قوله تعالى : { فما لكم في المنافقين فئتين } اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم : نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين ، فلما رجعوا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتلهم ، فإنهم منافقون . وقال بعضهم : اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو الوليد ، أنا شعبة ، عن عدي بن ثابت قال : سمعت عبد الله بن زيد يحدث عن زيد بن ثابت قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه ، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة تقول نقاتلهم ، وفرقة تقول لا نقاتلهم ، فنزلت : { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا } ، وقال : إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة . وقال مجاهد : قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ، ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا ، وأقاموا بمكة ، فاختلف المسلمون فيهم فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . وقال بعضهم : نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين ، حتى تباعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ، ولكنا اجتوينا المدينة ، واشتقنا إلى أرضنا ، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : نخرج إليهم فنقتلهم ، ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا .
وقالت طائفة : كيف تقتلون قوماً على دينكم إن لم يذروا ديارهم ؟ وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى واحداً من الفريقين ، فنزلت هذه الآية . وقال بعضهم : هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين ، فنزلت { فما لكم } يا معشر المؤمنين { في المنافقين فئتين } أي : صرتم فيهم فئتين ، أي : فرقتين .
قوله تعالى : { والله أركسهم } أي : نكسهم وردهم إلى الكفر .
قوله تعالى : { بما كسبوا } بأعمالهم غير الزاكية .
قوله تعالى : { أتريدون أن تهدوا } أي : أن ترشدوا .
قوله تعالى : { من أضل الله } ومعناه أتقولون أن هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله .
{[219]}المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات : المنافقون المظهرون إسلامهم ، ولم يهاجروا مع كفرهم ، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه ، فبعضهم تحرج عن قتالهم ، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان ، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم . فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا ، بل أمرهم واضح غير مشكل ، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم ،
ما لكم فئتين في شأن المنافقين. والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم ؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم . بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء .
( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ؟ ) ..
ولعله كان في قول الفريق .. المتسامح !!.. ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا ، ويتركوا اللجلجة ! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم .
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا ..
فإنما يضل الله الضالين . أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة . وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية بما بعدوا عنها، وسلكوا غير طريقها ونبذوا العون والهدى ، وتنكروا لمعالم الطريق !
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين ، واختلف في سبب ذلك ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا بَهْز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا{[7969]} فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها طَيْبة ، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة{[7970]} .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا بمكة ، قد تكلموا بالإسلام ، كانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون{[7971]} حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس ، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله ! أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم . فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين{[7972]} عن شيء فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }
رواه ابن أبي حاتم ، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا .
وقال زيد بن أسلم ، عن ابنٍ لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك .
وقوله : { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } أي : ردهم وأوقعهم في الخطأ .
قال ابن عباس : { أَرْكَسَهُمْ } أي : أوقعهم . وقال قتادة : أهلكهم . وقال السدي : أضلهم .
وقوله : { بِمَا كَسَبُوا } أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل .
{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي : لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه .
{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوَاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } : فما شأنكم أيها المؤمنون في أهل النفاق فئتين مختلفتين ، { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يعني بذلك : والله ردّهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم . والإركاس : الردّ ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
فأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النّارِ إنّهُمُ ***كانُوا عُصَاةً وقالوا الإفْكَ وَالزّورَا
يقال منه : أركسهم وركسهم . وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله وأبيّ : «والله ركسهم » بغير ألف .
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وانصرفوا إلى المدينة ، وقالوا لرسول الله عليه الصلاة والسلام ولأصحابه : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتّبَعْنَاكُمْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثني الفضل بن زياد الواسطي ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، قال : سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاريّ يحدّث عن زيد بن ثابت : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أُحد ، رجعت طائفة ممن كان معه ، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا . فنزلت هذه الاَية : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا } . . . الاَية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة : «أنّها طَيّبَةٌ وإنّها تَنْفِي خَبَشَها كمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الفِضّةِ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه .
حدثني زريق بن السخت ، قال : حدثنا شبابة ، عن عديّ بن ثابت ، عن عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، قال : ذكروا المنافقين عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال فريق : نقتلهم ، وقال فريق : لا نقتلهم فأنزل الله تبارك وتعالى : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } . . . إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة ، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون ، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } قال : قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ، ثم ارتدّوا بعد ذلك ، فاستأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها . فاختلف فيهم المؤمنون ، فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون . فبين الله نفاقهم ، فأمر بقتالهم . فجاءوا ببضائعهم يريدون المدينة ، فلقيهم هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم حلف ، وهو الذي حصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يؤمنون هلالاً ، وبينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله بنحوه ، غير أنه قال : فبين الله نفاقهم ، وأمر بقتالهم فلم يقاتلوا يومئذ ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي ، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة ، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام ، وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، فليس علينا منهم بأس ! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوّكم ! وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله أو كما قالوا أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك ! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء¹ فنزلت : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } . . . الاَية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } . . . الاَية ، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة ، وكانا قد تكلما بالإسلام ، ولم يهاجرا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فلقيهما ناس من أصحاب نبيّ الله وهما مقبلان إلى مكة ، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال ، وقال بعضهم : لا تحلّ لكم . فتشاجروا فيهما ، فأنزل الله في ذلك : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَسَلّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُم } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر بن راشد ، قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، وكان ذلك منهم كذبا . فلقوهم ، فاختلف فيهم المسلمون ، فقالت طائفة : دماؤهم حلال ، وقالت طائفة : دماؤهم حرام¹ فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْن } هم ناس تخلفوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة ، وأعلنوا الإيمان ، ولم يهاجروا . فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا . فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .
وقال آخرون : بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة أرادوا الخروج عنها نفاقا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتّخَمْناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظّهْر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا¹ واختلف فيهم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء الله المنافقون ، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم ! وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتّخموها . فخرجوا إلى الظهر يتنزّهون ، فإذا برءوا رجعوا . فقال الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ } يقول : ما لكم تكونون فيهم فئتين { والله أرْكَسَهُمْ بمَا كَسبوا } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } حتى بلغ : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : هذا في شأن ابن أبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم . فقال سعد بن معاذ : فإنى أبرأ إلى الله وإلى رسوله منه ! يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : نزلت هذه الاَية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب¹ لأن اختلاف أهل ذلك إنما هو على قولين : التأويل في أحدهما أنهم قوم كانوا من أهل مكة على ما قد ذكرنا الرواية عنهم ، والاَخر أنهم قوم كانوا من أهل المدينة ، وفي قول الله تعالى ذكره : { فَلا تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أوْلِياءَ حتى يُهاجِرُوا } أوضح الدليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر ، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك ، فلم يكن عليه فرض هجرة ، لأنه في دار الهجرة كان وطنه ومقامه .
واختلف أهل العربية في نصب قوله : { فِئَتَيْنِ } فقال بعضهم : هو منصوب على الحال ، كما تقول : ما لك قائما ، يعني ما لك في حال القيام . وهذا قول بعض البصريين¹ وقال بعض نحويي الكوفيين : هو منصوب على فعل «ما لك » ، قال : ولا يُبالَى كان المنصوب في مالك معرفة أو نكرة . قال : ويجوز في الكلام أن يقول : ما لك السائر معنا ، لأنه كالفعل الذي ينصب بكان وأظنّ وما أشبههما . قال : وكل موضع صلحت فيه «فعل » و«يفعل » من المنصوب جاز نصب المعرفة منه والنكرة ، كما ينصب كان وأظنّ لأنهنّ نواقص في المعنى وإن ظننت أنهنّ تامات . وهذا القول أولى بالصواب في ذلك ، لأن المطلوب في قول القائل : «ما لك قائما » القيام ، فهو في مذهب كان وأخواتها وأظنّ وصواحباتها .
القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } فقال بعضهم : معناه : ردّهم¹ كما قلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } ردّهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : والله أوقعهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } يقول : أوقعهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : أضلّهم وأهلكهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ } قال : أهلكهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم بما عملوا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَاللّهُ أرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } : أهلكهم .
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَنْ أضَلّ اللّهُ } أتريدون أيها المؤمنون أن تهدوا إلى الإسلام ، فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه من أضله الله عنه ، يعني بذلك : من خذله الله عنه فلم يوفقه للإقرار به . وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الاَية ، يقول لهم جلّ ثناؤه : أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلهم الله فخذلهم عن الحقّ واتباع الإسلام بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالهم من المؤمنين ؟ { وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } يقوله : ومن خذله عن دينه واتباع ما أمره به من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده ، فأضله عنه ، فلن تجد له يا محمد سبيلاً ، يقول : فلن تجد له طريقا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله ( عنه ) ، ولا منهجا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه .
{ فما لكم في المنافقين } فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين . { فئتين } أي فرقتين ولم تتفقوا على كفرهم ، وذلك أن ناسا منهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو لاجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا رحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم . وقيل نزلت في المتخلفين يوم أحد ، أو في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلين باجتواء المدينة والاشتياق إلى الوطن ، أو قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة و{ فئتين } حال عاملها لكم كقولك : ما لك قائما . و{ في المنافقين } حال من { فئتين } . أي متفرقتين فيهم ، أو من الضمير أي فما لكم تفترقون فيهم ، ومعنى الافتراق مستفاد من { فئتين } . والله أركسهم بما كسبوا } ردهم إلى حكم الكفرة ، أو نكسهم بأن صيرهم للنار . وأصل الركس رد الشيء مقلوبا . { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } أن تجعلوه من المهتدين . { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا } إلى الهدى .
وقوله : { فما لكم في المنافقين } الآية . الخطاب للمؤمنين ، وهذا ظاهره استفهام ، والمقصد منه التوبيخ ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب { المنافقين } ؟ فقال ابن عباس : هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة ، وأقاموا بين أظهر الكفار ثم سافر قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم : إنكم لا تخافون أصحاب محمد ، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم ، فاتصل خبرهم بالمدينة ، فاختلف المؤمنون فيهم ، فقالت طائفة : نخرج إلى أعداء الله المنافقين ، وقالت طائفة : بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد : بل نزلت في قوم جاؤوا إلى المدينة من مكة ، فأظهروا الإسلام ، ثم قالوا : لنا بضاعات بمكة فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر ، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من قوله تعالى { حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] ، وقال زيد بن ثابت : نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، لأن أصحاب النبي عليه اسلام اختلفوا فيهم ، وقال السدي : بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنه نفاقاً كفراً ، وقالوا : إنّا اجتويناها ، وقال ابن زيد : إنما نزلت في المنافقين الذين تكلموا في حديث الإفك ، لأن الصحابة اختلفوا فيهم .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة{[4180]} ، حسبما وقع في البخاري ، وكان لكل واحد أتباع من المؤمنين على قوله ، وكل من قال في هذه الآية : إنها فيمن كان بالمدينة يرد عليه قوله :
{ حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما نهى الله عنه ، وترك الخلاف والنفاق ، كما قال عليه السلام ، ( والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ){[4181]} .
و{ فئتين } معناه فرقتين ، ونصبهما على الحال كما تقول : ما لك قائماً ، هذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : نصبه بما يتضمنه ما لكم من الفعل ، والتقدير ما لكم كنتم { فئتين } أو صرتم ، وهذا الفعل المقدر ينصب عندهم النكرة والمعرفة ، كما نقول ما لك الشاتم لزيد ، وخطأ هذا القول الزجّاج ، لأن المعرفة لا تكون حالاً ، و { أركسهم } معناه رجعهم في كفرهم وضلالهم ، «والركس » الرجيع ، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء ، «فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال إنها ركس »{[4182]} ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [ البسيط ]
فَأَرْكسُوا في حَميمِ النَّّار إنَّهُم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا
وحكى النضر بن شميل والكسائي ، «ركس وأركس » بمعنى واحد ، أي رجعهم ، ومن قال من المتأولين : أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى ، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى الكفر{[4183]} .
و { بما كسبوا } معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق ، أي إن كفرهم بخلق من الله واختراع وبتكسب منهم ، وقوله : { أتريدون } استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه ، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون القائلون : بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله للضلالة وحتمها عليه ، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده .