الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } " الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري ، وقال :إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إلى ما تدعو الناس ؟ فقال : " إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " . فقال : حسنٌ إلاّ إن لي مَنْ لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أُسلم وآتي بهم .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم بعض من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان ، ثم خرج شريح من عنده ، فلما خرج ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعقب غادر ، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز :

لقد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر الوضم * باتوا نياماً وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم * خلج الساقين مسموح القدم

فلما كان في العام القابل خرج حاجّاً في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدي فقال ناس من أصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطم خرج حاجّاً فحل بيننا وبينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " مه قد قلد الهدي " .

فقال لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّما هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية . فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه عزّ وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } " .

ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجّون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه تعالى عنها ، [ وقال الحسن دين الله كلّه ] يدل عليه قوله

{ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 32 ] .

عطية عن ابن عباس : هي أن تصيد وأنت محرم ، يدل عليه قوله { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } .

عطاء : شعائر حرمات اللّه اجتناب سخطه واتباع طاعته بالذّي حرم اللّه .

أبو عبيدة : هي الهدايا المشعرة وهي أن تطعن في سنامها ويحلل ويقلّد ليعلم أنها هدي ، والإشعار العلامة ، ومنه [ الحديث ] : حين ذبح عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أشعر أمير المؤمنين بها كأنه أعلم بعلامة ، وهي على هذا القول فعيلة ، بمعنى مفعّلة .

قال الكميت :

نقتلهم جيلا فجيلاً تراهم *** شعائر قربان بهم يتقرب

ودليل هذا التأويل قوله :

{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } [ الحج : 36 ] وقيل : الشعائر المشاعر .

وقال القتيبي : شعائر اللّه واحدتها شعيرة ، وهي كل شيء جعل علماً من أعلام طاعته .

{ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } بالقتال فيه فإنه محرم لقوله

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } [ البقرة : 217 ] .

وقال : النسّيء ، وذلك أنهم كانوا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً ، دليله قوله

{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [ التوبة : 37 ] { وَلاَ الْهَدْيَ } وهو كل ما يهدى إلى بيت اللّه من بعير أو بقرة أو شاة .

{ وَلاَ الْقَلائِدَ } قال أكثر المفسّرين هي الهدايا ، والمراد به [ المقلدات ] وكانوا إذا أخرجوا إلى الحرم في الجاهلية قلّدوا السمر فلا يتعرض لهم أحد وإذا رجعوا تقلّدوا قلادة شعر فلم يتعرّض لهم أحد فهي عن استحلال واجب منهم .

وقال مطرف بن الشخيّر وعطاء : هي القلائد نفسها وذلك أنّ المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكّة ونحوها فيقلّدونها فيأمنون بها في الناس فنهى اللّه عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية { وَلا آمِّينَ } قاصدين { الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يعني الكعبة .

وقرأ الأعمش : ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة كقوله تعالى { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } .

{ يَبْتَغُونَ } يطلبون { فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ } يعني الرزق بالتجارة { وَرِضْوَاناً } معناه على زعمهم وعدهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان ، وهذا كقوله

{ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ } [ طه : 97 ] فلا يرضى اللّه تعالى عنهم حتى يسلموا .

قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها .

وقيل : إبتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامّة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن الناس كانوا يحجون من بين مسلم وكافر ، يدل عليه قراءة حميد بن قيس { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ } على الخطاب للمؤمنين ، وهذه الآية منسوخة بقوله

{ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وقوله

{ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] .

فلا يجوز أن يحجّ مشرك ، ولا يأمن الكافر بالهدي والقلائد والحج .

{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ } من إحرامكم { فَاصْطَادُواْ } أمر إباحة وتخيير كقوله

{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } .

روح ابن عبادة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : " أقبل رجل مؤمن كان حليفاً لأبي سفيان بن الهذيل يوم الفتح بعرفة لأنه كان يقتل حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " لعن اللّه من قبل دخل الجاهلية [ ما شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو ] تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما " .

وقال الآخرون : نزلت في حجاج كفار العرب ، وقوله { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } ، قرأ الأعمش وعيسى ويحيى بن أبي كثير : يجرمنكم بضم الياء وقرأ الباقون بالفتح ، وهما لغتان ولو أن الفتح أجود وأشهر وهو اختيار أبي محمد وأبي حاتم ، قال أبو عبيد : لأنها اللغة الفاشية وإن كانت الأُخرى مقبولة .

واختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم . قال أبو عبيد : يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني .

قال الشاعر ، وهو أبو أسماء بن الضرية :

يا كرز إنك قد فتكت بفارس *** بطل إذا هاب الكماة مجرّب

ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

والمؤرج : لا يدعونكم . الفرّاء : لأكسبنكم ، يقال فلان جُرمه أهله أي كافيهم .

وقال الهذلي يصف عقاباً :

جرمة ناهض في رأس نيق *** ترى لعظام ما جمعت صليبا

وقال بعضهم وهو الأخفش : قوله

{ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ } [ النحل : 62 ] : أي حق لهم النار .

{ شَنَآنُ قَوْمٍ } أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت .

قرأ أهل المدينة والشام ، وعاصم والأعمش : بجزم النون الأول ، وقرأ الآخرون بالفتح ، وهما لغتان إلاّ أن الفتح أجود لأنه أفخم اللغتين . فهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن المصادر نحوه على فعلان بفتح العين مثل الضربان والنزوان والعسلان ونحوها .

{ أَن صَدُّوكُمْ } قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمر : إن صدّوكم بكسر الألف على الاستيناف والجزاء واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبد اللّه : أن يصدّوكم ، وقرأ الباقون بفتح الألف أي لأن صدّوكم ، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء لأنهم صدّوكم ، واختاره أبو حاتم ومحمد بن جرير ، قال ابن جرير : لأنه لا يدافع بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية فإذا كان كذلك فالصدّ قد يقدم .

{ أَن تَعْتَدُواْ } عليهم فتقتلوهم وتأخذوا أموالهم .

{ وَتَعَاوَنُواْ } أي ليعين بعضكم بعضاً ، ويقال للمرأة إذا كسى لحمها وتراجمها : متعاونة { عَلَى الْبرِّ } وهو متابعة الأمر { وَالتَّقْوَى } وهو مجانبة الهوى { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } يعني المعصية والظلم .

" عن واصب بن معبد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال :جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم قال : " جئت إليّ تسألني عن البر والإثم " ؟ فقلت : والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره ، فقال : " البر ما انشرح به صدرك ، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس " .

عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي ، قال : حدّثني أبي قال : سمعت النؤاس بن سمعان الأنصاري ، قال : سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال : " البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك فكرهت أن يطلع عليه الناس " { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .