مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَـٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (2)

قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } .

اعلم أنه تعالى : لما حرم الصيد على المحرم في الآية الأولى أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى فقال : { يريد يأيها الذين ءامنوا لا تحلوا شعائر الله } .

واعلم أن الشعائر جمع ، والأكثرون على أنها جمع شعيرة . وقال ابن فارس : واحدها شعارة ، والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة ، والمشعرة المعلمة ، والأشعار الأعلام ، وكل شيء أشعر فقد أعلم ، وكل شيء جعل علما على شيء أن علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة ، فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنها معلمة بعلامات دالة على كونها هديا . واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله ، وفيه قولان : الأول : قوله { لا تحلوا شعائر الله } أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم ، وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين ، ويقرب منه قول الحسن : شعائر الله دين الله . والثاني : أن المراد منه شيء خاص من التكاليف ، وعلى هذا القول فذكروا وجوها : الأول : المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد . والثاني : قال ابن عباس : إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فأنزل الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } الثالث : قال الفراء : كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما ، فأنزل الله تعالى : لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتمام . الرابع : قال بعضهم : الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى ، وهو قول أبي عبيدة قال : ويدل عليه قوله تعالى : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثم عطف عليها الهدى ، والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه .

ثم قال تعالى : { ولا الشهر الحرام } أي لا تحلو الشهر الحرام بالقتال فيه .

واعلم أن الشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه ، قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم } فقيل : هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، فقوله { ولا الشهر الحرام } يجوز أن يكون إشارة إلى جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس ، ويجوز أن يكون المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هده الصفة .

ثم قال تعالى : { ولا الهدى } قال الواحدي : الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة ، واحدها هدية بتسكين الدال ، ويقال أيضا هدية ، وجمعها هدى . قال الشاعر :

حلفت برب مكة والمصلى *** وأعناق الهدى مقلدات

ونظير هذه الآية قوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } وقوله { والهدى معكوفا أن يبلغ محله } .

ثم قال تعالى : { ولا القلائد } والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي مشهورة . وفي التفسير وجوه : الأول : المراد منه الهدى ذوات القلائد ، وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله { وجبريل وميكال } كأنه قيل : والقلائد منها خصوصا الثاني : أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى : ولا تحلوا قلائدها فضلا عن أن تحلوها ، كما قال { ولا يبدين زينتهن } فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها . الثالث : قال بعضهم : كانت العرب في الجاهلية مواظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم ، فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه ، إلا أن يكون مشعرا بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم ، أو محرما بعمرة إلى البيت ، فحينئذ لا يتعرض له ، فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى .

ثم قال : { ولا آمين البيت الحرام } أي قوما قاصدين المسجد الحرام ، وقرأ عبد الله : ولا آمي البيت الحرام على الإضافة .

ثم قال تعالى : { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حميد بن قيس الأعرج { تبتغون } بالتاء على خطاب المؤمنين .

المسألة الثانية : في تفسير الفضل والرضوان وجهان : الأول : يبتغون فضلا من ربهم بالتجارة المباحة لهم في حجهم ، كقوله { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } قالوا : نزلت في تجاراتهم أيام الموسم ، والمعنى : لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم ، فابتغاء الفضل للدنيا ، وابتغاء الرضوان للآخرة . قال أهل العلم : إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك ، فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة .

والوجه الثاني : أن المراد بفضل الله الثواب ، وبالرضوان أن يرضى عنهم ، وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما ، فيجوز أن يوصف بذلك بناء على ظنه ، قال تعالى : { وانظر إلى إلهك } وقال { ذق إنك أنت العزيز الكريم } .

المسألة الثالثة : اختلف الناس فقال بعضهم : هذه الآية منسوخة ، لأن قوله { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام } يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام ، وذلك منسوخ بقوله { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } قوله { ولا آمين البيت الحرام } يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة . وقال الشعبي : لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية . وقال قوم آخرون من المفسرين : هذه الآية غير منسوخة ، وهؤلاء لهم طريقان : الأول : أن الله تعالى أمرنا في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين ، وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين ، والدليل عليه أول الآية وآخرها ، أما أول الآية فهو قوله { لا تحلوا شعائر الله } وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار ، وأما آخر الآية فهو قوله { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا } وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر . الثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } .

ثم قال تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } وفي مسائل :

المسألة الأولى : قرئ : وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل ، وقرئ بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء .

المسألة الثانية : هذه الآية متعلقة بقوله { غير محلى الصيد وأنتم حرم } يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام ، فإذا زال الإحرام وجب أن يزول المنع .

المسألة الثالثة : ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد هاهنا إلا الإباحة . وكذا في قوله { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } ونظيره قول القائل : لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها ، فإذا أديت فادخلها ، أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها ، وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر هاهنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل والله أعلم .

ثم قال تعالى : { ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال القفال رحمه الله : هذا معطوف على قوله { لا تحلوا شعائر الله } إلى قوله { ولا آمين البيت الحرام } يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام ، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به . وليس للناس أن يعين بعضهم بعضا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه ، لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضا على ما فيه البر والتقوى ، فهذا هو المقصود في الآية .

المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف { جرم } يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد ، وتارة إلى إثنين ، تقول : جرم ذنبا نحو كسبه ، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه ، ويقال : أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين ، كقولهم : أكسبته ذنبا ، وعليه قراءة عبد الله { ولا يجرمنكم } بضم الياء ، وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين . والثاني : أن تعتدوا ، والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه .

المسألة الثالثة : الشنآن البغض ، يقال : شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ وشنأة ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها ، ويقال : رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان ، ويقال شنآن بغير صرف ، وفعلان قد جاء وصفا وقد جاء مصدرا .

المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى ، والباقون بالفتح . قالوا : والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان ، وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفا . قال الواحدي : ومما جاء مصدرا قولهم : لويته حقه ليانا ، وشنان في قول أبي عبيدة . وأنشد للأحوص .

وإن عاب فيه ذو الشنان وفندا *** . . .

فقوله : ذو الشنان على التخفيف كقولهم : إني ظمان ، وفلان ظمان ، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها .

المسألة الخامسة : قرأ ابن كثير وأبو عمرو { إن صدوكم } بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف ، يعني لأن صدوكم . قال محمد بن جرير الطبري : وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة ، وهذه السورة نزلت بعد الحديبية ، وكان هذا الصد متقدما لا محالة على نزول هذه الآية .

ثم قال تعالى : { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } والمراد منه التهديد والوعيد ، يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئا من محارمه إن الله شديد العقاب ، لا يطيق أحد عقابه .