بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

قوله تعالى : { يا َأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } الشعائر ما جعل الله علامات الطاعات ، واحدها شعيرة ، ومعناه لا تستحلوا شيئاً من ترك المناسك كلها مما أمر الله تعالى من أمر الحج ، وهو السعي بين الصفا والمروة ، والخروج إلى عرفات ، ورمي الجمار ، والطواف ، واستلام الحجر وغير ذلك . وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة ، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات ، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات ، فأمر الله تعالى في هذه السورة بأن لا يتركوا شيئاً من أمور المناسك . ثم قال : { وَلاَ الشهر الحرام } يعني لا تستحلوا القتل في الشهر الحرام { وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد } يقول : لا تتعرضوا له ولا تستحلوا . وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا خرجوا إلى مكة ، وكانوا إذا قلدوا الهدي أمنوا بذلك ، ومن يكن له هدي جعل في عنق راحلته قلادة ، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة من شعر أو وبر فيأمن بذلك ، فإذا رجع من مكة جعل شيئاً من لحاء شجر مكة في عنق راحلته ، فيأمن بذلك ليعرف أنه كان حاجاً ، فأمرهم الله تعالى بأن لا يستحلوا ذلك ، يعني : من فعل ذلك لا يتعرض له .

ثم قال تعالى { وَلاَ آمين } يقول : ولا تستحلوا قاصدين { البيت الحرام } نزلت في " شُرَيْح بن ضُبَيْعة بن شُرَحْبِيل اليماني " دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه ، فلما خرج من عنده مَرَّ بسرح لأهل المدينة فساقها ، وانتهى إلى اليمامة ثم خرج من هناك نحو مكة ومعه تجارة عظيمة ، فهمَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا إليه ويغيروا على أمواله ، فنزل { وَلاَ آمين البيت الحرام } { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ } يعني الربح في المال { وَرِضْوَاناً } يعني يطلبون بحجهم رضوان ربهم فلا يرضى عنهم حتى يؤمنوا .

ثم نسخ بقوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ولم ينسخ قوله { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } ولكنه محكم ، فوجب إتمام أمور المناسك ، ولهذا قال أصحابنا : إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده ، فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ، ولا يجوز أن يترك ، ثم عليه القضاء في السنة الثانية . ونسخ قوله { وَلاَ الشهر الحرام } فيجوز القتال في الشهر الحرام بقوله { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض منها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 36 ] وقوله تعالى { وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد } فهو محكم أيضاً ، ولم ينسخ فكل من قلد الهدي وتوجه إلى مكة ونوى الإحرام صار محرماً ، ولا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية . فهذه الأحكام معطوفة بعضها على بعض ، بعضها منسوخة وبعضها محكمة ، فإن قيل : قد قال : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا } فأخبر أنهم يطلبون رضوان ربهم ، ولم يذكر أن طلبهم كان باطلاً ؟ قيل له : لأنه لم يذكر في لفظ الآية أمر الكفار ، وإنما بيّن النهي عن التعرض للذين يقصدون البيت ، فإن كان الذي قصد كافراً فقد بيّن في آية أخرى أنه لم يقبل منه ، وإن لم يذكر ها هنا وهو قوله { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ أتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ في الآخرة مِنَ الخاسرين } [ المائدة : 5 ] وقال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } يعني إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا إن شئتم ، فهذه رخصة بلفظ الأمر كقوله { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] وكقوله { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالآن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ سورة البقرة : 187 ] الآية . وقال الضحاك { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } يعني إذا خرجتم من إحرامكم وخرجتم من حرم الله تعالى وأمنه فاصطادوا . ثم قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } يقول : ولا يحملنكم عداوة كفار مكة { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } يعني عام الحديبية { أَن تَعْتَدُواْ } على حجاج اليمامة من المشركين فتستحلوا منهم .

وفي الآية دليل أن المكافأة لا تجوز من غير جنس الذي فعل به ، وتكون تلك المكافأة اعتداء لأن الله تعالى قال : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } يعني بغض قوم وعداوتهم { أَن تَعْتَدُواْ } يعني تجاوزوا الحد في المكافأة . قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر { شَنَآنُ } بجزم النون . وقرأ الباقون { شَنَآنُ } بالنصب . وقال القتبي : لا يقال في المصادر فعلان ، وإنما يقال ذلك في الصفات مثل عطشان وسكران ، وفي المصادر يقال : فعلان مثل طيران ولهفان وشنآن . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { أَن صَدُّوكُمْ } بكسر الألف على معنى الابتداء . وقرأ الباقون بالنصب على معنى البناء .

ثم قال تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } يعني : تعانوا على أمر الله واعملوا به . وروى ابن عباس : البرُّ ما أمر الله تعالى به ، يعني تحاثُّوا على أمر الله واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله تعالى عنه ، وامتنعوا عنه . وهذا موافق لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِهِ » وقد قيل : الدالُّ على الشر كصانعه . ثم قال : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } قال القتبي : العدوان على وجهين : عدوان في السبيل كقوله { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } [ البقرة : 193 ] وكقوله { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] والثاني عدوان في الظلم كقوله { يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ المجادلة : 9 ] وكقوله { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا أمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ سورة المائدة : 2 ] يعني به حجاج أهل اليمامة ، وصارت الآية عامة في جميع الناس . ثم قال : { واتقوا الله } يقول واخشوا الله وأطيعوه فيما يأمركم به { أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } إذا عاقب .