقليل صمم ، وقرأ أبي بن كعب «كأين من فئة »( {[2407]} ) ، والفئة الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد ، من قولهم : فاء يفيء إذا رجع ، وقد يكون الرجل الواحد فئة تشبيهاً ، والملك فئة الناس ، والجبل فئة ، والحصن ، كل ذلك تشبيه( {[2408]} ) ، وفي قولهم رضي الله عنهم : { كم من فئة } الآية ، تحريض بالمثال وحض واستشعار للصبر ، واقتداء بمن صدق ربه ، { وإذن الله } هنا( {[2409]} ) تمكينه وعلمه ، فمجموع ذلك هو الإذن ، { والله مع الصابرين } بنصره وتأييده .