قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } ، نزلت في الحطم ، واسمه شريح بن ضبيعة البكري ، أتى المدينة ، وخلف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : إلا ما تدعو الناس ؟ فقال : ( إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ) فقال : حسن ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان " ، ثم خرج شريح من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بقفا غادر ، وما الرجل ، بمسلم " فمر بسرح المدينة ، فاستاقه وانطلق ، فاتبعوه ، فلم يدركوه ، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ، ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلد الهدي . فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم ، قد خرج حاجاً ، فخل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنه قلد الهدي ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } قال ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنهاهم الله عن ذلك ، وقال أبو عبيدة : شعائر الله هي الهدايا المشعرة ، والإشعار من الشعار ، وهي العلامة . وإشعارها إعلامها بما يعرف أنها هدي ، والإشعار هاهنا : أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم ، فيكون ذلك علامة أنها هدي ، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الإبل ، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو نعيم ، أنا أفلح ، عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها ، وأشعرها ، وأهداها ، فما حرم عليه شيء كان أحل له ، وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار . وأما الغنم فلا تشعر بالجرح ، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه : لا يشعر الهدي . وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا تحلوا شعائر الله ) هي أن تصيد وأنت محرم ، بدليل قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال السدي : أراد حرم الله ، وقيل : المراد منه النهي عن القتل في الحرم ، وقال عطاء : شعائر الله ، حرمات الله ، واجتناب سخطه ، واتباع طاعته .
قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } . أي : القتال فيه ، وقال ابن زيد : هو النسيء ، وذلك أنهم كانوا يحلونه عاما ويحرمونه عاماً .
قوله تعالى : { ولا الهدي } هو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير ، أو بقرة ، أو شاة .
قوله تعالى : { ولا القلائد } . أي الهدايا المقلدة ، يريد ذوات القلائد ، وقال عطاء : أراد أصحاب القلائد ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم ، وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم ، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها ، وقال مطرف بن الشخير : هي القلائد نفسها ، وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها ، فنهوا عن نزع شجرها .
قوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } . أي : قاصدين البيت الحرام ، يعني الكعبة ، فلا تتعرضوا لهم .
قوله تعالى : { يبتغون } يطلبون .
قوله تعالى : { فضلاً من ربهم } . يعني الرزق بالتجارة .
قوله تعالى : { ورضواناً } أي : على زعمهم ، لأن الكافرين لا نصيب لهم في الرضوان ، وقال قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ، ولا يعجل لهم العقوبة فيها . وقيل : ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ، لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون ، وهذه الآية إلى هاهنا منسوخة بقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وبقوله : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] ، فلا يجوز أن يحج المشرك ، ولا يأمن كافر بالهدي والقلائد .
قوله تعالى : { وإذا حللتم } أي من إحرامكم .
قوله تعالى : { فاصطادوا } . أمر إباحة ، أباح للحلال أخذ الصيد .
كقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] .
قوله تعالى : { ولا يجرمنكم } . قال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم ، يقال : جرمني فلان على أن صنعت كذا ، أي حملني ، وقال الفراء : لا يكسبنكم ، يقال : جرم أي : كسب ، وفلان جريمة أهله ، أي كاسبهم ، وقيل : لا يدعونكم .
قوله تعالى : { شنآن قوم } . أي بغضهم وعداوتهم ، وهو مصدر شنئ ، قرأ ابن عامر وأبو بكر : شنآن قوم ، بسكون النون الأولى ، وقرأ الآخرون بفتحها ، وهما لغتان ، والفتح أجود ، لأن المصادر أكثرها فعلان ، بفتح العين ، مثل الضربان ، والسيلان ، والنسلان ، ونحوها .
قوله تعالى : { أن صدوكم عن المسجد الحرام } . قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بفتح الألف ، أي : لأن صدوكم ، ومعنى الآية : لا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم . وقال محمد بن جرير : لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية ، وكان الصد قد تقدم .
قوله تعالى : { أن تعتدوا } . عليهم بالقتل وأخذا لأموال .
قوله تعالى : { وتعاونوا } . أي : ليعن بعضكم بعضاً .
قوله تعالى : { على البر والتقوى } . قيل البر متابعة الأمر ، والتقوى مجانبة النهي ، وقيل البر الإسلام ، والتقوى : السنة .
قوله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . قيل : الإثم : الكفر ، والعدوان : الظلم ، وقيل : الإثم المعصية ، والعدوان البدعة .
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أنا أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي ، أنا أبو الحسن بن علي بن عفان ، أنا زيد بن الحباب ، عن معاوية بن صالح ، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه ، عن النواس بن سمعان الأنصاري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، قال : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " .
{ 2 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }
يقول تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ } أي : محرماته التي أمركم بتعظيمها ، وعدم فعلها ، والنهي يشمل النهي عن فعلها ، والنهي عن اعتقاد حلها ؛ فهو يشمل النهي ، عن فعل القبيح ، وعن اعتقاده .
ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام ، ومحرمات الحرم . ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله : { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ } أي : لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ }
والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا ، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا .
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم .
وقال آخرون : إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها ، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه ، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك ، وقالوا : المطلق يحمل على المقيد .
وفصل بعضهم فقال : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها ، فإنه يجوز .
وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك ، لأن أول قتالهم في " حنين " في " شوال " . وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع .
فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال ، فإنه يجوز للمسلمين القتال ، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء .
وقوله : { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } أي : ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة ، أو غيرهما ، من نعم وغيرها ، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله ، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها ، ولا تقصروا به ، أو تحملوه ما لا يطيق ، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله ، بل عظموه وعظموا من جاء به . { وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } هذا نوع خاص من أنواع الهدي ، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى ، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله ، وحملا للناس على الاقتداء ، وتعليما لهم للسنة ، وليعرف أنه هدي فيحترم ، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة .
{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ } أي : قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ } أي : من قصد هذا البيت الحرام ، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة ، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به ، والصلاة ، وغيرها من أنواع العبادات ، فلا تتعرضوا له بسوء ، ولا تهينوه ، بل أكرموه ، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم .
ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين ، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه ، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك .
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ } فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم .
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي ، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله ، كما قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ }
ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ } أي : إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة ، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد ، وزال ذلك التحريم . والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل .
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ } أي : لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم ، حيث صدوكم عن المسجد ، على الاعتداء عليهم ، طلبا للاشتفاء منهم ، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله ، ويسلك طريق العدل ، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه ، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه ، أو يخون من خانه .
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ } أي : ليعن بعضكم بعضا على البر . وهو : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله وحقوق الآدميين .
والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها ، بكل قول يبعث عليها وينشط لها ، وبكل فعل كذلك .
{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ } وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها ، ويحرج . { وَالْعُدْوَانِ ْ } وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ } على من عصاه وتجرأ على محارمه ، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل .
ثم يستأنف نداء الذين آمنوا لينهاهم عن استحلال حرمات الله :
( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله . ولا الشهر الحرام . ولا الهدي . ولا القلائد . ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . وإذا حللتم فاصطادوا )
وأقرب ما يتجه إليه الذهن في معنى ( شعائر الله ) في هذا المقام أنها شعائر الحج والعمرة وما تتضمنه من محرمات على المحرم للحج او العمرة حتى ينتهي حجه بنحر الهدي الذي ساقه إلى البيت الحرام ؛ فلا يستحلها المحرم في فترة إحرامه ؛ لأن استحلالها فيه استهانة بحرمة الله الذي شرع هذه الشعائر . وقد نسبها السي القرآني إلى الله تعظيما لها ، وتحذيرا من استحلالها .
والشهر الحرام يعني الأشهر الحرم ؛ وهي رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرم . وقد حرم الله فيها القتال - وكانت العرب قبل الإسلام تحرمها - ولكنها تتلاعب فيها وفق الأهواء ؛ فينسئونها - أي يؤجلونها - بفتوى بعض الكهان ، أو بعض زعماء القبائل القوية ! من عام إلى عام . فلما جاء الإسلام شرع الله حرمتها ، وأقام هذه الحرمة على أمر الله ، يوم خلق الله السماوات والأرض كما قال في آية التوبة : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم . ذلك الدين القيم . . ) وقرر أن النسيء زيادة في الكفر . واستقام الأمر فيها على أمر الله . . ما لم يقع الاعتداء فيها على المسلمين ، فإن لهم حينئذ ان يردوا الاعتداء ؛ وألا يدعوا المعتدين يحتمون بالأشهر الحرم - وهم لا يرعون حرمتها - ويتترسون خلفها للنيل من المسلمين ، ثم يذهبون ناجين ! وبين الله حكم القتال في الأشهر الحرم كما مر بنا في سورة البقرة .
والهدي وهو الذبيحة التي يسوقها الحاج أو المعتمر ؛ وينحرها في آخر أيام الحج أو العمرة ، فينهي بها شعائر حجه أو عمرته . وهي نافة أو بقرة أو شاة . . وعدم حلها معناه ألا ينحرها لأي غرض آخر غير ما سيقت له ؛ ولا ينحرها إلا يوم النحر في الحج وعند انتهاء العمرة في العمرة . ولا ينتفع من لحومها وجلودها وأشعارها وأوبارها بشيء ؛ بل يجعلها كلها للفقراء .
والقلائد . وهي الأنعام المقلدة التي يقلدها أصحابها - أي يضعون في رقبتها قلادة - علامة على نذرها لله ؛ ويطلقونها ترعى حتى تنحر في موعد النذر ومكانه - ومنها الهدي الذي يشعر : أي يعلم بعلامة الهدي ويطلق إلى موعد النحر - فهذه القلائد يحرم احلالها بعد تقليدها ؛ فلا تنحر إلا لما جعلت له . . وكذلك قيل : إن القلائد هي ما كان يتقلد به من يريدون الأمان من ثأر أو عدو أو غيره ؛ فيتخذون من شجر الحرم ما يتقلدون به ، وينطلقون في الأرض لا يبسط أحد يده إليهم بعدوان - وأصحاب هذا القول قالوا : إن ذلك قد نسخ بقول الله فيما بعد : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . . وقوله : ( فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) . . والأظهر القول الأول ؛ وهو أن القلائد هي الأنعام المقلدة للنذور لله ؛ وقد جاء ذكرها بعد ذكر الهدي المقلد للنحر للحج أو العمرة ، للمناسبة بين هذا وذاك .
كذلك حرم الله آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا . . وهم الذين يقصدون البيت الحرام للتجارة الحلال وطلب الرضوان من الله . . حجاجا أو غير حجاج . . وأعطاهم الأمان في حرمة بيته الحرام .
ثم أحل الصيد متى انتهت فترة الإحرام ، في غير البيت الحرام ، فلا صيد في البيت الحرام : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) . .
إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام ؛ كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم . . منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى . وأن يروعها العدوان . . إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت ؛ استجابة لدعوة إبراهيم - أبي هذه الأمة الكريم - ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام - في ظل الإسلام - وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنينته وأمنه ؛ ليحرص عليه - بشروطه - وليحفظ عقد الله وميثاقه ، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام ، وفي كل مكان . .
وفي جو الحرمات وفي منطقة الأمان ، يدعو الله الذين آمنوا به ، وتعاقدوا معه ، أن يفوا بعقدهم ؛ وأن يرتفعوا إلى مستوى الدور الذي ناطه بهم . . دور القوامة على البشرية ؛ بلا تأثر بالمشاعر الشخصية ، والعواطفالذاتية ، والملابسات العارضة في الحياة . . يدعوهم ألا يعتدوا حتى على الذين صدوهم عن المسجد الحرام في عام الحديبية ؛ وقبله كذلك ؛ وتركوا في نفوس المسلمين جروحا وندوبا من هذا الصد ؛ وخلفوا في قلوبهم الكره والبغض ، فهذا كله شيء ؛ وواجب الأمة المسلمة شيء آخر . شيء يناسب دورها العظيم :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .
إنها قمة في ضبط النفس ؛ وفي سماحة القلب . . ولكنها هي القمة التي لا بد أن ترقى إليها الأمة المكلفة من ربها أن تقوم على البشرية لتهديها وترتفع بها إلى هذا الأفق الكريم الوضيء .
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس . . التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام ، ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام . وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة ؛ تجذب الناس إليه وتحببهم فيه .
وهو تكليف ضخم ؛ ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية ، ولا يحملها فوق طاقتها . فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب ، ومن حقها أن تكره . ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فوره الغضب ودفعة الشنآن . . ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى ؛ لا في الإثم والعدوان ؛ ويخوفها عقاب الله ، ويأمرها بتقواه ، لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط ، وعلى التسامي والتسامح ، تقوى لله ، وطلبا لرضاه .
ولقد استطاعت التربية الإسلامية ، بالمنهج الرباني ، أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية ، والاعتياد لهذا السلوك الكريم . . وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوى وعن هذا الاتجاه . . كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور : " أنصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . كانت حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية . كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى ؛ وكان الحلف على النصرة ، في الباطل قبل الحق . وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق . وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط بالله ؛ ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج الله وميزان الله . . يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . . وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى ، وهو يقول :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت ، وإن ترشد غزية أرشد !
ثم جاء الإسلام . . جاء المنهج الرباني للتربية . . جاء ليقول للذين آمنوا :
( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان . واتقوا الله ، إن الله شديد العقاب ) . .
جاء ليربط القلوب بالله ؛ وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله . جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية ، ونعرة العصبية ، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء . .
وولد " الإنسان " من جديد في الجزيرة العربية . . ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق الله . . وكان هذا هو المولد الجديد للعرب ؛ كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض . . ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء : " انصر أخاك ظالما أو مظومًا " . كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء !
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية ، وأفق الإسلام ؛ هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " . وقول الله العظيم : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا . وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) .
ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج .
وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبُدن من شعائر الله .
وقيل : شعائر الله محارمه [ التي حرمها ]{[8877]} أي : لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[8878]} { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه{[8879]} من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [ فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ] }{[8880]} الآية . [ التوبة : 36 ] .
وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حُرُم ، ثلاث متواليات : ذو القَعْدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان " .
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت ، كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة{[8881]} عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني :{[8882]} لا تستحلوا قتالا فيه . وكذا قال مُقَاتل بن حَيَّان ، وعبد الكريم بن مالك الجزَريُّ ، واختاره ابن جرير أيضًا ، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، {[8883]} واحتجوا بقوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] قالوا : والمراد أشهر التسيير الأربعة ، [ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ] {[8884]} قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره .
وقد حكى الإمام أبو جعفر{[8885]} [ رحمه الله ]{[8886]} الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم ، وغيرها من شهور السنة ، قال : وكذلك{[8887]} أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه{[8888]} بلحاء{[8889]} جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان{[8890]} ولهذه المسألة بحث آخر ، له موضع أبسط من هذا .
[ و ]{[8891]} قوله : { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } يعني : لا تتركوا الإهداء إلى البيت ؛ فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدْيٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ؛ ولهذا لما حَج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُلَيْفة ، وهو وادي العَقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتَطيَّب وصلَّى ركعتين ، ثم أشعر هَدْيَه وقلَّدَه ، وأهَلَّ بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] .
قال بعض السلف : إعظامها : استحسانها واستسمانها .
وقال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . رواه أهل السنن{[8892]}
وقال مُقاتل بن حَيَّان : { وَلا الْقَلائِدَ } فلا تستحلوا{[8893]} وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم{[8894]} قلَّدوا أنفسهم بالشَّعْر والوَبَر ، وتقلد مشركو الحرم من لَحاء شجر الحرم ، فيأمنون به .
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا محمد بن عَمَّار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد ، وقوله : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ المائدة : 42 ] .
وحدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن ابن عَوْن قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .
وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم ، فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره . وكذا قال مُطرِّف بن عبد الله .
وقوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام ، الذي من دخله كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه ، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه .
قال مجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، ومُطَرِّف بن عبد الله ، وعبد الله{[8895]} بن عُبَيد بن عُمير ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان في قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ } يعني بذلك : التجارة .
وهذا كما تقدم في قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ]
وقوله : { وَرِضْوَانَا } قال ابن عباس : يترضَّون الله بحجهم .
وقد ذكر عِكْرِمة ، والسُّدِّي ، وابن جُرَيْجٍ : أن هذه الآية نزلت في الحُطم{[8896]} بن هند البكري ، كان قد أغار على سَرْح المدينة ، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا{[8897]} في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله عز وجل { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } .
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله ، إذا لم يكن له أمان ، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس ؛ فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم . فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به ، فهذا يمنع كما قال [ تعالى ]{[8898]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمَّر الصديق على الحجيج - علِيّا ، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وألا يحج بعد العام مُشْرِك ، ولا يطوفن بالبيت عُرْيان{[8899]} .
وقال [ على ]{[8900]} بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يعني من توجه قِبَل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] وقال تعالى : { مَا كَانَ{[8901]} لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } [ التوبة : 17 ] وقال [ تعالى ] :{[8902]} { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام .
وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تَقلَّد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة من شَعرٍ فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : { فَاقْتُلُوا{[8903]} الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . .
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { وَلا الْقَلائِدَ } يعني : إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوه ، قال : ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك ، قال الشاعر{[8904]} :
ألَمْ تَقْتُلا الحرْجَين إذ أعورا لكم *** يمرَّان الأيدي اللَّحاء المُضَفَّرا{[8905]}
وقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } أي : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد . وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السَّبْر : أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبًا رده واجبًا ، وإن كان مستحبًا فمستحب ، أو مباحًا فمباح . ومن قال : إنه على الوجوب ، ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال : إنه للإباحة ، يرد عليه آيات أخر ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } ومن القراء من قرأ : " أن صدوكم " بفتح الألف من " أن " ومعناها ظاهر ، أي : لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا [ في ]{[8906]} حكم الله فيكم{[8907]} فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل ، فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد في كل حال .
وقال بعض السلف : ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السموات والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سَهْل بن عثمان{[8908]} حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد{[8909]} هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل الله هذه الآية{[8910]} .
والشنآن هو : البغض . قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنَأته أشنؤه شنآنا ، بالتحريك ، مثل قولهم : جَمَزَان ، ودَرَجَان ورَفَلان ، من جمز ، ودرج ، ورفل . قال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن ، فيقول : شنان . قال : ولم أعلم أحدًا قرأ بها ، ومنه قول الشاعر{[8911]} :
ومَا العيشُ إلا ما تُحبُّ وتَشْتَهي{[8912]} *** وَإنْ لامَ فيه ذو الشنَّان وفَنَّدَا
وقوله : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ } يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ، وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل .
والتعاون على المآثم والمحارم .
قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : مجاوزة ما حد الله في دينكم ، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم{[8913]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا " . قيل : يا رسول الله ، هذا نَصَرْتُه مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال : " تحجزه تمنعه{[8914]} فإن ذلك نصره " .
انفرد به البخاري من حديث هُشَيْم به نحوه{[8915]} وأخرجاه{[8916]} من طريق ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما ؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يحيى بن وَثَّاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم{[8917]} قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " {[8918]} .
وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [ قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ]{[8919]} أنه قال : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم{[8920]} ولا يصبر على أذاهم " .
وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة ، وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف ، كلاهما عن الأعمش ، به{[8921]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا عيسى بن المختار ، عن ابن أبي ليلى ، عن فُضَيْل بن عمرو ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدَّالُّ على الخير كفاعله " . ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد{[8922]} .
قلت : وله شاهد{[8923]} في الصحيح : " من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " {[8924]} .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي ، قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نِمْرَان بن مخُمر حدثه{[8925]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام " {[8926]} .