وقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } عن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجتهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فأنزل الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } يعني لا تستحلوا قتالا فيه { ولا الهدي ولا القلائد } الآية . وقال غيره : قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } يعني المناسك ، لا تستحلوا ترك شعائر الله . والشعائر هن المناسك .
ألا ترى أن الله تعالى سمى كل نسك من الحج شعيرة الله كقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 157 ] وكقوله تعالى : { والبدن جعلتها لكم من شعائر الله } ؟ [ الحج : 36 ] . كل هذا من شعائر الله ، وهن معالم الله في الحج .
وقيل : { شعائر الله } فرائض الله ؛ كأنه قال : لا تستحلوا ترك ما فرض الله عليكم . وقال الحسن : { شعائر الله } دين الله ، وهو واحد ، وقيل في قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام } حتى بلغ { ولا الهدي ولا القلائد } [ هي حواجز أبقاها ] الله بين الناس من الجاهلية ؛ فكان الرجل لو جر جريرة ، وارتكب كبيرة ، ثم لجأ إلى حرم الله تعالى ، لم يتناول ، ولم يطلب ، ولو لقي [ المرء ] قاتل أبيه في الأشهر الحرم لم يتعرض له ، وكان الرجل لو لقي الهدي مقلدا ، وهو يأكل العصب من الجوع ، لم يتعرض له ، ولم يقربه ، وإذا أراد [ الحاج البيت يقلد البدنة ] قلادة من شعر [ تحرمها ، وتمنعها ] من الناس حتى يأتي [ محلة تلك ] حواجز [ أبقاها الله من الجاهلية أمانا لهم ] والله أعلم .
ويحتمل قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } أي لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته ، وهو من الإعلام . ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا ، وقال : لا تحلوا الحرام ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ؛ وهذه أمور كانت من قبل ، فنسخت بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآية [ التوبة : 5 ] .
وقالت عائشة رضي الله عنها إنها آخر ما أنزل ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم من حرام فحرموه .
وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } هو كقوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه كبير } [ البقرة : 217 ] وقد ذكرنا أن الله عز أطلق الحرام على الشهر الحرام بعد ما كان محظورا بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] . وأما قوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } فهو ما ذكرنا من صنيعهم في الجاهلية في ما ذكر ، وفيه دليل لقوله أصحابنا ، رحمهم الله ، حين قالوا : إن الغنم لا تقلد ، والإبل والبقر لا تقلد لأنه ذكر الهدي والقلائد ، فدل أن من الهدي [ ما ] يقلد .
[ وقوله تعالى ] : { ولا ءامين البيت الحرام } أي آتين البيت الحرام { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } قيل : إن المشركين كانوا يقصدون البيت الحرام ، يلتمسون فضل الله ورضوانه بما يصلح لهم دنياهم كقوله تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتينا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق }[ البقرة : 200 ] وقد يجوز أن يكونوا إنما التمسوا ، عند أنفسهم رضوان الله ، أمر المؤمنين بالكف عنهم ، وإن كانوا قد غلطوا في توجيه العبادة ، فجعلوها لغير الله ، كقوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } [ هود : 15 ] .
وقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } دل هذا على أن النهي في قوله : { غير محلي الصيد } [ المائدة : 1 ] في أخذ الصيد والاصطياد في الإحرام لا أكله ، وهو إباحة وإطلاق ما حظر عليهم بالإحرام ، وإن كان ظاهره أمرا . ومعناه : { وإذا حللتم } لكم أن تصطادوا .
وأصله أن كل أمر خرج على إثر محظور فهو أمر إباحة وإطلاق ذلك المحظور المحرم لا أمر إلزام وإيجاب في نحو قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع }[ الجمعة : 9 ] ثم قوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله }[ الجمعة : 10 ] هو إطلاق المحرم المقدم ، وقوله تعالى : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } [ الأحزاب : 53 ] ثم قوله تعالى : { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا }[ الأحزاب : 53 ] أمر إطلاق وإباحة ما حظر عليهم ، ومثله كثير في القرآن مما يكثر ذكره . وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : { ولا ءامين البيت الحرام } ولا تؤموا ، وكذلك في حرفه : فأموا { صعيدا طيبا } [ المائدة : 6 ] .
وقيل في قوله تعالى : { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } حجهم ، فلا يقبل منهم حين يسلموا ، فنهى الله تعالى رسوله عن قتالهم . وقال بعضهم : «إن الآية نزلت في رجل من أهل اليمامة ، يقال له شريح ، وذلك [ أنه أتى المدينة ] ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنت محمد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم . فقال : إلام تدعو ؟ قال : أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ، [ فقال شريح ] : هذا شرط شديد ، وإن لي أمراء خلفي ، أرجع إليهم ، فأعرض عليهم ما اشترطت علي ، وأستأمرهم في ذلك . فإن أقبلوا أقبلت ، وإن أدبروا أدبرت ؛ فأكون معهم . ثم انصرف خارجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد خرج من عندي بعقبي غادر ، ولقد دخل علي بوجه كافر ، وما الرجل بمسلم ، فمر شريح بسرح لأهل المدينة [ فساقه معه ] . فلما كان من العام الثاني قدم شريح إلى مكة ، ومعه تجارة عظيمة في حجاج ، وكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض . فإذا كان الشهر الحرام أمن الناس كلهم بعضهم بعضا ؛ فمن أراد أن يسافر قلد بعيره من الشعر والوبر ، فيأمن بذلك الهدي حيث ذهب . فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج شريح وقدومه إلى مكة ، أرادوا أن يغيروا على شريح فيأخذوا ما [ معه ، ويقتلوه ] كما أغار شريح على سرح أهل المدينة قبل ذلك ، فاستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فنزلت الآية فيهم : { لا تحلوا شعائر الله } إلى آخره » فلا ندري كيف كانت القصة ؟ وليس بنا إلى معرفة القصة حاجة إلا القدر الذي ذكر الله في ذلك .
وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا } [ المائدة : 8 ] كقوله في آية أخرى : { يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا } الآية [ النساء : 135 ] .
ذكر في بعضها الاعتداء ، ونهى عنه ، وهو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم ، وذكر في بعضها العدل ، ونهى عن الظلم والجور ، ثم الأسباب [ التي ] تحملهم ، وتبعهم على الاعتداء والظلم ، و تمنع القيام بالشهادة .
أخبر ألا تمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة أو طمع غنى أو خوف فقر . هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة ، وتمنعهم عن الجور والاعتداء . فنهاهم الله عز وجل أن يحملهم بغض قوم أو عداوة أحد على الجور والاعتداء ، أو تمنعهم الشفقة أو القرب أو طمع غنى أحد أو خوف فقر القيام بالشهادة وما عليهم من الحق . وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } [ النساء : 135 ] .
فإذا كان كله لله قدر أن يعدل في الحكم ، وترك مجاورة الحد الذي حد له ، وقدر على القيام بالشهادة وما ذكر ، وما يمنع شيء من ذلك القيام به من نحو ما ذكر من البغض و العداوة والقرب والشفقة أو طمع الغنى وخوف الفقر . إذا جعل الحكم لله عدل فيه ، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء . وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها ، ولو على نفسه . أما ذكر [ أنه لا ] يمنعه شيء عن القيام به من نحو ما ذكر من البغض والعداوة والقرب والشفقة أو طمع الغنى أو خوف الفقر إذا جعل الحكم لله تعالى عدل فيه ، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء .
وقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } كان البر اسم كل خير ، والتقوى هو ترك كل شر ، والانتهاء عن كل شر { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر الإثم ، والتقوى العدوان ؟ فهذا يبين أن البر اسم لكل خير ، والتقوى هو الانتهاء عن كل شر .
ويجوز أن يكون [ التقوى ] ما ذكر في الآية الأولى ، وأمر به ، وهو قوله : { لا تحلوا شعائر الله } إلى قوله : { البيت الحرام } . يقول : عاونوهم على ما يأتون به من ذلك فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم ، وإن لم يكن فعلهم برا لعبادتهم غير الله تعالى . وإنما أمروا بمعاونتهم وترك التعرض لهم إن ثبت ما ذكر في القصة إذا أجرموا ، أو قلدوا ، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نتعرض لكنائسهم وبيعهم ، وإن كانوا يعصون الله فيها لأنهم يدينون بذلك ، ويقصدون به البر عند أنفسهم . فلما أمر بنقض عهود المشركين العرب أمر بمنعهم من دخول المسجد وأن يقتلوا حيث وجدوا .
إلى هذا المعنى ذهب أصحابنا ، رحمهم الله /122- ب/ تعالى ، والله أعلم ، في فرقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم وشهادة فساق المسلمين ، وإن أهل الذمة متدينون بكفرهم ، والفساق متدينون بفسقهم . وكذلك فرقهم بين ما يغلب عليه المشركون من أموال المسلمين وبين ما يغلب عليه الفساق منها لأن أمر المتدين بدين خطأ مخالف في الحكم أمر المقر بالذنب فيه .
ألا ترى أنه يجوز أن نطلق لمن يعاقدونه من أهل الكتاب الصلاة في كنائسهم [ وبيعهم ] وإن كان ذلك عندنا [ معصية حراما ] ، ولا يجوز أن نطلق المعصية لفساق المسلمين ؟ .
وقوله تعالى : { واتقوا الله } أي نقمة الله وعذابه في ترك ما أمركم به وارتكاب ما نهاكم عنه { إن الله شديد العقاب } .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام } أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن البيت ، فتأثموا فيهم { أن تعتدوا } فتقتلوهم ، وتأخذوا أموالهم ، ذ . وقال : { وتعاونوا على البر والتقوى } البر هو ما أمرت به ، والتقوى الكف عما نهيت عنه . وقال : { والعدوان } هو المجاوزة عن حد الله الذي حده .
وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم } قال بعضهم : لا يؤثمنكم بغض قوم { أن تعتدوا } . وقال آخرون : لا يحملنكم . وفيه لغتان : يجرمنكم برفع الياء وبنصبها { يجرمنكم } وهو ما ذكرنا .