الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

قوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ } : مبتدأ وخبر . و " في المنافقين " فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ وهو " لكم " أي : أيُّ شيءٌ كائنٌ لكم - أو مستقر لكم - في أمر المنافقين . والثاني : أنه متعلق بمعنى فئتين ، فإنه في قوة " ما لكم تفترقون في أمور المنافقين " فحُذِف المضافُ ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه . والثالث : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " فئتين " لأنه في الأصل صفةٌ لها ، تقديرُه : فئتين مفترقتين في المنافقين ، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها انتصبَتْ حالاً .

وفي " فئتين " وجهان ، أحدُهما : أنها حالٌ من الكاف والميم في " لكم " ، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به " لكم " ومثلُه : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، وقد تقدَّم أنَّ هذه الحالَ لازمةٌ ؛ لأن الكلامً لا يَتِمُّ دونَها ، وهذا مذهبُ البصريين في كل ما جاء من هذا التركيب والثاني - وهو مذهب الكوفيين- : أنه نصبٌ على خبر " كان " مضمرةً ، والتقدير : ما لكم في المنافقين كنتم فئتين ، وأجازوا : " ما لك الشاتمَ " أي : ما لك كنت الشاتمَ ، والبصريون لا يجيزون ذلك لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف ، ويدلُّ على كونه حالاً التزامُ مجيئه في هذا التركيب نكرةً ، وهذا كما قالوا في " ضربي زيداً قائماً " إن " قائماً " لا يجوز نصبُه على خبر " كان " المقدرةِ ، بل على الحال لالتزامِ تنكيره . وقد تقدَّم اشتقاقُ " الفئة " في البقرة .

قوله : { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ } مبتدأ وخبر ، وفيها وجهان أظهرهما : أنها حالٌ : إمَّا من المنافقين - وهو الظاهرُ - وإمَّا من المخاطبين ، والرابطُ الواوُ ، كأنه انكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء ، والحال أن الله قد ردَّهم إلى الكفر . والثاني : أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى عنهم بذلك . و " بما كَسَبوا " متعلقٌ ب " أَرْكَسهم " والباء سببية أي : بسبب كَسْبهم ، و " ما " مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ على الثاني لا [ على ] الأولِ على الصحيح .

والإِركاس : الردُّ والرَّجْعُ ، ومنه الرِّكْس للرجيع ، قال عليه السلام في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها : " إنها رِكْس " وقال أمية بن أبي الصلت :

فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ *** كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا

أي : رُدُّوا ، وقال الراغب : " الرِّكْس والنِّكْس : الرِّذْلُ ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ ، لأن النِّكَس ما جُعِل أعلاه أسفله ، والرِّكس ما صار رجيعاً بعد أن كان طعاماً . وقيل : أَرْكسه أَوْبقَه ، قال :

بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا *** وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا

وقيل : الإِركاس : الإِضلال ، ومنه :

وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى *** وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى

وقيل : هو التنكيسُ ، ومنه :

رُكِّسوا في فتنةٍ مظلمةٍ *** كسوادِ الليلِ يَتْلُوها فِتَنْ

ويقال : أَرْكس وَرَكَّس بالتشديد ورَكَس بالتخفيف : ثلاث لغات بمعنى واحد ، وارتكس هو أي : رجَع . وقرأ عبد الله : " ركَسَهم " ثلاثياً ، وقرئ " رَكَّسهم - رُكِّسوا " بالتشديد فيهما . وقال أبو البقاء : " وفيه لغةٌ أخرى " رَكَسه الله " من غير همز ولا تشديد ، ولا أعلم أحداً قرأ به " قلت : قد تقدَّم أن عبد الله قرأ " والله ركسهم " من غير همز ولا تشديد ، وكلام أبي البقاء مُخّلِّصٌ فإنه إنما ادَّعى عدمَ العلمِ بأنها قراءةٌ لا عدمَ القراءة بها . قال الراغب : " إلا أن " أركسه " أبلغُ من " رَكَسه " كما أنَّ أَسْفَله أبلغُ من سُفْلَه " وفيه نظر .