الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل عن زيد بن ثابت . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم . وفرقة تقول : لا . فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين . . . } الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها طيبة ، وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " .

وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن سعد بن معاذ الأنصاري . أن هذه الآية أنزلت فينا { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا } خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : " من لي بمن يؤذيني ويجمع لي في بيته من يؤذيني ؟ فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منا يا رسول الله قتلناه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فأطعناك . فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن عرفت ما هو منك . فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عبادة منافق تحب المنافقين . فقام محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيها الناس ، فإن فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ لأمره . فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين . . . } الآية " .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : " إن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا فيهم بأس ، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم ، وقالت فئة أخرى من المؤمينن : سبحان الله . . . ! تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم ، فكانوا كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهى واحد من الفريقين عن شيء . فنزلت { فما لكم في المنافقين فئتين } إلى قوله { حتى يهاجروا في سبيل الله } يقول : حتى يصنعوا كما صنعتم { فإن تولوا } قال : عن الهجرة " .

وأخرج أحمد بسند فيه انقطاع عن عبد الرحمن بن عوف " أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فأسلموا وأصابهم وباء المدينة حماها فأركسوا ، خرجوا من المدينة ، فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم : ما لكم رجعتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة فقالوا : ما لكم في رسول الله أسوة حسنة . فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : لم ينافقوا ، إنهم مسلمون . فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين . . . } الآية .

وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سلمة عن عبد الرحمن . أن نفرا من طوائف العرب هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمكثوا معه ما شاء الله أن يمكثوا ، ثم ارتكسوا فرجعوا إلى قومهم ، فلقوا سرية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرفوهم فسألوهم : ما ردكم ؟ فاعتلوا لهم فقال بعض القوم لهم : نافقتم ، فلم يزل بعض ذلك حتى فشا فيهم القول ، فنزلت هذه الآية { فما لكم في المنافقين فئتين } .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { فما لكم في المنافقين فئتين } قال : قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة ، يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها ، فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون . وقائل يقول : هم مؤمنون ، فبين الله نفاقهم ، فأمر بقتلهم ، فجاءوا ببضائعهم يريدون هلال بن عويمر الأسلمي وبينه وبين محمد عليه السلام حلف ، وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه ، فدفع عنهم بأنهم يؤمون هلالا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { فما لكم في المنافقين فئتين } قال : ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش ، كانا مع المشركين بمكة ، وكانا قد تكلما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما مقبلان إلى مكة ، فقال بعضهم : إن دماءهما وأموالهما حلال . وقال بعضهم : لا يحل ذلك لكم . فتشاجروا فيهما ، فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين } حتى بلغ { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } .

وأخرج ابن جرير عن معمر بن راشد قال : بلغني أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا ، أو كان ذلك منهم كذبا ، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة : دماءهم حلال . وطائفة قالت : دماءهم حرام . فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين } .

وأخرج ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : هم ناس تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا ، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم ، وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا .

وأخرج ابن جرير عن السدي قال : كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة ، فقالوا للمؤمنين : إنا قد أصابنا أوجاع في المدينة واتخمناها ، فلعلنا أن نخرج إلى الظهر حتى نتماثل ثم نرجع ، فإنا كنا أصحاب برية . فانطلقوا واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت طائفة : أعداء الله منافقون ، وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم . وقالت طائفة : لا ، بل إخواننا تخمتهم المدينة فاتخموها ، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون فإذا برئوا رجعوا . فأنزل الله في ذلك { فما لكم في المنافقين فئتين } .

وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : أخذ ناس من المسلمين أموالا من المشركين فانطلقوا بها تجارا إلى اليمامة ، فاختلف المسلمون فيهم ، فقالت طائفة : لو لقيناهم قتلناهم وأخذنا ما في أيديهم . وقال بعضهم : لا يصلح لكم ذلك ، إخوانكم انطلقوا تجارا . فنزلت هذه الآية { فما لكم في المنافقين فئتين } .

وأخرج ابن جرير من طريق ابن وهب عن ابن زيد في قوله { فما لكم في المنافقين فئتين } قال : هذا في شأن ابن أبي ، حين تكلم في عائشة ما تكلم ، فنزلت إلى قوله { فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله } فقال سعد بن معاذ : فإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله منه . يريد عبد الله بن أبي بن سلول .

وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال : كيف ترون في الرجل يخاذل بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويسيء القول لأهل رسول الله وقد برأها الله ، ثم قرأ ما أنزل الله في براءة عائشة ، فنزل القرآن في ذلك { فما لكم في المنافقين فئتين . . . } الآية . فلم يكن بعد هذه الآية ينطق ولا يتكلم فيه أحد " .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس { والله أركسهم } يقول : أوقعهم .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس { أركسهم } قال : ردهم .

وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قول { أركسهم } قال : حبسهم في جهنم بما عملوا . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت قول أمية بن الصلت في شعره :

أركسوا في جهنم أنهم كانوا عتاة *** يقولوا مينا وكذبا وزورا [ البيت مكسور وفيه خطأ ] .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة { أركسهم بما كسبوا } قال : أهلكهم بما عملوا .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي { أركسهم } قال : أضلهم .