تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

وقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } عن ابن عباس رضي الله عنهما [ أنه ] قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجتهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فأنزل الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } يعني لا تستحلوا قتالا فيه { ولا الهدي ولا القلائد } الآية . وقال غيره : قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } يعني المناسك ، لا تستحلوا ترك شعائر الله . والشعائر هن المناسك .

ألا ترى أن الله تعالى سمى كل نسك من الحج شعيرة الله كقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 157 ] وكقوله تعالى : { والبدن جعلتها لكم من شعائر الله } ؟ [ الحج : 36 ] . كل هذا من شعائر الله ، وهن معالم الله في الحج .

وقيل : { شعائر الله } فرائض الله ؛ كأنه قال : لا تستحلوا ترك ما فرض الله عليكم . وقال الحسن : { شعائر الله } دين الله ، وهو واحد ، وقيل في قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام } حتى بلغ { ولا الهدي ولا القلائد } [ هي حواجز أبقاها ] الله بين الناس من الجاهلية ؛ فكان الرجل لو جر جريرة ، وارتكب كبيرة ، ثم لجأ إلى حرم الله تعالى ، لم يتناول ، ولم يطلب ، ولو لقي [ المرء ] قاتل أبيه في الأشهر الحرم لم يتعرض له ، وكان الرجل لو لقي الهدي مقلدا ، وهو يأكل العصب من الجوع ، لم يتعرض له ، ولم يقربه ، وإذا أراد [ الحاج البيت يقلد البدنة ] قلادة من شعر [ تحرمها ، وتمنعها ] من الناس حتى يأتي [ محلة تلك ] حواجز [ أبقاها الله من الجاهلية أمانا لهم ] والله أعلم .

ويحتمل قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } أي لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته ، وهو من الإعلام . ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا ، وقال : لا تحلوا الحرام ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ؛ وهذه أمور كانت من قبل ، فنسخت بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } الآية [ التوبة : 5 ] .

وقالت عائشة رضي الله عنها إنها آخر ما أنزل ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم من حرام فحرموه .

وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } هو كقوله تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه كبير } [ البقرة : 217 ] وقد ذكرنا أن الله عز أطلق الحرام على الشهر الحرام بعد ما كان محظورا بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] . وأما قوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } فهو ما ذكرنا من صنيعهم في الجاهلية في ما ذكر ، وفيه دليل لقوله أصحابنا ، رحمهم الله ، حين قالوا : إن الغنم لا تقلد ، والإبل والبقر لا تقلد لأنه ذكر الهدي والقلائد ، فدل أن من الهدي [ ما ] يقلد .

[ وقوله تعالى ] : { ولا ءامين البيت الحرام } أي آتين البيت الحرام { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } قيل : إن المشركين كانوا يقصدون البيت الحرام ، يلتمسون فضل الله ورضوانه بما يصلح لهم دنياهم كقوله تعالى : { فمن الناس من يقول ربنا آتينا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق }[ البقرة : 200 ] وقد يجوز أن يكونوا إنما التمسوا ، عند أنفسهم رضوان الله ، أمر المؤمنين بالكف عنهم ، وإن كانوا قد غلطوا في توجيه العبادة ، فجعلوها لغير الله ، كقوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } [ هود : 15 ] .

وقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } دل هذا على أن النهي في قوله : { غير محلي الصيد } [ المائدة : 1 ] في أخذ الصيد والاصطياد في الإحرام لا أكله ، وهو إباحة وإطلاق ما حظر عليهم بالإحرام ، وإن كان ظاهره أمرا . ومعناه : { وإذا حللتم } لكم أن تصطادوا .

وأصله أن كل أمر خرج على إثر محظور فهو أمر إباحة وإطلاق ذلك المحظور المحرم لا أمر إلزام وإيجاب في نحو قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع }[ الجمعة : 9 ] ثم قوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله }[ الجمعة : 10 ] هو إطلاق المحرم المقدم ، وقوله تعالى : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } [ الأحزاب : 53 ] ثم قوله تعالى : { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا }[ الأحزاب : 53 ] أمر إطلاق وإباحة ما حظر عليهم ، ومثله كثير في القرآن مما يكثر ذكره . وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى : { ولا ءامين البيت الحرام } ولا تؤموا ، وكذلك في حرفه : فأموا { صعيدا طيبا } [ المائدة : 6 ] .

وقيل في قوله تعالى : { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } حجهم ، فلا يقبل منهم حين يسلموا ، فنهى الله تعالى رسوله عن قتالهم . وقال بعضهم : «إن الآية نزلت في رجل من أهل اليمامة ، يقال له شريح ، وذلك [ أنه أتى المدينة ] ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنت محمد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : نعم . فقال : إلام تدعو ؟ قال : أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله ، [ فقال شريح ] : هذا شرط شديد ، وإن لي أمراء خلفي ، أرجع إليهم ، فأعرض عليهم ما اشترطت علي ، وأستأمرهم في ذلك . فإن أقبلوا أقبلت ، وإن أدبروا أدبرت ؛ فأكون معهم . ثم انصرف خارجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد خرج من عندي بعقبي غادر ، ولقد دخل علي بوجه كافر ، وما الرجل بمسلم ، فمر شريح بسرح لأهل المدينة [ فساقه معه ] . فلما كان من العام الثاني قدم شريح إلى مكة ، ومعه تجارة عظيمة في حجاج ، وكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض . فإذا كان الشهر الحرام أمن الناس كلهم بعضهم بعضا ؛ فمن أراد أن يسافر قلد بعيره من الشعر والوبر ، فيأمن بذلك الهدي حيث ذهب . فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج شريح وقدومه إلى مكة ، أرادوا أن يغيروا على شريح فيأخذوا ما [ معه ، ويقتلوه ] كما أغار شريح على سرح أهل المدينة قبل ذلك ، فاستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فنزلت الآية فيهم : { لا تحلوا شعائر الله } إلى آخره » فلا ندري كيف كانت القصة ؟ وليس بنا إلى معرفة القصة حاجة إلا القدر الذي ذكر الله في ذلك .

وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا } [ المائدة : 8 ] كقوله في آية أخرى : { يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا } الآية [ النساء : 135 ] .

ذكر في بعضها الاعتداء ، ونهى عنه ، وهو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم ، وذكر في بعضها العدل ، ونهى عن الظلم والجور ، ثم الأسباب [ التي ] تحملهم ، وتبعهم على الاعتداء والظلم ، و تمنع القيام بالشهادة .

أخبر ألا تمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة أو طمع غنى أو خوف فقر . هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة ، وتمنعهم عن الجور والاعتداء . فنهاهم الله عز وجل أن يحملهم بغض قوم أو عداوة أحد على الجور والاعتداء ، أو تمنعهم الشفقة أو القرب أو طمع غنى أحد أو خوف فقر القيام بالشهادة وما عليهم من الحق . وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } [ النساء : 135 ] .

فإذا كان كله لله قدر أن يعدل في الحكم ، وترك مجاورة الحد الذي حد له ، وقدر على القيام بالشهادة وما ذكر ، وما يمنع شيء من ذلك القيام به من نحو ما ذكر من البغض و العداوة والقرب والشفقة أو طمع الغنى وخوف الفقر . إذا جعل الحكم لله عدل فيه ، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء . وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها ، ولو على نفسه . أما ذكر [ أنه لا ] يمنعه شيء عن القيام به من نحو ما ذكر من البغض والعداوة والقرب والشفقة أو طمع الغنى أو خوف الفقر إذا جعل الحكم لله تعالى عدل فيه ، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء .

وقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } كان البر اسم كل خير ، والتقوى هو ترك كل شر ، والانتهاء عن كل شر { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر الإثم ، والتقوى العدوان ؟ فهذا يبين أن البر اسم لكل خير ، والتقوى هو الانتهاء عن كل شر .

ويجوز أن يكون [ التقوى ] ما ذكر في الآية الأولى ، وأمر به ، وهو قوله : { لا تحلوا شعائر الله } إلى قوله : { البيت الحرام } . يقول : عاونوهم على ما يأتون به من ذلك فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم ، وإن لم يكن فعلهم برا لعبادتهم غير الله تعالى . وإنما أمروا بمعاونتهم وترك التعرض لهم إن ثبت ما ذكر في القصة إذا أجرموا ، أو قلدوا ، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نتعرض لكنائسهم وبيعهم ، وإن كانوا يعصون الله فيها لأنهم يدينون بذلك ، ويقصدون به البر عند أنفسهم . فلما أمر بنقض عهود المشركين العرب أمر بمنعهم من دخول المسجد وأن يقتلوا حيث وجدوا .

إلى هذا المعنى ذهب أصحابنا ، رحمهم الله /122- ب/ تعالى ، والله أعلم ، في فرقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم وشهادة فساق المسلمين ، وإن أهل الذمة متدينون بكفرهم ، والفساق متدينون بفسقهم . وكذلك فرقهم بين ما يغلب عليه المشركون من أموال المسلمين وبين ما يغلب عليه الفساق منها لأن أمر المتدين بدين خطأ مخالف في الحكم أمر المقر بالذنب فيه .

ألا ترى أنه يجوز أن نطلق لمن يعاقدونه من أهل الكتاب الصلاة في كنائسهم [ وبيعهم ] وإن كان ذلك عندنا [ معصية حراما ] ، ولا يجوز أن نطلق المعصية لفساق المسلمين ؟ .

وقوله تعالى : { واتقوا الله } أي نقمة الله وعذابه في ترك ما أمركم به وارتكاب ما نهاكم عنه { إن الله شديد العقاب } .

قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام } أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن البيت ، فتأثموا فيهم { أن تعتدوا } فتقتلوهم ، وتأخذوا أموالهم ، ذ . وقال : { وتعاونوا على البر والتقوى } البر هو ما أمرت به ، والتقوى الكف عما نهيت عنه . وقال : { والعدوان } هو المجاوزة عن حد الله الذي حده .

وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم } قال بعضهم : لا يؤثمنكم بغض قوم { أن تعتدوا } . وقال آخرون : لا يحملنكم . وفيه لغتان : يجرمنكم برفع الياء وبنصبها { يجرمنكم } وهو ما ذكرنا .