التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن أحوال المنافقين ، وبينت حكم الله - تعالى - فيهم ، ورسمت للمؤمنين طريق معاملتهم لغيرهم فقال تعالى : { فَمَا لَكُمْ . . . سُلْطَاناً مُّبِيناً } .

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ( 88 ) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( 89 ) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ( 90 ) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ( 91 )

أورد المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } روايات أهمها روايتان :

أولهما : أن هذه الآية نزلت فى شأن المنافقين الذين تخلفوا عن الاشتراك مع المؤمنين فى غزوة أحد . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد ومعه المسلمون . وفى الطريق رجع عبد الله بن ابى بن سلول بثلث الناس وقالوا { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } فاختلف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن هؤلاء المنافقين . فقال بعضهم : نقتلهم فقد كفروا .

وقال آخرون : لم يكفروا . فأنزل الله - تعالى - الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها طيبة وإنها تنفى الخبث كما ينفى الكير خبث الحديد " .

أما الرواية الثاينة : فيؤخذ منها أنها نزلت فى قوم كانوا يظهرون الإِسلام بمكة إلا أنهم كانوا يظاهرون المشركين . فقد أخرج ابن جريرعن ابن عباس أن قوما كانوا بمكة قد تكلوا بالإِسلام وكانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم . فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس . وإن المؤمنين لما اخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى هؤلاء الخبثاء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم . وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله : - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلنوا بمثل ما تكلمت به ؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم ؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول صلى الله عليه وسلم عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شئ ، فنزلت : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } .

وهناك روايات أخرى قريبة من هذه الرواية فى معناها قد ذكرها المفسرون .

ويبدو لنا أن الرواية الثانية هى الأقرب إلى سياق الآيات وإلى الواقع التاريخى ، لأنه من الثابت تاريخيا أن منافقى المدينة لم يرد أمر بقتالهم ، وإنما استعمل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل أخرى أدت إلى نبذهم وهوان أمرهم ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } يؤيد أنه ليس المقصود بالمنافقين هنا منافقى المدينة ، وإنما المقصود بهم جماعة أخرى من المنافقين كانوا خارج المدينة ، إذ لا هجرة من المدينة إلى غيرها وإنما الهجرة تكون من غيرها إليها ، لأنها دار الإِسلام ، ولم يكن فتح مكة قد تم عند نزول هذه الآية .

وقد رجح الإِمام ابن جرير سبب النزول الذى حكته الرواية الثانية فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية فى اختلاف أصحاب رسول الله فى قوم كانوا قد ارتدوا عن الإِسلام بعد إسلامهم من أهل مكة . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة ، لأن الهجرة كانت على عهد الله إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر .

فأما من كان من المدنية فى دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة .

والفاء فى قوله { فَمَا لَكُمْ } للتفريع على ما تقدم من أخبار المنافقين وأحوالهم أو هى للافصاح و " ما " مبتدأ و " لكم " خبره .

قال الجمل : وقوله { فِي المنافقين } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو " لكم " أى : أى شئ كان لكم أو مستقر لكم فى أمر المنافقين .

والثانى : أنه متعلق بمعنى فئتين ، فإنه فى قوة : ما لكم تفترقون فى أمر المنافقين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .

والثالث : أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من فئتين ، لأنه فى الأصل صفة لها تقديره : فئتين مفترقين فى المنافقين وصفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت حالا . وقوله " فئتين " حال من ضمير " لكم " المجرور والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه . . .

والاستفهام لإِنكار خلافهم فى شأن المنافقين ولوم المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمنافقين مع أن أحوال هؤلاء المنافقين تدعو إلى سوء الظن بهم .

والمعنى : لقد سقت لكم - أيها المؤمنون - من أحوال المنافقين ما يكشف عن خبثهم ومكرهم ، وبينت لكم من صفاتهم ما يدعو إلى الحذر منهم وسوء الظن بهم ، وإذا كان هذا هو حالهم فما الذى سوغ لكم أن تختلفوا فى شأنهم إلى فئتين ؟ فئة تحسن الظن بهم وتدافع عنهم ، وفئة أخرى صادقة الفراسة ، سليمة الحكم لأنها عندما رأت الشر قد استحوذ على المنافقين أعرضت عنهم ، واحتقرتهم ، وأخذت حذرها منهم ، وحكمت عليهم بالحكم الذى رضيه الله - تعالى - .

والآن - أيها المؤمنون - بعد أن ظهر الحق ، وانكشف حال أولئك المنافقين ، عليكم أن تتركوا الخلاف فى شأنهم ، وأن تتفقوا جميعا على أنهم قوم بعيدون عن الحق والإِيمان . ومنغمسون فى الضلال والبطلان .

وقوله { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا } حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإِنكار السابق أى : لم تختلفوا - أيها المؤمنون - فى شأن المنافقين هذا الاختلاف والحال أن الله - تعالى - قد ردهم إلى الكفر بعد الإِيمان بسب أقولاهم الأثيمة ، وأعمالهم القبيحة .

وقوله { أَرْكَسَهُمْ } من الركس وهو رد أول الشئ على آخره . يقال : ركس الشئ يركسه ركسا إذا قلبه على رأسه . والركس والنكس بمعنى واحد .

والاستفهام فى قوله { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } للإِنكار على من أحسن الظن بأولئك المنافقين .

أى : أتريدون أيها المؤمنون الذين أحسنتم الظن بهؤلاء المنافقين أن تعدوهم من جملة المهتدين ، مع أن الله - تعالى - قد خلق فيهم الضلال ، لأنهم قد استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغى على الرشد .

وقوله { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أى : ومن يكتب الله عليه الضلالة ، فلن تجد أحداً يهديه ويرشده ، لأن فضاء الله لا يتبدل ، وقدره لا يتخلف .