الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } الآية .

نزلت هذه الآية في ناس من قريش ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلموا فأقاموا بها ثم ندموا على ذلك وأرادوا الرجعة ، فقال بعضهم لبعض : كيف نخرج ؟ قالوا : نخرج كهيئة البدو فإن فطن بنا قلنا : خرجنا نتنزّه ، وإن غفل عنّا مضينا ، فخرجوا بهيئة المتنزهين ، حتى باعدوا من المدينة . ثم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله ، ولكنا [ اجتوينا ] المدينة ، واشتقنا إلى أرضنا . ثم إنّهم خرجوا في تجارة لهم ، على الشام ، فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : ما يمنعنا أن نخرج إلى هؤلاء الذين رغبوا عن ديننا ، وتركوا هجرتنا ، وظاهروا على عدوّنا ، فنقتلهم ونأخذ مالهم وقالت طائفة منهم : كيف تقتلون قوماً على دينكم ، إن لم يذروا ديارهم ، وكان هذا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لاينهى واحداً من الفريقين ، حتى نزلت هذه الآية والآيات بعدها ، فبين الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم شأنهم .

وقال زيد بن ثابت : " نزلت في ناس رجعوا يوم أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لانقتلهم ، فنزلت فيهم هذه الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي النار خبث الفضة " يعني المدينة .

وقال قتادة : ذكرهما أنهما كانا رجلين من قريش بمكة تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلين إلى مكة فقال بعضهم : إنّ دماءهما وأموالهما حلال ، وقال بعضهم : لا ، [ جلَّ ذلك منا ] فأنزل الله تعالى { الْمُنَافِقِينَ } الآية .

وقال عكرمة : هم ناس ممن قد صبوا ليأخذوا أموالاً من أموال المشركين فانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت فيهم هذه الآية .

وقال مجاهد : هم قوم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثمّ ارتدّوا بعد ذلك واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوا بضائع لهم يتاجرون فيها ، فخاف المسلمون منهم فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون ، فبيّن الله تعالى نفاقهم .

وقال الضحاك : هم قوم أظهروا الإسلام بمكة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهاجروا فاختلف المسلمون فيهم ، فنزلت هذه الآية ( فمالكم ) يامعشر المؤمنين ( في المنافقين فئتين ) أي صرتم في المنافقين فئتين فمحلّ ومحرّم ، ونصب فئتين على خبر صار ، وقال بعضهم : نصب على إلاّ . { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ } أي أهلكهم ، ولكنهم تركوهم بكفرهم وضلالتهم بأعمالهم غير الزاكية يقال : أركست الشيء ركسته أي نكسته ورددته ، وفي قراءة عبدالله : وإني والله أنكسهم ، وقال ابن رواحة :

أركسوا في فتنة مظلمة *** كسواد الليل يتلوها فتن

{ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ } أي ترشدوا إلى الهدى { مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } وقيل : معناه : أيقولون أنّ هؤلاء يهتدون والله قد أضلّهم { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ } عن الهدى { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي ديناً وطريقاً إلى الهدى