التفسير : لما بين كون القرآن معجزاً أورد شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك وأجاب عنها . عن ابن عباس : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله
{ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وقوله { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية . وعن الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله فنزلت . والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وأحناش الأرض ؟ وهذه أمثال العرب بين أيديهم مسيرة في حواضرهم وبواديهم قد تمثلوا فيها بأحقر الأشياء فقالوا : " أجرأ من الذباب " و " أضعف من بعوضة " و " كلفتني مخ البعوض " . ولقد ضربت الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقرة كالزوان حب يخالط البر ، وكحبة خردل ، والمنخل والحصاة والأرضة والدود والزنابير . قال : مثل ملكوت السماء كمثل رجل زرع في قريته حنطة جيدة نقية ، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع الزوان بين الحنطة ، فلما نبت الزرع واشتد غلب عليه الزوان . فقال عبيد الزارع : يا سيدنا أليس حنطة جيدة نقية زرعت في قريتك ؟ فقال : بلى قالوا : فمن أين هذا الزوان ؟ قال : لعلكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه حنطة ، دعوهما يتربيان جميعاً حتى الحصاد . فأمر الحصادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة وأن يربطوه حزماً ثم يحرق بالنار ويجمعوا الحنطة إلى الجرين ، وأفسر لكم ، ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة وهو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هي أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله ، والعدو الذي زرع الزوان هو إبليس ، والزوان المعاصي التي يزرعها إبليس وأصحابه ، والحصادون هم الملائكة يتركون الناس حتى تدنو آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشر إلى الهاوية ، وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار فكذلك رسل الله وملائكته يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمال الإثم فيلقونهم في أتون الهاوية فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربهم ، من كانت له أذن تسمع فليسمع . وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء ، رجل آخر أخذ حبة الخردل وهي أصغر الحبوب فزرعها في قرية ، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير السماء فعشش في فروعها ، فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف الله تعالى أجره وعظمه ورفع ذكره ونجا به من اهتدى . وقال : لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الطيب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم ، وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الرياح . وقال : لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسد ، ولا في البرية حيث السموم واللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ، ولكن ادخروا ذخائركم عند الله . وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك رزقها وهن لا يغزلن ولا يشخصن ، ومنهن ما هو في جوف الحجر الأصم وفي جوف العود ، من يأتيهن بلباسهن وأرزاقهن إلا الله أفلا تعقلون ؟ ! وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم . هذا ونحن نرى أن الإنسان يذكر معنى فلا يلوح كما ينبغي ، فإذا ذكر المثال اتضح وانكشف . وذلك أن من طبع الخيال حب المحاكاة ، فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، وإذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شك أن الثاني يكون أكمل ، وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبياناً لكل شيء . ثم إن الله تعالى هو الذي خلق الكبير والصغير ، وحكمته في كل ما خلق وبرأ عامة بالغة ، وليس الصغير أخف عليه من الكبير ، ولا الكبير أصعب عليه من الصغير . فالمعتبر إذن ما يليق بالقصة ، فإذا كان اللائق بها الذباب والعنكبوت لخسة مضرب المثل ووهنه ، فكيف يضرب بالفيل وبشيء مستحكم النسج والصفاقة ؟ وهذا مما لا يخفى على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت دفع الواضح وإنكار المستقيم ،
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم
والحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ، ويذم واشتقاقه من الحياة ، يقال : حيي الرجل كما يقال نسي وحشي إذا اشتكى النسا والحشا ، وكأن الحيي صار منتقص القوة منتكس الحياة وقد عرفت في الأسماء الحسنى ، أن أمثال هذه الصفات إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ . فحديث سلمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً " إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه . ومعنى قوله { إن الله لا يستحيي } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها . ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق ، وهو فن بديع قال أبو تمام :
من مبلغ أفناء يعرب كلها *** أني بنيت الجار قبل المنزل
فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار ، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه *** كرعن بسبت في إناء من الورد
فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه ، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد . وفيه لغتان : استحييت منه واستحييته وهما محتملتان ههنا . وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم ، وفي الحديث : ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب . و { ما } هذه إبهامية ، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعاً وعموماً كقولك " أعطني كتاباً ما " تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله { فيما نقضهم }
[ النساء : 155 ] أي مثلاً حقاً أو ألبتة . وانتصب { بعوضة } بأنها عطف بيان و{ مثلاً } وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلاً كما يقال : حاتم مثل في الجود . أو مفعول ل { يضرب } و{ مثلاً } حال عن النكرة مقدمة عليها ، أو انتصبا مفعولين فجرى " ضرب " مجرى " جعل " . والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت ، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب . ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره ، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الآخر ، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق آدم على صورته " أي على صفته فأعطاه على ضعفه من كل صفة من صفات جماله وجلاله أنموذجاً ليشاهد في مرآة نفسه جمال صفات ربه . ومن العجائب أن خرطومه في غاية الصغر ، ومع ذلك مجوف . ومع فرط صغره وكونه مجوفاً يغوص في جلد الجاموس والفيل على ثخانته كما يضرب الرجل أصبعه في الخبيص ، وذلك لما ركب الله تعالى في رأس خرطومه من السم .
وقوله { فما فوقها } أي فالذي هو أعظم منها في الجثة كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء ، أو أراد فما فوقها في الصغر كجناح البعوضة حيث ضربه صلى الله عليه وسلم مثلاً للدنيا ، وهذا أولى لأن الآية نزلت في بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير ، فيجب أن يكون المذكور ثانياً أحقر من الأول . والفاء ههنا تفيد الترتيب في الذكر لأنه يذكر في هذا المقام الأخس فالأخس كقوله :
" يا دار مية بالعلياء فالسند " *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنه يذكر في تعريف الأمكنة الأخص بعد الأعم ، فكأن العلياء موضع وسيع يشتمل على مواضيع منها السند . { وأما } حرف فيه معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، وفائدته التوكيد . تقول : زيد ذاهب . فإذا قصدت التوكيد وأن الذهاب منه عزيمة قلت : أما زيد فذاهب ولذلك قال سيبويه في تفسيره . " مهما يكن من شيء فزيد ذاهب " وليس مراده من هذا التفسير أن " أما " بمعنى " مهما " " كيف " -وهذه حرف ومهما اسم- بل قصده إلى المعنى البحث أي إن يكن في الدنيا شيء يوجد ذهاب زيد فهذا ، جزم بوقوع ذهابه لأنك جعلت حصول ذهابه لازماً لحصول أي شيء في الدنيا ، وما دامت الدنيا باقية فلابد من حصول شيء فيها . ففي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين ورميهم بالكلمة الحمقاء . والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وحق الأمر ثبت ووجب . والضمير في { أنه الحق } للمثل ، أو ل { أن يضرب } و{ ماذا } فيه وجهان : أن يكون " ذا " اسماً موصولاً بمعنى الذي ، فيكون كلمتين : " ما " مبتدأ وخبره " ذا " مع صلته ، وأن تكون " ذا " مركبة مع " ما " مجعولتين اسماً واحداً ، فيكون منصوب المحل في حكم " ما " وحده لو قلت : ما أراد الله ، وجوابه على الأول مرفوع وعلى الثاني منصوب . وقد يجيء على العكس كما تقول في جواب من قال : ما رأيت خير " أي المرئي خير " . وفي جواب : ما الذي رأيت خيراً " أي رأيت خيراً " . والإرادة نقيض الكراهة ، قال الإمام الرازي : الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذته . والمتكلمون أنها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر ، لا في الوقوع بل في الإيقاع . واحترز بهذا القيد الأخير عن القدرة . واختلفوا في كونه تعالى مريداً مع اتفاق المسلمين على إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى . فزعم النجار أنه معنى سلبي ومعناه أنه غير ساهٍ ولا مكره . ومنهم من قال : إنه أمر ثبوتي . ثم اختلفوا فالجاحظ والكعبي وأبو الحسين البصري : معناه علمه تعالى باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمون هذا العلم بالداعي أو الصارف . والأشاعرة وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم : أنه صفة زائدة على العلم . ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية وهو القول الآخر للنجار ، وإما أن تكون معنوية ، وذلك المعنى إما أن يكون قديماً وهو قول الأشعري ، أو محدثاً وذلك المحدث إما أن يكون قائماً بالله تعالى وهو قول الكرّامية ، أو قائماً بجسمٍ آخر ولم يقل به أحد ، أو موجوداً لا في محل وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما . وفي قوله { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } استرذال واستحقار كما قالت عائشة في عبد الله بن عمرو بن العاص حين أفتى بنقض ذوائب النساء في الاغتسال " يا عجباً لابن عمرو هذا " محقرة له . و{ مثلاً } نصب على التمييز كقولك لمن أجاب بجواب غث " ماذا أردت بهذا جواباً " ولمن حمل سلاحاً رديئاً " كيف تنتفع بهذا سلاحاً " أو على الحال نحو { هذه ناقة الله لكم آية } [ هود : 64 ] وقوله { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين ب { أما } وأهل الهدى كثير في أنفسهم وحيث يوصفون بالقلة { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { وقليل ما هم } [ ص : 64 ] إنما يوصفون به بالقياس إلى أهل الضلال . وأيضاً فإن المهديين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة .
إن الكرام كثير في البلاد وإن *** قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب البعيد ، لأنه لما ضرب المثل ازداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم فتسبب لهديهم ، وازدادت الكفرة رجساً إلى رجسهم فتسبب لضلالهم عن الحق . والفسق الخروج عن القصد قال رؤبة :
فواسقاً عن قصدها جوائر *** يذهبن في نجد وغوراً غائراً
والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة ، وهو عند أهل السنة من أهل الإيمان إلا أنه عاصٍ ، وعند الخوارج كافر ، وعند المعتزلة نازل بين المنزلتين ، لأن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ، وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة . ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزئ خلفه . ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة ، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] يعني اللمز والتنابز { إن المنافقين هم الفاسقون }