فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

{ لا يستحيي } لا يترك ولا يمتنع ولا يخشى . { يضرب } يبين .

{ بعوضة } الحشرة الصغيرة ذات الجناحين المعروفة .

{ فما فوقها } فما دونها ، إذ هي فوقها في الصغر وأقل منها .

{ الحق } الأمر الثابت الصادق وضده الباطل .

{ مثلا } كلاما حكيما يشبه مضربه بمورده .

{ يظل } يترك في الضلال والضياع والحيرة والذهاب عن القصد .

{ يهدي } يرشد ، ويشرح الصدر ، ويمكن للإيمان في القلب .

{ الفاسقين } الخارجين عن حدود ربهم ، الفجار والكفار .

إن المولى الحكيم جل علاه لا يخشى أن يضرب أي مثل{[177]} كان بأي شيء كان ، صغيرا كان أو كبيرا و{ ما } للتقليل ؛ - فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ، فكما لم يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : { . . إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب }{[178]} ويقال : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون }{[179]}-{[180]}{ فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } فأهل اليقين والتصديق كلما ضرب الله تعالى مثلا علموا أنه صدق وعدل وحكمة لأنه كلام ربنا الذي له الجلال كله وهوالحكيم العليم . { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا } ولكن المكذبين بوحي ربنا يسخرون من الآيات ويسألون سؤال المستهزئ وينكرون أن يكون لهذا الكلام أثر : { وإذا ذكروا لا يذكرون . وإذا رأوا آية يستسخرون . وقالوا إن هذا إلا سحر مبين }{[181]} ؛ { وإذا ما أزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون . وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم . . }{[182]} .

{ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين } عن ابن مسعود : فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له ، وأنه لما ضربه له موافق ، فذلك إضلال الله إياهم به { ويهدي به } يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله لهم مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به ، وهذا شأن الكتاب العزيز كله : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا }{[183]} .

{ وما يضل به إلا الفاسقين } فهو موعظة تهدي للتي هي أقوم يتعظ ويهتدي به من عقل وسلمت فطرته واستقامت سريرته ويضيق به ويصد عنه من غفل وضل وفسدت فطرته وخبثت طويته ، جاء في محكم التنزيل : { . . قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى . . }{[184]} ، { . . وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولولا على أدبارهم نفورا }{[185]} ؛ { وإنه لحسرة على الكافرين }{[186]} ؛ والفاسق : الخارج عن حدود الله .


[177]:في رواية أبي صالح عن ابن عباس لما ضرب سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا..} وقوله {أو كصيب من السماء..} قالوا الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل الله هذه الآية وأورد صاحب تفسير غرائب القرآن بحثا جيدا وذكر فيه بعض أمثال الإنجيل ثم قال وذلك من طبع الإنسان حب المحاكاة فإذا ذكر المعنى وحده وأدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال و إذا ذكر التشبيه معه أدركه العقل مع معاونة الخيال ولا شك أن الثاني أكمل وإذا كان التمثيل يفيد زيادة البيان و الوضوح وجب ذكره في الكتاب الذي أنزل تبيانا لكل شيء.
[178]:سورة الحج من الآية(73).
[179]:سورة العنكبوت من الآية (41).
[180]:ما بين العارضتين من تفسير القرآن العظيم.
[181]:سورة الصافات. الآيات من 13 إلى 15.
[182]:سورة التوبة الآية 124؛ ومن الآية 125.
[183]:سورة الإسراء الآية 82.
[184]:سورة فصلت من الآية44
[185]:سورة الإسراء من الآية46
[186]:سورة الحاقة من الآية50.