قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } سبب نزول هذه الآية أن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت فقال : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له . . . ) ، ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ) قالت اليهود : ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة . وقيل : قال المشركون : إنا لا نعبد إلهاً يذكر مثل هذه الأشياء فأنزل الله تعالى ( إن الله لا يستحيي ) أي لا يترك ولا يمنعه الحياء أن يضرب مثلاً يذكر شبهاً ما بعوضة ، " ما " : صلة ، أي مثلاً بالبعوضة ، " وبعوضة " نصب بدل عن المثل . والبعوض صغار البق سميت بعوضة لأنها كانت بعض البق ، ( فما فوقها ) يعنى الذباب والعنكبوت . وقال أبو عبيدة : أي فما دونها كما يقال وفوق ذلك ، أي وأجهل .
قوله تعالى : { فأما الذين آمنوا } . بمحمد والقرآن .
قوله تعالى : { فيعلمون أنه } . يعني : المثل هو .
قوله تعالى : { الحق } . الصدق .
قوله تعالى : { من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً } . حذف الألف واللام نصبه على الحال والقطع . ثم أجابهم فقال : قوله تعالى : { يضل به كثيرا } . من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالاً . قوله تعالى : { ويهدي به } . أي بهذا المثل .
قوله تعالى : { كثيراً } . من المؤمنين فيصدقونه ، والإضلال : هو الصرف عن الحق إلى الباطل . وقيل : هو الهلاك ، يقال ضل الماء في اللبن إذا هلك .
قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين } . الكافرين وأصل الفسق الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها قال الله تعالى : ( ففسق عن أمر ربه ) أي خرج ثم وصفهم فقال : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون } .
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } أي : أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة ، وإيضاح الحق ، والله لا يستحيي من الحق ، وكأن في هذا ، جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة ، واعترض على الله في ذلك . فليس في ذلك محل اعتراض . بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم . فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر . ولهذا قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها ، ويتفكرون فيها .
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم ، وإلا علموا أنها حق ، وما اشتملت عليه حق ، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا ، بل لحكمة بالغة ، ونعمة سابغة .
{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } فيعترضون ويتحيرون ، فيزدادون كفرا إلى كفرهم ، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ولهذا قال : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية . قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية ، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [ وضلالة ] وزيادة شر إلى شرهم ، ولقوم منحة [ ورحمة ] وزيادة خير إلى خيرهم ، فسبحان من فاوت بين عباده ، وانفرد بالهداية والإضلال .
ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى{[78]} فقال : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعة الله ، المعاندين لرسل الله ، الذين صار الفسق وصفهم ، فلا يبغون به بدلا ، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى ، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة .
والفسق نوعان : نوع مخرج من الدين ، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان ، كالمذكور في هذه الآية ونحوها ، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [ الآية ] .
بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن :
( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما فوقها ، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ، وأما الذين كفروا فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلا الفاسقين . الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . . أولئك هم الخاسرون ) . .
وهذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد نارا ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق - وربما كان اليهود كذلك والمشركون - قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة ، ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة ، كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم ( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) . . وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب ) . .
نقول : إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين - وربما كان اليهود والمشركون - قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن ، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله ، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه ! . . وكان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة ، كما كان يقوم بها المشركون في مكة .
فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس ، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال ، وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها ، وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا .
( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما فوقها ) . .
فالله رب الصغير والكبير ، وخالق البعوضة والفيل ، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل . إنها معجزة الحياة . معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله . . على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل ، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير . وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله - جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب ، وامتحان النفوس :
( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) . .
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ؛ وبما يعرفون من حكمته . وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم ، وحساسية في أرواحهم ، وتفتحا في مداركهم ، واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله .
( وأما الذين كفروا فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ ) . .
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته ، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره . ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارا ، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب . يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار ، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله !
هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير :
( يضل به كثيرا ، ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلا الفاسقين ) . .
والله - سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها ، ويتلقاها عباده ، كل وفق طبيعته واستعداده ، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه . والابتلاء واحد . . ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق . . الشدة تسلط على شتى النفوس ، فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية . وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا ، وتخرجه من الصف إخراجا . والرخاء يسلط على شتى النفوس ، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا . وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء . . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس . . ( يضل به كثيرا ) . . ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله ، ( ويهدي به كثيرا )ممن يدركون حكمة الله . ( وما يضل به إلا الفاسقين ) . . الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق ، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه !