قوله تعالى : { وَلاَ الْقَلائِدَ } : ولا ذوات القلائد ، ويجوز أن يكونَ المرادُ القلائدَ حقيقة ، ويكون فيه مبالغةٌ في النهي عن التعرض للهَدي المقلَّد ، فإنه إذا نَهَى عن قِلادته أن يُتَعَرَّض لها فبطريق الأَوْلى أن يَنْهى عن التعرض للهَدْي المُقَلَّد بها ، وهذا كما قال تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } لأنه إذا نَهَى عن إظهار الزينة فما بالك بمواضعها من الأعضاء . وقوله : ولا آمِّيْنَ " أي : ولا تُحِلُّوا قوماً آمِّين ، ويجوز ان يكون على حذف مضاف أي : لا تُحِلُّوا قتالَ قوم أو أذى قوم آمِّين . وقرأ عبد الله ومَنْ تبعه : " ولا آمِّي البيتِ " بحذف النون وإضافةِ اسم الفاعل إلى معموله . و " البيت " نصبٌ على المفعول به ب " آمّين " أي قاصدين البيتَ ، وليس ظرفاً .
وقوله : { يَبْتَغُونَ } حالٌ من الضمير في " آمِّين " أي : حالَ كون الآمِّين مبتغين فَضْلاً ، ولا يجوزُ أن تكونَ هذه الجملة صفة ل " آمّين " لأن اسم الفاعل متى وُصف بَطَل عمله على الصحيح ، وخالف الكوفيون في ذلك ، وأعرب مكي هذه الجملةَ صفةً ل " آمِّين " وليس بجيد لِما تقدم ، وكأنه تبع في ذلك الكوفيين . وهنا سؤال : وهو أنه لِم لا قيل بجوازِ إعماله قبل وصفِه كما في هذه الآية قياساً على المصدر فإنه يَعْمل قبلَ أن يُوصف نحو : يعجبني ضربٌ زيداً شديدٌ ؟ والجمهور على " يبتغون " بتاء الخطاب ، على أنه خطاب للمؤمنين وهي قَلِقة لقوله : { مِّن رَّبِّهِمْ } ولو أريد خطاب المؤمنين لكان تمامُ المناسبة : " تبتغون فضلاً من ربكم " و " من ربهم " يجوز أن يتعلق بنفس الفعل ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل " فضلاً " أي : فضلاً كائناً من ربهم . وقد تقدم الخلاف في ضم راء " رضوان " في آل عمران . وإذا عَلَّقنا " من ربهم " بمحذوفٍ على أنه صفة ل " فضلاً " فيكون قد حَذَفَ صفة " رضوان " لدلالةِ ما قبله عليه أي : ورضواناً من ربهم ، وإذا عَلَّقناه بنفس الفعل لم يَحْتَجْ إلى ذلك .
قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } قُرئ : " أَحْللتم " وهي لغة في " حَلَّ " ، ويقال : " أحَلَّ من إحْرامِه " كما يقال : حَلَّ وقرأ الحسن بن عمران وأبو واقد ونبيح والجراح بكسر الفاء العاطفة ، وهي قراءةٌ ضعيفة مشكلة ، وخَرَّجها الزمخشري على أن الكسر في الفاء بدلٌ من كسر الهمزة في الابتداء . وقال ابن عطية : " هي قراءةٌ مشكلة ، ومن توجيهها أن يكونَ راعى كسر ألف الوصل إذا ابتدأ ، فكسرَ الفاءَ مراعاةً وتذكُّراً لكسر ألف الوصل " . وقال الشيخ : " وليس عندي هو كسراً محضاً بل هو إمالة محضةٌ لتوهُّم وجود كسرة همزة الوصل ، كما أمالوا فاء " فإذا " لوجود كسر الهمزة " .
قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } قرأ الجمهور : " يَجْرِمَنَّكم " بفتح الياء من " جرم " ثلاثياً " ومعنى " جَرَمَ " عند الكسائي وثعلب : حمل ، يقال : " جَرَمه على كذا " أي : حمله عليه ، فعلى هذا التفسير يتعدَّى " جرم " لواحد ، وهو الكاف والميم ، ويكون قوله : { أَن تَعْتَدُواْ } على إسقاطِ حرف الخفض وهو " على " أي : ولا يَحْملنكم بُعْضكم لقوم على اعتدائكم عليهم ، فيجيء في محلِّ " أَنْ " الخلافُ المشهور ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة . ومعناه عند أبي عبيد والفراء كسب ، ومنه " فلان جريمةُ أهله " أي : كاسبهُم ، وعن الكسائي أيضاً : أنَّ جرم وأجرم بمعنى كَسَب غيره ، وعلى هذا فيحتمل وجهين ، أحدهما : أنه متعد لواحد . والثاني : أنه متعد لاثنين ، كما أن " كَسَب " كذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يكون إلا متعدياً لاثنين أولُهما ضميرُ الخطاب . الثاني : " أن تعتدوا " أي : لا يَكْسِبَنَّكم بغضُكم لقومٍ الاعتداءَ عليهم .
وقرأ عبد الله : " يُجْرِمَنَّكم " بضم الياء من أجرم رباعياً ، وقيل : هو بمعنى جَرَم كا تقدم نَقْلُه عن الكسائي ، وقيل : " أجرم " منقول من " جرم " بهمزة التعدية . قال الزمخشري : " جَرَم يجري مجرى كسب في تعديتِه إلى مفعول واحد وإلى اثنين ، تقول : " جَرَمَ ذنباً " نحو : كَسبه ، وجرمته ذنباً أي : كَسَبته إياه ، ويقال : أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولك : " أكسبته ذنباً " وعليه قراءةُ عبد الله : " ولا يُجْرمنكم " ، وأولُ المعفولين على القراءتين / ضميرُ المخاطبين ، والثاني : " أَنْ تعتدوا " انتهى وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابن عيسى الرماني - القطعُ ، فجرم " حَمَل على الشيء " لقطعِه عن غيره ، وجَرَم " كَسَب " لانقطاعه إلى الكسب ، وجَرَم بمعنى " حَقّ " لأن الحق يُقطع عليه . قال الخليل :
{ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ } [ النحل : 62 ] أي : لقد حق ، هكذا قال الرماني ، فجَعَل بين هذه الألفاظ قَدْراً مشتركاً ، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي .
و " شَنآنُ : معناه بُغْض ، وهو مصدر شَنِئ أي : أبغض . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم : " شَنْآن " بسكونِ النون ، والباقون بفتحها ، وجَوَّزوا في كل منهما أن يكونَ مصدراً وأن يكون وصفاً ، حتى يُحْكى عن أبي عليّ أنه قال : " مَنْ زَعَم أن " فَعَلان " إذا سَكَنت عينه لم يكن مصدراً فقد أخطأ إلا ان فَعْلان بسكون العين قليلٌ في المصادر نحو : " لَوَيْتُه دينه لَيَّاناً " بل هو كثير في الصفات نحو سَكْران وبِابِه ، وفَعَلان بالفتح قليلٌ في الصفات قالوا : حمارٌ قَطَوان أي عَسِر السير ، وتيس عَدَوان قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كَتَيْسِ ظِباء الحُلَّبِ العَدَوانِ
ومثله قولُ الآخر : - أنشده أبو زيد –
وقبلَك ما هابَ الرجالُ ظُلامتي *** وفَقَّأْتُ عينَ الأَشْوَسِ الأَبَيَانِ
بفتح الباء والياء ، بل الكثيرُ أن يكونَ مصدراً نحو : " الغلَيان والنزوان " فإنْ أُريد بالشنآن الساكنِ العين الوصفُ فالمعنى : ولا يَجْرمنكم بغيضُ قوم ، وبغيض بمعنى مُبْغض اسم فاعل من أبغض وهو متعدّ ، ففعيل بمعن الفاعل كقدير ونصير ، وإضافته لقوم على هذا إضافةُ بيان أي : إنَّ البغيض من بينهم ، وليس مضافاً لفاعل ولا مفعول ، بخلاف ما إذا قَدَّرْته مصدراً فإنه يكون مضافاً إلى مفعوله أو فاعله كما سيأتي . وقال صاحبُ هذا القول : " يقال : رجلٌ شَنْآن وامرأة شنْآنة كَنْدمان وندمانة ، وقياسُ هذا أن يكون من فِعْلٍ متعدّ " وحكى : رجل شنآن وامرأة شَنْأى كَسكْران وسكرى ، وقياسُ هذا أن يكون من فِعْلٍ لازم ، ولا بُعْدَ في ذلك ، فإنهم قد يشتقون من مادة واحة القاصر والمتعدي ، قالوا : " فَغَرْتُ فاه وفَغَر فُوه " أي : فتحه فانفتح ، وإنْ أُريد به المصدرُ فواضحٌ ، ويكون مضافاً إلى مفعولِه أي : بغضُكم لقومٍ ، فحُذِف الفاعل ، ويجوز أن يكون مضافاً إلى فاعله أي : بغضُ قوم إياكم فحذف معفوله ، والأول أظهر في المعنى ، وحكم " شنآن " بفتح النون مصدراً وصفةً حكمُ الساكنِها ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، ومن مجيءِ " شَنآن " الساكنِ العينِ مصدراً قول الأحوص :
وما الحبُّ إلا مَا تَلذُّ وتَشْتَهي *** وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَانِ وفَنَّدا
أراد الشنْآن بسكونِ النونِ فنقلَ حركةَ الهمزة إلى النون الساكنة ، وحذف الهمزة ، ولولا سكونُ النونِ لما جاز النقل ، ولو قال قائل : إن الأصل " الشنآن " بفتح النون ، وخفف الهمزة بحذفها رأساً ، كما قرئ { نها لاحْدى الكُبَر } [ المدثر : 35 ] بحذفِ همزة " إحدى " لكان قولاً يسقط به الدليل لاحتماله . والشنآن بالفتح مِمَّا شَذَّ عن القاعدة الكلية ، قال سيبويه : " كلُّ بناء من المصادر على وزن فَعَلان بفتح العين لم يتعدَّ فعلُه إلا أن يَشِذَّ شيءٌ كالشَّنآن " يعني أنه مصدرٌ على فَعَلان بالفتح ومع ذلك فعلُه متعدٍّ ، وفعلُه أكثر الأفعال مصادِرَ ، سُمِع له ستةَ عشرَ مصدراً قالوا : شَنِئَ يَشْنَأُ شَنْئَاً وشَنآناً مثلثي الشين فهذه ست لغات . وقرأ ابن وثاب والحسن والوليد عن يعقوب : " يَجْرِمَنْكم " بسكون النون ، جَعَلوها نونَ التوكيد الخفيفةَ ، والنهي في الفظ للشنآن وهو في المعنى للمخاطَبين نحو : " لا أُرَينَّك ههنا " { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 132 ] قال مكي .
قوله تعالى : { أَن صَدُّوكُمْ } قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر " إنْ " والباقون بفتحها ، فمَنْ كسر فعلى أنها شرطية ، والفتح على أنها علة للشنآن أي : لا يكسبنَّكم أولا يَحْمِلَنَّكم بغضُكم لقوم لأجل صَدِّهم إياكم عن المسجد الحرام ، وهي قراءةٌ واضحة .
وقد استشكل الناسُ قراءة الأبوين من حيث إنَّ الشرط يقتضي أنَّ الأمر المشروط لم يقع ، والفرض أنَّ صَدَّهم عن البيت الحرام كان وقد وقع ، ونزولُ هذه الآية متأخرٌ عنه بمدة ، فإنَّ الصدَّ وقع عامَ الحديبية وهي سن ست ، والآية نزلت سنة ثمان ، وأيضاً فإنَّ مكةَ كانت عام الفتح في أيديهم فكيف يُصَدون عنها ؟ قال ابن جريج والنحاس وغيرهما : " هذه القراءة منكرةٌ " واحتجوا بما تقدم من الإِشكال ، ولا إشكالَ في ذلك . فالجواب عما قالوه من وجهين ، أحدهما : أنَّا لا نُسَلِّم أن الصدَّ كان قبل نزول الآية فإنَّ نزولها عام الفتح ليس مُجْمعاً عليه . وذكر اليزيدي أنها نزلت قبل الصدِّ فصار الصدُّ أمراً منتظراً ، والثاني : أنه وإنْ سَلَّمنا أن الصدَّ كان متقدماً على نزولها فيكون المعنى : إنْ وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع زمن الحديبية - أو يستديموا ذلك الصدَّ الذي وقع منهم - فلا يجرمنكم ، قال مكي : " ومثلُه عند سيبويه قول الشاعر - وهو الفرزدق - :
أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذلك شيءٌ قد كان ووقع ، وإنما معناه : إنْ وقع مثلُ ذلك الغضب ، وجواب الشرِط ما قبله " يعني : وجوابُ الشرط دلَّ عليه ما قبلَه ، لأن البصريين يمنعون تقديمَ الجوابِ إلا أبا زيد . وقال مكي أيضاً : " ونظيرُ ذلك أنَّ يقول رجل لامرأته " أنت طالق إنْ دخلت الدار " بكسر " إن " لم تَطْلُق عليه بدخولها الأول لأنه أمر يُنْتَظَر ، ولو فتح لَطَلَقَتْ عليه ، لأنه أمرٌ كان ووقع ، ففتحُ " أن " لما هو علة لما كان ووقع ، وكَسْرُها إنما هو لأمرٍ يُنْتظر ، والوجهان حَسَنان على معنييهما " وهذا الذي قاله مكي فَصَّل فيه الفقهاء بين مَنْ يعرف النحو وبين مَنْ لا يعرفه . ويؤد قراءَة الأبوين قراءة عبد الله بن مسعود : " إنْ يَصُدُّوكم " قال أبو عبيد : " حَدَّثنا حجاج عن هرون قال : قرأ ابن مسعود فذكرها ، قال : وهذا لا يكونُ إلا على استئنافِ الصدِّ ، يعني إنْ وقع صَدُّ آخرُ مثلُ ما تقدم عام الحديبية .
ونَظْمُ هذه الآيات على ما هي عليه مِنْ أبلغ ما يكون وأفصحِه ، و ليس فيها تقديمٌ ولا تأخير كما زعم بعضهم فقال : / أصلُ تركيب الآية الأولى : " غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم ، فإذا حَلَلْتم فاصطادوا " وأصل تركيب الثانية : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ونَظَّره بآيةِ البقرة يعني : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } [ الآية : 67 ] ، وهذا لا حاجةَ إليه مع أنَّ التقديم والتأخير عند الجمهور من ضرائر الشعر فيجبُ تنزيه القرآن عنه ، وليست الجملةُ أيضاً من قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } معترضةً بين قوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } وبين قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } بل هي مؤسسةٌ ومنشئةٌ حكماً ، وهو حِلُّ الاصطياد عند التحلُّل من الإِحرام ، والجملةُ المعترضةُ إنما تفيد توكيداً وتسديداً ، وهذه مفيدةٌ حكماً جديداً كما تقدم .
وقوله : { أَن تَعْتَدُواْ } قد تقدَّم أنه من متعلقات " لا يجرمنكم " على أنه مفعولٌ ثانٍ أو على حذف حرف الجر ، فَمَنْ كسر " إن صدوكم " يكونُ الشرطُ وجوابُه المقدر في محلِّ جر صفة ل " قوم " اي شنآن قوم هذه صفتُهم ، ومَنْ فتحها فمحلُّها الجرُّ أو النصب ، لأنها على حَذْفِ لام العلة كما تقدم . قال الزمخشري : " والمعنى : ولا يكسبنكم بغضُ قوم لأنْ صَدُّوكم الاعتداءَ ولا يَحْملنكم عليه " قال الشيخ : وهذا تفسيرُ معنى لا تفسير إعراب ، لأنه يمتنع أن يكونَ مدلولُ " جرم " حمل وكَسَب في استعمال واحد لاختلافِ مقتضاهما ، فيمتنعُ أن يكونَ " [ أن ] تعتدوا " في محلِّ مفعول به ومحلِّ مفعولٍ على إسقاط حرف الجر " وهذا الذي قال لا يُتَصَوَّر أن يتوهَّمه مَنْ له أدنى بصر بالصناعة حتى يُنَبِّه عليه .
وقد تقدَّم قراءة البزي في نحو : " ولا تَّعاوَنُوا " وأنَّ الأصل : " تتعاونوا " فأدغم ، وحَذف الباقون إحدى التاءين عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } [ البقرة : 267 ] .