الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

قوله سبحانه : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } : خطابٌ للمؤمنين حقًّا ، ألاَّ يتعدَّوْا حدودَ اللَّهِ فِي أمْرٍ من الأمُور ، قال عطاء بنُ أبي رَبَاحٍ : شعائرُ اللَّه جمِيعُ ما أَمَرَ به سبحانَهُ ، أوْ نهى عنه ، وهذا قولٌ راجحٌ ، فالشعائِرُ : جَمْعُ شَعِيرَةٍ ، أيْ : قد أَشْعَرَ اللَّه أنَّها حَدُّهُ وطاعَتُهُ ، فهي بمعنى مَعَالِمِ اللَّهِ .

وقوله تعالى : { وَلاَ الشهر الحرام } : أي : لا تحلُّوه بقتالٍ ولا غَارَةٍ ، والأظْهَرُ أنَّ الشهر الحرام أُرِيدَ به رَجَبٌ ، ليشتدَّ أمره ، وهو شَهْرٌ كان تحريمُهُ مختصًّا بقريشٍ ، وكانَتْ تعظِّمه ، ويُحتملُ أنه أريد به الجنْسُ في جميع الأشهر الحُرُمِ .

وقوله سبحانه : { وَلاَ الهدي } : أي : لا يستحلُّ وَلاَ يُغَارُ عليه ، ثم ذَكَر المُقَلَّدَ مِنْهُ تأكيداً ومبالغةً في التنبيه علَى الحُرْمَة في التَّقْليد ، هذا معنى كلامِ ابْنِ عبَّاس .

وقال الجمهورُ : الهَدْيُ عامٌّ في أنواع ما يهدى قُرْبَةً ، والقَلاَئِدُ : ما كانَ النَّاس يتقلَّدونه من لِحَاءِ السَّمُرِ وغيره ، أَمَنَةً لهم .

وقال( ص ) : { وَلاَ القلائد } : أي : ولا ذَوَاتِ القلائدِ ، وقيل : بل المرادُ القلائدُ نَفْسُها ، مبالغةً في النهْيِ عن التعرُّض للهدْيِ ، انتهى .

وقوله تعالى : { وَلاَ ءَامِّينَ البيت الحرام } أيْ : قاصِدِينَهُ مِنَ الكفَّار ، المعنى : لا تحلُّوهم ، فَتْغيِرُونَ عليهم ، وهذا منسوخٌ ب«آية السَّيْف » ، بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }[ التوبة : 5 ] فكلُّ ما في هذه الآية ممَّا يتصوَّر في مُسْلِمٍ حاجٍّ ، فهو مُحْكَمٌ ، وكلُّ ما كان منها في الكُفَّار ، فهو منُسُوخٌ .

وقوله سبحانه : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا } ، قال فيه جمهور المفسِّرين : معناه : يبتغونَ الفَضْلَ من الأرباحِ في التِّجَارة ، ويبتغُونَ مَعَ ذلك رِضْوَانَهُ في ظَنِّهم وطَمَعهم ، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ ، وفيها استئلافٌ مِنَ اللَّهِ سبحانه للعَرَبِ ، ولُطْفٌ بهم ، لِتَنْبسطَ النفوسُ ، بتداخُلِ النَّاس ، ويَرِدُونَ المَوْسِمَ ، فيسمَعُونَ القرآن ، ويدخل الإيمانُ في قلوبهم ، وتَقُوم عليهم الحُجَّة ، كالذي كان ، ثُمَّ نَسَخَ اللَّه ذلك كلَّه بعد عَامٍ في سَنَةِ تِسْعٍ ، إذْ حَجَّ أبو بَكْرٍ( رضي اللَّه عنه ) ، ونودِيَ في الناسِ بسورة «بَرَاءَةَ » .

وقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } : مجيءُ إباحة الصَّيْد عَقِبَ التشْدِيدِ فيهِ حَسَنٌ في فَصَاحة القَوْل .

وقوله سبحانه : { فاصطادوا } : أمرٌ ، ومعناه الإباحةُ ، بإجماع .

وقوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شنئان } معناه : لا يُكْسِبَنَّكم ، وجَرِمَ الرجُلُ : معناه : كَسَبَ ، وقال ابن عبَّاس : معناه : لا يَحْمِلَنَّكم ، والمعنى : متقارِبٌ ، والتفسيرُ الذي يخُصُّ اللفظةَ هو معنى الكَسْبِ .

وقوله تعالى : { شَنَئانُ قَوْمٍ } : الشَّنَآنُ : هو البُغْض ، فأما مَنْ قرأ شَنَآنُ بفتح النون ، فالأظهرُ فيه أنه مصدَرٌ ، كأنَّه قَالَ : لا يُكْسِبَنَّكم بُغْضُ قومٍ مِنْ أجْل أَنْ صَدُّوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم ، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ سَنَة ثمانٍ ، حين أراد المسْلمونَ أنْ يَسْتَطِيلوا على قريشٍ ، وألفافِهَا المتظَاهِرِينَ على صَدِّ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وأصْحَابِهِ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ ، وذلك سنَةَ سِتٍّ من الهجرةِ ، فحصَلَتْ بذلك بِغْضَةٌ في قلوب المؤمنين ، وحيكة للكُفَّار ، فنُهِيَ المؤمنُونَ عَنْ مكافأتهم ، وإذْ للَّه فيهمْ إرادةُ خَيْرٍ ، وفي علمِهِ أنَّ منهم مَنْ يُؤْمِنُ كالذي كان .

وقرأ أبو عمرو ، وابن كَثِيرٍ : { إنْ صَدُّوكُمْ } ، ومعناه : إنْ وَقَعَ مثْلُ ذلك فِي المُسْتقبل ، وقراءةُ الجمهور أمْكَنُ .

ثم أمر سبحانه الجَمِيعَ بالتعاوُنِ عَلَى البِرِّ والتقوى ، قال قوم : هما لَفْظَانِ بمعنًى ، وفي هذا تَسَامُحٌ ، والعُرْفُ في دلالةِ هَذَيْنِ ، أنَّ البِرَّ يَتَنَاوَلُ الواجبَ والمَنْدُوبَ ، والتقوى : رعايةُ الوَاجِبِ ، فإنْ جعل أحدهما بَدَلَ الآخَرِ ، فبتجوُّز .

قُلْتُ : قال أحمدُ بْنُ نَصْرٍ الداوديُّ : قال ابنُ عباس : البِرُّ ما أُمِرْتَ به ، والتقوى ما نُهِيتَ عنه ، انتهى . وقد ذكرنا في غَيْرِ هذا الموضعِ ، أنَّ لفظ التقوى يُطْلَقُ على معانٍ ، وقد بيَّناها في آخر «سُورة النُّور » ، وفي الحديثِ الصحيحِ :( وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ) ، قال ابنُ الفَاكهانِيِّ ، عنْد شرحه لهذا الحديث : وقد رُوِّينَا في بعضِ الأَحاديثِ :( مَنْ سعى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ ، قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، وَكُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ : بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ ) ، انتهى مِن «شَرْح الأربعين » حديثاً .

ثم نهى تعالى عن التعاوُنِ عَلَى الإثْمِ والعُدْوَانِ ، ثم أمر بالتقوى ، وتوعَّد توعُّداً مجملاً ، قال النوويُّ : وعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ : " أنَّهُ أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقَالَ :( جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ والإِثْمِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : استفت قَلْبَكَ ، البِرُّ : مَا اطمأنت إلَيْهِ النَّفْسُ ، واطمأن إلَيْهِ القَلْبُ ، والإثْمُ : مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ ، وَتَردَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ ) حديثٌ حَسَنٌ رَوَيْنَاه في مسنَدِ أحمَدَ ، يعني : ابْنَ حَنْبَلٍ ، والدَّارِمِي وغيرهما ، وفي «صحيح مسلم » ، عن النَّوَّاس بْنِ سَمْعَان ، عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :( البِرُّ حُسْنُ الخُلُقَ ، والإثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ) ، انتهى .