قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } الآية لما حَرّم [ الله ]{[10607]} الصيد على المحرم نَهَى في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ الله تعالى .
قال المُفسِّرون : نزلتْ في الحطم{[10608]} ، واسمُه : شُرَيْحُ بنُ ضُبَيْعَةَ البَكْرِيّ ، " أتى المدينة ، وخَلَّفَ خَيْلهُ خارجَ المدينةِ ، ودخل وَحْدَه على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال [ له : ]{[10609]} إلام تدعُو الناس إليه ؟ ، فقال : " إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاةِ " ، فقال حسنٌ ، إلاّ{[10610]} أنّ لي أمراء{[10611]} لا أقطعُ أمْراً دُونهم ، ولَعَلِّي أسْلِمُ وَآتِي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " يدخلُ عليكم رجلٌ مِنْ رَبيعَة يتكلمُ بلسانِ شَيْطان " {[10612]} ثم خرج شُرَيْحٌ منْ عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِر ، وخرج بِقَفَا غَادِرٍ ، وما الرَّجُلُ بِمُسْلمٍ " ، فمرّ بِسَرْحِ المدينة فاسْتاقَه وانْطلقَ ، فتَبعُوه وَلَمْ يُدْرِكُوه ، فلما كان العامُ المقبلُ خرج حَاجًّا في حُجاج بَكْر بن وائلٍ مِنْ اليمَامَةِ ، ومعه تجارةٌ عظيمةٌ ، وقد قَلَّدُوا الهَدْي ، فقال المسلمونَ للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحطم قد خرج حَاجًّا ، فخلِّ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّه قَدْ قَلَّد الهديَ " ، فقالوا : يا رسول الله هذا شيءٌ كنا نفعله في الجاهلية ، فأبَى النبي صلى الله عليه وسلم " فأنزل الله تعالى { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ } الآية{[10613]} .
قال ابن عباسٍ ومجاهدٌ : هي مناسِكُ الحج{[10614]} ، وكان المشركون يَحُجُّونَ فيهدُونَ ، فأراد المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم فناههم الله عن ذلك .
وقال أبُو عُبَيْدَة{[10615]} : " شَعَائِرَ الله " هي الهَدَايَا [ المُشْعَرةُ لقوله تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } [ الحج : 36 ] ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّه تعالى ذكر { شَعَائِرَ اللَّهِ } ]{[10616]} ثم عطف عليها الهدايا ، والمعطوفُ يجبُ أنْ يكون مُغَايِراً للمعطوف [ عليه ]{[10617]} ، والإشعارُ من الشعار{[10618]} وهي العلامَةُ ، وإشعارُهَا إعلامُهَا بما يُعْرَفُ أنَّها هَدْيٌ ، والشَّعَائِرُ جَمْعٌ ، والأكثرونَ على أنَّهُ جَمْعُ شَعيرَة{[10619]} .
وقال ابنُ فارسٍ{[10620]} : واحِدَتُهَا شِعَارةٌ ، والشَّعِيرةُ : فَعِيلَةٌ بِمَعنى مفعلة والمُشْعَرَةُ : المُعْلَمَةُ ، والإشْعَارُ : الإعلامُ ، وكُلُّ شَيْءٍ أشْعرَ فقد أعْلم ، وهو هاهنا أنْ يُطْعَنَ في صَفحةِ سنَان{[10621]} البَعير بحديدةٍ حَتّى يَسِيلَ الدَّمُ ، فيكونَ ذلك علامَةً أنها هَدْيٌ ، وهي{[10622]} سنَّةٌ في الهدايا إذَا كانَتْ من الإبل .
وقاسَ الشَّافِعِيُّ البَقَرَ على الإبل في الإشْعارِ ، وأمّا الغنمُ فلا تُشْعَرُ بالجرح ، فإنها لا تَحْتَمِلُ الجُرْحَ لِضَعْفِهَا .
وعند أبي حَنِيفَةَ لا يُشْعَرُ الهَدْيُ .
وروى عَطِيَّةُ{[10623]} عَنْ ابْنِ عباس : { لاَ تُحِلُّوا شَعَائِر الله } في أنْ تَصِيد وأنْتَ مُحْرم لقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ }{[10624]} .
وقال السُّدِّيُّ : أراد حرمَ الله ، وقيل المرادُ النَّهْيُ عَنِ القتلِ في الحرمِ{[10625]} .
وقال عطاءُ : " شَعَائِرَ اللَّهِ " حُرُمَاتِ اللَّهِ{[10626]} .
ثم قال : { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } أي بالقتال فيه ، قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] فقيل هي : ذُو القَعْدَةِ وذُو الحَجَّةِ ومُحَرَّمٌ ورَجَب ، فقوله : { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ رجب ، لأنَّه أكمل هذه الأشهرَ الأربعةَ في هذه الصفة{[10627]} .
وقال ابنُ زَيْدٍ{[10628]} : هي النَّسِيءُ ؛ لأنَّهُم كَانُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَه عَاماً .
قال الواحدي{[10629]} : الهدي ما أهْدِيَ إلى بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ مِنْ نَاقَةٍ أو بَقَرَةٍ أوْ شَاةٍ ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ ، ويُقالُ [ أيضاً ]{[10630]} : هَدِيِّةٌ ، وجمعها هَدِيّ قال الشاعر : [ الوافر ]
حَلَفْتُ برَبِّ مكَّة والمُصَلَّى *** وأعْنَاقِ الهديِّ مُقَلَّداتِ{[10631]}
ونَظِيرُ هذِهِ الآيَةِ قولُهُ تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وقولُهُ : { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] .
قَوْلُهُ سُبحانَهُ : { وَلاَ الْقَلاَئِدَ } [ أيْ : ولا ذَواتِ القَلاَئِد ]{[10632]} عَطفٌ على الهَدْي مُبَالَغَةً في التوصية بها ؛ لأنَّها أشَرَفُ الهَدْي ، كَقَوْلِهِ تعالى : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] كأنَّهُ قِيلَ : وَذَواتِ القلائِدِ مِنْهَا خُصُوصاً .
قال القُرْطُبِيُّ{[10633]} : فَمَنْ قَالَ المرادُ بالشَّعَائِرِ{[10634]} المناسِكُ ، قال : ذَكَرَ الهَدْي تَنْبيهاً عَلَى تَخْصيصه ، ومَنْ قَالَ : الشَّعَائِرُ الْهَدْي قال : الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَراً ، أيْ : مُعْلَماً بإسَالَةِ الدَّمِ من سنامه ، والْهَدْي ما لم يُشعَر ، [ اكْتَفَى فِيهِ بالتَّقْلِيدِ ، وقيل : الشعائرُ هي البُدنُ مِنَ الأنْعامِ ، والْهَدْيُ البقر والغَنَمُ والثِّيَابُ وكُلُّ ما يُهدى ]{[10635]} .
وقال الجُمْهُور : الهَدْيُ عامٌّ في كُلِّ ما يُتقرّبُ به من الذَّبَائحِ والصَّدَقَاتِ ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " المُبَكِّرُ للجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنة " ، إلى أنْ قَالَ : " كالمُهْدِي بَيْضَة " فَسَمَّاهَا هَدْياً ، وتسميةُ البَيْضَةِ هَدْياً إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ وكذلك قال العلماءُ : إذَا قالَ جعلتُ ثَوْبِي هَدْياً فَعَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ؛ إلاَّ أنَّ الإِطْلاَقَ يَنْصَرِفُ{[10636]} إلى أحَدِ الأصْنَافِ الثَّلاثَةِ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والْغَنَمِ ، وسَوْقُها إلى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ ، وهَذَا إنَّما يُلَقَّى مِنْ عُرْف الشَّرع .
قال تعالى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [ البقرة : 196 ] وأراد به الشَّاةَ ، وقال : { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وأقَلُّهُ شاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
وقال مَالِكٌ{[10637]} : " إذَا قَالَ : ثَوْبِي هَدْيٌ ، يَجْعَلُ ثَمَنُهُ في هَدْيٍ " .
ويجوز أنْ يكونَ المرادُ " والقَلاَئِدَ " حَقيقَةً ، ويكونُ فِيهِ مبالغَةٌ في النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْي المَقلَّدِ بِهَا ، كقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [ النور : 31 ] ؛ لأنَّهُ نَهَى عَنْ إظْهارِ الزِّينةِ ، فَمَا بالُكَ بِمَواضِعِهَا مِنَ الأعْضَاءِ ، والقَلاَئِدُ : جَمْعُ قِلاَدَة وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ البَعيرِ .
وقالَ عَطَاءٌ : أرَادَ أصْحَابَ القَلاَئِدِ ، وذلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا في الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أرَادُوا الخُرُوج مِنَ الحرمِ قَلَّدُوا أنْفُسَهُم وإبلَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ ، كَيْلاَ يُتعرَّض لَهُمْ{[10638]} ، فَنَهى الشَّرْعُ عَنِ اسْتِحْلاَلِ شَيْءٍ مِنْهَا .
قوله تعالى : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } .
أيْ : وَلاَ تُحِلُّوا قوماً آمين ، أيْ : قَاصِدِينَ ، ويَجُوزُ أنْ يكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، أيْ : لا تُحِلُّوا قِتَالَ قَوْم [ أوْ أذَى ]{[10639]} قَوْمٍ آمِّينَ .
وقَرَأ{[10640]} عَبْدُ الله وَمَنْ تبعَهُ : " ولا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ " بِحَذْفِ النّونِ ، وإضَافَةِ اسْمِ الفَاعِلِ إلى مَعْمُولِهِ ، والْبَيْتُ نُصِبَ على المفْعُولِ بِهِ ب " آمين " [ أيْ : ]{[10641]} قاصِدِينَ الْبَيْتَ ، وَلَيْسَ ظَرْفاً .
وَقولُهُ : " يَبْتَغُونَ " حالٌ مِنَ الضَّميرِ في " آمِّينَ " ، أيْ : حَالَ كَوْنِ " الآمِّينَ " مُبْتَغِينَ فَضْلاً ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ تكُونَ هَذِهِ الجملةُ صِفَةً ل " آمِّين " ؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ مَتَى وُصِفَ بَطَلَ عَمَلُهُ على الصَّحيحِ . وخَالَف{[10642]} الكُوفيُّونَ فِي ذلِكَ .
وأعْرَبَ مَكي هذه الجملة صِفَةً ل " آمين " ، ولَيْسَ بِجيِّدٍ لما{[10643]} تقدَّمَ ، وكأنَّهُ تَبعَ في ذَلِكَ الكُوفِيِّين .
وهَاهُنَا سُؤالٌ ، وهَوَ أنَّهُ لم لا قيل بجوازِ إعْمَالِهِ قَبْلَ وَصْفِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ قِيَاساً على المصْدَرِ ، فإنَّه يعملُ قَبْلَ أنْ يُوصَفَ ، نَحْو : يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ زيداً شديدٌ .
والجُمْهُورُ عَلى " يَبْتَغُونَ " بيَاءِ الْغَيْبَةِ ، وقَرَأ حُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ ، والأعْرَجُ{[10644]} " تَبْتَغُونَ " بِتَاءِ الخِطَابِ ، على{[10645]} أنَّه خطابٌ للمؤمنينَ ، وهي قلقَةٌ ، لقوله : " مِنْ ربِّهمْ " وَلَوْ أُريد خطَابُ المؤمنينَ ، لكانَ تَمامُ المناسَبَةِ { تَبْتَغُون فَضْلاً مِنْ ربِّكُم } و " من ربِّهمْ " ، يجُوزُ أن يتعلَّقَ بِنَفْسِ الْفِعْلِ ، وأنْ يتعلَّقَ بمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل " فَضْلاً " ، أيْ : فَضْلاً كَائِناً " مِنْ ربِّهِمْ " .
وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ضَمِّ رَاءِ " رُضْوَان " في آلِ عمران .
وإذا عَلَّقْنَا " مِنْ ربِّهمْ " {[10646]} بِمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل " فَضْلاً " ، فَيَكُون قَدْ حَذَفَ صِفَةَ " رِضْوَان " لِدلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ ، أيْ : وَرِضْوَاناً مِنْ رَبِّهِم .
وَإذَا عَلَّقْنَاهُ بِنَفْسِ الفِعْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ .
قِيلَ : المرادُ ب " الفَضْل " الرِّزْقُ بالتِّجارَةِ و " الرِّضْوَانُ " ، أيْ : عَلَى زَعْمِهِمْ ؛ لأنَّ الكَافِرَ لا نَصِيبَ لَهُ فِي الرِّضْوَانِ .
قال الْعُلَمَاءُ{[10647]} : المشركون كَانُوا يَقْصدُونَ بِحَجِّهِمْ رضْوَان اللَّهِ ، وَإنْ كانُوا لا يَنَالُونَ ذَلِكَ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بسَبَبِ ذَلِكَ{[10648]} القصدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ .
وَقِيلَ : المرادُ بِفَضْلِ اللَّهِ الثَّوابُ ، وبالرِّضْوانِ أنْ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهم ؛ وذَلِكَ لأنَّ الْكَافِرَ وإنْ كان لا ينَالُ الفضْل والرِّضْوَان لَكِنَّهُ يَظُنُّ [ أنَّهُ بِفِعْلِهِ طَالبٌ لهما ]{[10649]} فَوُصِفَ بذلِكَ بِنَاءً على ظَنهِ ، كقوله : { وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ } [ طه : 97 ] ، وقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] .
قال قَوْمٌ : هذه الآيةُ مَنْسُوخَةٌ ؛ لأنَّ قوله تعالى : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يَقْتَضي حُرْمَةَ القِتَالِ [ في ]{[10650]} الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ يقُولُ اللَّهُ تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يَقْتَضِي حُرْمَة مَنْعِ المُشْرِكِينَ عن المسْجِدِ الحرامِ ، وذلك مَنْسُوخٌ بقوْلهِ :
{ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وُمجَاهِدٍ والحسَن وقتادَةَ{[10651]} .
وقال الشَّعْبيُّ : لم يُنْسخْ مِنْ سورةِ المائدةِ إلاَّ هذهِ الآية ، وقال آخرُون{[10652]} : هذه الآيةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ ، وهؤلاء لَهُم طَريقَانِ :
الأوَّلُ : أنَّ الله تعالى أمَر في هذه الآية ألاَّ نُخيفَ{[10653]} مَنْ يَقْصُدُ بَيْتَهُ من المُسْلِمينَ ، وحَرَّمَ عَلَيْنَا أخْذَ الْهَدْي مِنَ المُهْدين إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ لقوله أوّلِ الآية : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ } وهذا إنَّما يَلِيقُ بنُسُكِ المسلمينَ لا بنُسُكِ الكُفَّار ، وقولُهُ آخِرِ الآية : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } وهذا إنَّمَا يَلِيقُ بالمسلمِ لاَ بالْكافِرِ .
والثاني : قال أبُو مُسْلِم{[10654]} : المرادُ بالآيةِ الكفارُ الذين كَانُوا في عَهْد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا زَالَ [ الْعَهْدُ زَالَ ] الحَظْرُ ، وَلَزِمَ المُرَادُ بقوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] .
قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } وقُرِئ{[10655]} " أحْلَلْتُم " وهي لُغَةٌ في " حَلَّ " ، يُقَالُ : أحلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ، كما يُقَالُ : حَلَّ .
وَقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ عِمْران وأبُو وَاقِدٍ والجَرَّاح{[10656]} بِكَسْرِ الْفَاءِ العَاطِفَةِ وهِيَ قَراءَةٌ ضَعِيفَةٌ مُشْكِلَةٌ .
وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أنَّ الكَسْرَ فِي الْفَاءِ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ [ في ]{[10657]} الابْتِدَاءِ .
وقال ابْنُ عَطِيَّةَ : هِيَ قِرَاءةٌ مُشْكِلَةٌ ، وَمنْ{[10658]} توجيهها أنْ يكُونَ راعَى كَسْرَ ألف الوَصْلِ إذَا ابْتَدَأ فَكَسَر الْفَاءَ مُرَاعَاةً ، وتَذَكُّراً لِكَسْرِ ألِفِ الْوَصْلِ .
وقال أبُو حَيَّان : وليس هُو عِنْدي كَسْراً مَحْضاً ، بَلْ هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لتوهُّمِ وُجُودِ كَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ ، كَمَا أمَالُوا " فإذَا " لِوُجُودِ كَسْرِ الهَمْزَة .
هَذَا أمْرُ إبَاحَةٍ ، أبَاحَ لِلْحُلاَّلِ أخْذَ الصَّيْدِ ، وظَاهِرُ الأمْرِ وإنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فهو هنا للإبَاحَةِ ، كقوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ } [ الجمعة : 10 ] ، وهو كقول القائِلَ : " لا تَدخُلَنَّ هذِهِ الدَّارَ حَتّى تُؤدِّيَ ثَمَنَها ، فإذَا أدَّيْتَ فادْخُلْهَا " أيْ : فإذا أدَّيْتَ فقد أبيحَ لك دُخُولُهَا ، وحاصِلُ الكلام أنَّا إنَّما عَرَفْنَا أنَّ الأمرَ هُنَا لَمْ يُفد الوُجوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، وهذه الآيةُ مُتَعلِّقَةٌ بقوله { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] يعني [ إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِن ]{[10659]} حل الاصطِيَادِ هُوَ الإحْرَامَ ، فإذَا زَالَ الإحْرَامُ وَجَبَ أنْ يَزُول المنْعُ .
قوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } قرأ الجمهور : " يَجْرمنكم " بفتحِ اليَاءِ مِنْ " جَرَمَ " ثُلاثياً ، وَمَعْنَى " جَرَمَ " عِنْدَ الكِسَائِيِّ وثَعْلَبٍ " حَمَلَ " ، يقال : جَرَمَهُ على كَذا ، أيْ : حَمَلَهُ علَيْهِ .
وَلَقَدْ طَعَنْت أبَا عُيَيْنَةَ{[10660]} طَعْنَة *** [ جَرَمَتْ فَزَارَة ]{[10661]} بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا{[10662]}
فَعَلى هذا التَّفْسِير يتعدَّى " جَرَم " {[10663]} لِوَاحدٍ ، وهو الكافُ والميمُ ، ويكونُ قولُهُ : " أَن تَعْتَدُواْ " عَلَى إسْقَاطِ حَرْفِ الخَفْضِ ، وهو " عَلَى " أيْ : وَلاَ يَحْمِلنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ على اعْتِدَائِكُم عليْهِم ، فَيَجِيءُ في مَحَلِّ " أنْ " الخلافُ المشْهُورُ ، وإلى هذا المعْنَى ذَهَب ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ .
ومَعْنَاهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرَّاءِ : كسب ، وَمِنْهُ فُلانٌ جَريمةُ أهْلِهِ أيْ : كَاسِبُهُم .
وعَنِ الكِسَائيّ - أيضاً - أنَّ جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنَى : كَسَبَ غَيْرَهُ فَالْجَرِيمَةُ والجَارِمُ{[10664]} بِمَعْنَى الْكَاسِبِ ، وأجْرَمَ فُلانٌ أيْ : اكْتَسَبَ الإثْمَ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : [ الوافر ]
جرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ{[10665]} *** تَرَى{[10666]} العِظَام ما جَمَعتْ صَلِيبا{[10667]}
أيْ : كَاسِبٌ قُوَّةً ، والصَّلِيبُ الوَدَكُ .
قال ابنُ فَارِسٍ{[10668]} : يُقَالُ جَرَمَ وأجْرَمَ ، ولا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ : لا بُدَّ وَلاَ مَحَالَةَ [ وأصْلُه ]{[10669]} مِنْ جَرَمَ أيْ : كَسَبَ ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ :
أحدهُمَا : أنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ .
والثاني : [ أنَّهُ ]{[10670]} مُتَعَدٍّ لاثْنَيْنِ ، [ كما أنَّ " كَسَبَ " كَذلِكَ ، وأمَّا في الآية الكريمة فلا يكون إلاَّ مُتَعَدِّياً لاثْنَيْن : ]{[10671]} أوَّلُهمَا : ضَمِيرُ الْخطَابِ ، والثَّانِي : " أنْ تَعْتَدُوا " أيْ : لا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُكَمْ لقوم{[10672]} الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ .
وَقَرَأ{[10673]} عَبْدُ الله " يُجْرِمَنَّكُمْ " بِضَمِّ الياءِ مِنْ " أجْرَمَ " رُبَاعِيّاً .
وقيل : هو بمعنى " جَرَم " كما تقدم عن الكِسَائِي .
وقيل : " أجْرَمَ " مَنْقُولٌ مِنْ " جَرَم " بهمزة التَّعْدِية .
قال الزَّمَخْشَرِيّ : " جَرَمَ " ؛ يجري مَجْرَى " كَسَبَ " في تعْدِيَتهِ إلى مَفْعُولِ وَاحِدٍ وإلى اثْنَيْن ، تقولُ : جَرَمَ ذَنْباً أيْ كَسَبَهُ ، وجرَمْتَهُ ذَنْباً ، أيْ كَسَبْتَهُ إيَّاهُ ، ويقال أجْرَمْتُه ذَنْباً على نقل المُتَعَدِّي إلى مفعولٍ بالهمزةِ إلى مَفْعُولَيْنِ كقولك : أكْسَبْتُهُ ذَنْباً ، وعليه قراءةُ عبْدِ الله " وَلاَ يُجْرمَنَّكُمْ " وأوَّلُ المفعوليْنِ{[10674]} على القراءتين ضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ . وثانيهما : " أَنْ تَعْتَدُوا " اه .
وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابنُ{[10675]} عيسَى الرُّمَّانِي - القطعُ ، فَجَرَمَ حُمِلَ عَلَى الشَّيءِ لِقَطْعِهِ عَنْ غيره ، وجَرَمَ كَسَبَ لانْقِطَاعِهِ إلى الكَسْبِ ، وجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ ؛ لأنَّ الحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ .
قَالَ الخَلِيلُ : { لاَ جَرَمَ أنَّ لَهُم الْنَّارَ } أيْ : لقد حَقَّ [ هكذا ]{[10676]} قاله الرُّمانيُّ ، فجعل بين هذه الألفاظ قَدْراً مُشْتركاً ، وليس عنده مِنْ باب الاشْتِراكِ اللَّفْظِيّ .
و " شَنآن " [ معناه ]{[10677]} : بُغْض ، وهو مَصْدَرُ شَنئَ ، أيْ : أبْغَضَ .
وقرأ ابْنُ عَامِرٍ وأبُو بَكرٍ عَنْ عَاصِمٍ{[10678]} " شَنْآنُ " بسُكونِ النُّونِ ، والباقون بِفَتْحِهَا ، وجَوَّزُوا فِي كُلٍّ منهما أنْ يكونَ مَصْدراً ، وأنْ يكُونَ وَصْفاً حَتَّى يُحْكى عَن أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قال : مَنْ زَعَمَ أنَّ " فَعلاَن " إذَا سُكِّنَتْ عَيْنُهُ لَم يكُنْ مَصْدَراً فَقَدْ أخْطَأ ، لأنَّ " فَعْلان " بِسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ في المصَادِرِ ، نحو : لَوْيتُه دَيْنَهُ{[10679]} لَيَّاناً ، بَلْ هُوَ كَثير في الصِّفَاتِ نَحْوُ : سَكْرَان وَبَابُهُ و " فَعَلاَن " بالْفَتْحِ قليلٌ في الصفاتِ ، قالُوا : حِمَارٌ قَطَوَان ، أي : عَسِرُ السير ، وتَيْسٌ عَدَوَان .
. . . *** كَتَيْس{[10680]} ظِبَاءِ الْحُلَّبِ العَدَوَانِ{[10681]}
ومِثْلُهُ قولُ الآخَرِ ، أنْشَدَهُ أبُو زَيْدٍ : [ الطويل ]
وقَبْلَكَ مَا هَابَ الرِّجَالُ ظُلاَمَتي *** وَفَقَّأتُ عَيْنَ الأشْوَسٍ الأبَيَانِ{[10682]}
بِفَتْحِ الباء واليَاء ، بل الكثيرُ أنْ يكُونَ مَصْدَراً ، نحو : الغَلَيَان والنَّزَوَان{[10683]} ، فإن أريد ب " الشَّنْأنَ " السَّاكِن الْعَيْنِ الوصْفُ ، فالمعْنَى : وَلاَ يَجرمنكُمْ بَغيضُ قَوْمٍ ، وَبَغيضٌ بِمَعْنَى : مُبْغِضٍ ، اسمُ فاعِلٍ من " أبْغَضَ " ، وهو مُتعدٍّ ، فَفَعِيلٌ بمعنى الفاعِلِ كقَدِير ونَصِير ، وإضافَتُه ل " قوْمٍ " على هذا إضَافَةُ بيانٍ ، أيْ : إنَّ البغيض مِنْ بَيْنِهم ، وليس مَضَافاً لفاعِل ولا مَفْعولٍ ، بخلاف ما إذَا قَدَّرْتَهُ مَصْدراً فإنه يكون مُضَافاً إلى مَفْعُولِهِ أوْ فَاعِلِه كما سيأتي .
وقال صاحبُ هذا القول : يُقَالُ : رَجُلٌ شَنْآنُ ، وآمْرأةٌ شَنْآنَةٌ ، كنَدْمَانَ ، ونَدْمَانَةٍ ، وقياسُ هذا أنْ يكونَ مِنْ فِعْلٍ متعد [ وحكي : رجل شَنْآن ، وامرأة شَنْأى ك " سكران وسكرى " وقياس هذا أن يكون من فعل لازم ]{[10684]} ، ولا بُعْدَ في ذلك ، فإنَّهم قد يشتقُّون من مادَّةٍ واحدةٍ القَاصِرَ والمتعدِّي ، قالُوا : فَغَرْتُ فاه ، وفَغَرَ فوه أيْ : فَتَحته فانفتح ، [ وإنْ ]{[10685]} أُرِيدَ بِه المصدَرُ فَوَاضِحٌ ، ويَكُونُ مُضَافاً إلى مفعُولِه ، أيْ : بُغضكم لِقَوْم ، فحذف الفاعل ، ويجوزُ أنْ يكونَ مُضَافاً إلى فاعلِهِ ، أيْ بُغْضُ قَوْمٍ إيَّاكُمْ ، فحذف مَفْعُولَهُ .
والأوَّلُ أظْهَرُ في المعنى ، وحُكْمُ شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونَ مَصْدَراً وَصِفَةُ حُكْم إسْكَانِهَا ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، ومِنْ مَجِيءِ شَنْآن السَّاكِنِ الْعَيْنِ مَصْدَراً قَوْلُ الأحوصِ : [ الطويل ]
وَمَا الْحُبُّ إلاَّ مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي{[10686]} *** وإنْ لاَمَ فيه الشَّنَانِ وَفَنَّدَا{[10687]}
أرَادَ الشَّنْآنَ بِسُكُونِ النُّونِ فنقل حركة الهمزة إلى النُّونِ السَّاكنة ، وحذف الهمزة [ ولَوْلاَ سُكُونُ النُّونِ لما جَازَ النَّقْلُ ولو قال قَائِلٌ : إنَّ الأصْلَ الشَّنَآنُ بفتح النون ]{[10688]} وخَفَضَ الهَمْزَةَ بحَذْفِهَا رَأساً ، كما قُرِئ{[10689]} { إِنَّهَا لاَحْدَى الكُبَرِ } [ المدثر : 35 ] بحذفِ همزة " إحْدَى " لكانَ قَوْلاً يَسْقُطُ به الدليلُ لاحتماله ، و " الشَّنآن " بالفتح عَمَّا شذَّ عن القاعدةِ الكُلِّيَّةِ .
قال سِيبَوَيْه : كُلُّ بِنَاءٍ مِنَ المصادِرِ على وَزْنِ " فَعَلاَن " بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَم يتعدَّ فِعْلُهُ إلاَّ أنْ يَشذَّ شيءٌ كالشَّنَآنِ ، يَعْنِي أنَّه مصدرٌ على " فَعَلاَن " بالفتح ، ومع ذلك فعْلُهُ مُتَعِدّ ، وفعلهُ أكثرُ الأفعالِ مَصَادِر سُمِعَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدراً ، قالُوا : شَنِئَ{[10690]} يَشْنَأُ [ شَنْئاً ]{[10691]} وشَنآناً مُثَلَّثي الشِّين ، فهي سِتُّ لُغَاتٍ .
وَقَرَأ ابْنُ وثَّابٍ ، والحسنُ ، والوليدُ عَنْ يَعْقُوبَ{[10692]} " يَجْرِمَنْكُمْ " بِسُكُونِ النُّون جعلوها نون التوكيد الخَفِيفةِ ، والنَّهيُ في اللَّفْظِ للشَّنْآنِ ، وهو في المعنى للمُخَاطبينَ نحو : " لا أريَنَّكَ هاهُنَا " و { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] قالَهُ مَكِّيٌّ .
قال القَفَّالُ{[10693]} : هذا معطوفٌ على قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } إلى قوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يعني : لا يَحْمِلَنكمْ عَدَاؤُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عن المسْجِد الحَرَامِ أنْ [ تَعْتَدوا فَتَمْنَعُوهُمْ ]{[10694]} عَنِ المسْجِد الحرامِ ، فإنَّ البَاطِل لا يَجُوز أنْ يعتدَى{[10695]} به .
قال محمدُ بنُ جَرِير{[10696]} : هذه السورةَ نزلتْ بعد قِصَّةِ " الحُدَيْبِيَةِ " ، فكان الصَّدُّ قد تقدّمَ ، وليس للناس أنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً على العُدْوانِ ، حتى إذا تَعَدَّى واحدٌ منهم على الآخر [ تَعَدَّى ذلك الآخرُ ]{[10697]} عليه ، لكنَّ الواجبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهُم بَعْضاً على ما فيه البِرُّ والتَّقْوَى .
قوله سبحانه وتعالى : { أَن صَدُّوكُمْ } .
قرأ أبُو عَمرو ، وابْنُ كَثِيرٍ{[10698]} ، بِكَسْرِ " إنْ " ، والباقُون بِفَتْحِهَا ، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ ، والْفَتْحُ على أنها عِلَّةٌ للشنآنِ ، أيْ لا يَكسبَنَّكُمْ{[10699]} أوْ لا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ لأجْلِ صَدِّهِمْ إيَّاكُم عن المسْجِد الحرامِ ، وَهِيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ ، وقد اسْتَشْكَلَ [ الناسُ ]{[10700]} قراءةَ الأخَويْن مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ المشروطَ لَمْ يَقَعْ والغَرضُ أن صَدَّهُمْ عنِ البيت الحَرَامِ كان قَدْ وَقَعَ ، ونزولُ هذه الآيةِ مُتَأخرٌ عنه بمدّةٍ ، فإنَّ الصَّدَّ وقع عَامَ " الحُدَيْبِيَة " وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ ، والآيةُ نزلَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ .
وأيضاً ، فإنَّ " مَكَّةَ " كانت عامَ الفتحِ في أيْدِيهم ، فكيف يُصَدُّونَ عَنْها .
قال ابنُ جُرَيْج والنَّحاسُ وغيرُهما : هذه القراءةُ{[10701]} مُنْكَرَةٌ ، واحْتَجُّوا بما تقدَّمَ مِنَ الإشْكَالِ .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : ولا إشْكَالَ في ذَلِكَ ، والجوابُ عَمَّا قَالُوه مِنْ وَجْهَيْنِ :
أحدهما : ألاَّ نُسَلم أن الصَّدَّ كان قبلَ نُزولِ الآية ؛ فإنَّ نُزُولَهَا عامَ الفتح ليس مُجْمَعاً عليه .
وذكر اليزيدِيُّ أنَّها نزلتْ قبل الصَّدِّ ، فصاد الصدُّ أمراً مُنْتَظَراً .
والثاني : أنَّهُ وَإنْ سَلَّمْنَا أنَّ الصَّدَّ [ كان مُتقَدَّماً على نُزُولِها ، فيكون المَعْنَى : إنْ وقع صَدٌّ مِثْلُ ذلك الصدِّ ]{[10702]} الذي وقع زمن " الحديبية " " فَلاَ يَجْرِمَنكُم " .
قال مَكِّي : ومثلُه عند سيبويْهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ : [ الطويل ]
أتَغْضَبُ إنْ أذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا *** . . . {[10703]}
[ وذلك شَيْء قد كان وقع ، وإنما معناهُ : ]{[10704]} إنْ وقع مِثْلُ ذلِكَ الغَضَبِ{[10705]} ، وجوابُ الشَّرْطِ ما قَبْلَهُ ، يَعْنِي : وجوابُ الشرطِ ما دَلَّ عليه ما قَبْلَهُ ؛ لأنَّ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ تَقْدِيمَ الْجَواب إلاَّ أبَا زَيْدٍ .
وقال مَكِّي - أيضاً - : ونظيرُ ذلك أنْ يقولَ الرجلُ لامْرأتِهِ : أنْتِ طَالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ، بِكَسْر " إنْ " لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِهَا الأوَّلِ ؛ لأنَّه أمْرٌ يُنْتَظَرُ ، وَلَوْ فَتَحَ لَطُلِّقَتْ عَلَيْه ؛ لأنَّه أمرٌ كَانَ وَوقَعَ ، فَفَتْحُ " أنْ " لما هو عِلّةٌ لما كان ووقع ، وكسرُهَا إنَّما هو لأمرٍ مُنتظر ، والوَجْهَانِ حَسَنانِ على معنييهما وهذا الذي قاله مَكِّي فَصَّل فيه الفقهاءُ بين مَنْ يعرفُ النحوَ ، وبين مَنْ لا يعرِفُهُ ، وَيُؤيِّدُ{[10706]} هذه القراءةَ قراءةُ{[10707]} عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : " إنْ يَصُدُّوكُمْ " .
قال أبُو عُبَيْدَة : حدثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ ، قَالَ : قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فذكرها قال : وهذا لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الصَّدِّ ، يعني إنْ وقع صَدٍّ آخر ، مِثْلُ ما تَقَدَّمَ في عام " الحُدَيْبِيَة " .
ونَظْمُ هذه الآياتِ على ما هِيَ عَلَيْهِ مِنْ أبْلَغِ مَا يَكُونُ وأفْصَحه ، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخيرٌ كما زعم بعضُهم ، فقال : أصلُ تركيب الآية الأولى { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] فإذا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا .
وأصلُ تركيب الثَّانِيَة : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } .
ونَظَّرَه{[10708]} بآيةِ البقرةِ يَعْنِي : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ، وهذا لا حاجة إليه مع أنَّ التقديمَ والتَّأخيرَ عند الجمهورِ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ ، فَيَجِبُ تَنْزيهُ{[10709]} القرآنِ عَنْه ، ولَيْست الجملةُ - أيضاً - مِنْ قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } مُعْتَرِضَةً بَيْن قوله : { وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الحرامَ } وبَيْنَ قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ، بَلْ هي مؤسِّسةٌ ومُنْشِئَةٌ حُكْماً ، وهو حِلُّ الاصْطيادِ عند التَّحَلُّلِ مِنَ الإحْرَامِ ، والجملة المُعْتَرِضَةٌ إنَّما تُفِيد تَوْكيداً وتَسْديداً ، وهذه مفيدةٌ حُكْماً جَدِيداً كما تقدم .
وقوله : " أنْ تَعْتَدُوا " قَدْ تقدم أنَّه مِنْ مُتعلقاتِ { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } على أنَّه مَفْعُولٌ ثانٍ ، أوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجر ، فمَنْ كَسَرَ { إنْ صَدُّوكُمْ } يكُون الشرطُ وجوابُه المقدَّرُ في مَحَلِّ جرٍّ صِفَةً ل " قَوْم " ، أيْ : شَنَآنُ قَوْمٍ هذه صِفَتُهُم ومَنْ فتحها فمحلُّها{[10710]} الجَرُّ والنَّصْبُ ، لأنَّها على حَذْفِ لامِ الْعِلَّةِ كما تقدم .
قال الزَّمخْشَرِيُّ : والمعنى : ولا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغضُ قَوْمٍ ؛ لأنَّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه .
قال أبو حيّان : وهذا تفسيرُ مَعْنًى لا تفسير إعْراب ؛ لأنّه يمتنعُ أنْ يكون مدلولُ " جرم " حمل وكسب في استعمالٍ واحدٍ لاختلاف مُقتضاهما ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يكُون [ أنْ تَعْتَدوُا ]{[10711]} في مَحَلِّ مفعول به ، ومحلُّ مفعولٍ على إسْقاطِ حَرْف الجر .
قال شهابُ الدِّين : هذا الذي قاله لا يتصَوَّرُ أنْ يتوهمه من له أدْنَى بَصَرٍ بالصِّنَاعةِ حتى ينبِّهَ عليه .
وقد تقدم قراءةُ{[10712]} البَزِّي في نحو : " ولا تَعاوَنُوا " وأنَّ الأصَل : [ " تتعاونوا " فأدغم ]{[10713]} وحذف الباقون إحْدَى التاءيَنْ عند قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } [ البقرة : 267 ] .
قوله عز وجل : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } أيْ : ليعن بعضُكم بَعْضاً على البر والتقوى .
قِيلَ : البِرُّ : متابعةُ الأمْرِ ، والتَّقْوَى مُجانَبَةُ النَّهْيِ .
وقيل : البرُّ : الإسلامُ ، والتقوى : السُّنةُ .
{ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .
قيل الإثُم : الكفرُ{[10714]} ، والعُدْوانُ : الظلمُ{[10715]} . وقيل : الإثمُ : المعصيةُ والعُدوان : البِدْعَةُ .
وقال النَّواسُ بْنُ سَمْعان الأنْصَارِيّ : " سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثْمِ ، فقال : " البرُّ حُسْنُ الخلقِ ، والإثمُ ما حَاكَ{[10716]} في [ صَدْرِك ]{[10717]} ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه الناسُ " {[10718]} ، ثم قال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، والمرادُ منه التهديدُ والوعِيدُ .