تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا} (88)

المفردات :

فئتين : فريقين .

أركسهم : ردهم إلى الكفر ونكسهم .

التفسير :

88- فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ . . . تفيد هذه الآية وجود بعض المنافقين خارج المدينة ؛ لأن المنافقين داخل المدينة كشفتهم السور المدنية ، وذكرت خصالهم ، وأمرت المسلمين بمهادنتهم ؛ حتى ينكشف أمرهم ، وحتى يقطع المسلمون مصادر قوتهم حيث أخرج المسلمون اليهود من المدينة ؛ فضعف أمر المنافقين بعد ذلك .

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية عدة أقوال :

ذكر ابن الجوزي في كتابه : زاد المسير في علم التفسير 2/152 : أن هناك سبعة في سبب نزولها ، ( ويمكن أن نختار أربعة أقوال منها ) :

1- أن قوما أسلموا ، فأصابهم وباء المدينة وحماها ، فخرجوا فاستقبلهم نفر من المسلمين ، فقالوا : ما لكم خرجتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة ، واجتويناها ، فقالوا : أما لكم في رسول الله أسوة ؟ واختلف بشأنهم ؛ فقال بعضهم : نافقوا ، وقال بعضهم : لم ينافقوا ؛ فنزلت هذه الآية .

2- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد ، ورجع ناس ممن خرج معه ، فافترق فيهم أصحاب رسول الله ، ففرقة تقول : نقتلهم ؛ وفرقة تقول : لا نقتلهم ، فنزلت هذه الآية ، هذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت .

3- أن قوما كانوا بمكة تكلموا بالإسلام ، وكانوا يعاونون المشركين فخرجوا من مكة لحاجة لهم ، فقال قوم من المسلمين : اخرجوا إليهم ، فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عدوكم ، وقال قوم : كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به ؟ ! فنزلت هذه الآية .

4- نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي حين تكلم في عائشة بما تكلم به . رواه ابن جرير الطبري 9/13 ورجح ابن جرير قول من قال : إنها نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدوا بعد إسلامهم من أهل مكة .

ونحن نعلم في قواعد علوم القرآن أنه إذا تعددت الروايات في سبب نزول الآية وبعضها صحيح وبعضها ضعيف أخذنا بالرواية الصحيحة ، فإذا كانت الروايات كلها صحيحة وأمكن الجمع بينها ؛ حكمنا بتعدد الأسباب والمنزل واحد ، فيمكن أن يكون حدث أكثر من سبب أدى إلى نزول هذه الآية .

والجو العام للسيرة النبوية يؤدي إلى ترجيح ما رجحه ابن جرير الطبري واختاره الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن حيث رجح أن الآية نزلت في منافقين كانوا بعيدين عن المدينة ، ولعل بعض المسلمين كانت تربطهم بهم قرابة ، أو مشاركة في تجارة أو منفعة ؛ فأراد القرآن أن يضع قاعدة للمسلمين ، تؤكد أن الترابط والتعاون والعمل ينبغي أن يتم على أساس العقيدة والإيمان .

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ . والخطاب في الآية عام لجميع المؤمنين .

والمعنى : لم تختلفون في القول بكفر هؤلاء المنافقين ، وتفترقون في هذا الأمر فرقتين ، وقد ردهم الله إلى الكفر ، كما كانوا بسبب ما اقترفوه من الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديعته ، أو معاونة المشركين في إيذاء المسلمين بمكة ، حيث بيتوا الشر وأضمروا الردة ؟

ليس لكم أن تختلفوا في شأنهم . . بل كان يجب عليكم- أيها المؤمنون- أن تتفقوا على القطع بكفرهم ؛ لظهور أدلة هذا الكفر وذلك النفاق .

لقد يسر الله لهؤلاء المنافقين طريق الإيمان الصادق ، ولكنهم تنكبوا طريق الصواب ، واختاروا الضلالة على الهدى ، فسلبهم الله معونته وتوفيقه ، وردهم إلى الكفر بسبب ما عملوا .

وكلمة أركسهم فيها أربعة أقوال :

1- ردهم 2- ركست الشيء وأركسته : لغتان أي : نكسهم وردهم في كفرهم

3- أوقعهم . 4- أهلكهم {[40]} .

فأما الذي كسبوا فهو كفرهم وارتدادهم .

أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ . أي : ترشدوه إلى التواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين ؛ لأن قوما من المؤمنين قالوا : إخواننا وتكلموا بكلمتنا ، فبين القرآن خطأ هذا الاتجاه بعد أن ظهر للعيان نفاقهم .

وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً . . . فإنما يضل الله الظالين . أي : يمد لهم قي الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة ، وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية ، بما بعدوا عنها وسلكوا غير طريقها ، ونبذوا العون والهدى ، وتنكروا لمعالم الطريق {[41]} .


[40]:ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير 2/1552،254.
[41]:في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب 2/731.