تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

الآية 26 : وقوله تعالى : ( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) كأن هذا ، والله أعلم ، يخرج جوابا على إثر قول قاله الكفرة لرسول الله صلى الله على ما ذكره بعض أهل التأويل ، فقالوا : ما يستحيي ربك أن يذكر البعوض والذباب ونحوه مما{[357]} يصغر في نفسه ، وملوك الأرض لا يذكرون ذلك ، ويستحيون ؟ فقال عز وجل جوابا لقولهم : ( إن الله لا يستحيي ) الآية لأن ملوك الأرض إنما ينظرون إلى هذه الأشياء بالاستحقار لها والاستذلال ، فيستحيون من ذكرها على الإنكاف{[358]} والأنفة ، والله عز وجل لا يستحيي من ذلك ؛ لأن الأعجوبة في الدلالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته في خلق الصغير من الجثة والجسم أكبر من الكبار منها والعظام ، لأن الخلائق لو اجتمعوا على تصوير صورة من نحو البعوضة والذباب وتركيب ما يحتاج إليه [ من ]{[359]} الفم والأنف والرجل واليد والمدخل والمخرج ما قدروا ، ولعلهم يقدرون [ على ]{[360]} ذلك في العظام من الأجسام والكبار منها . فأولئك لم ينظروا إليها لما فيه من الأعجوبة واللطافة ، ولكن نظروا للحقارة والخساسة آنفا منهم وإنكافا .

ثم اختلف أهل الكلام في إضافة الحياة إلى الله تعالى ؛ فقال قوم : يجوز ذلك لما روي في الخبر " أن الله يستحيي أن يعذب من شاب في الإسلام " [ العجلوني في كشف الخفاء 741 ] ولأنه يجوز كالتكبر والاستهزاء والمخادعة ، وقد ذكرنا الوجه في ما تقدم{[361]} . وقال آخرون : لا يجوز إضافته إلى الله تعالى لأن تحته الإنكاف والأنفة ، وذلك عن الله تعالى منفي . ولكن الحياء هو الرضا ههنا ، والحياة الترك ، أي لا يترك ، ولا يدع .

وقوله تعالى : ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) أي علموا أن ضرب المثل بما ذكر من صغار{[362]} الأجسام حق لما نظروا إلى ما فيها من الأعجوبة والحكمة والطاقة .

[ وقوله تعالى ]{[363]} : ( وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) لم ينظروا فيها [ لما فيها ]{[364]} من الأعجوبة والحكمة ولكن نظروا للخساسة والحقارة .

وقوله تعالى : ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) الآية [ وفيه وجهان :

الأول ]{[365]} : ينقض{[366]} على المعتزلة قولهم : ( ماذا أراد الله بهذا مثلا ) ؟ [ المدثر : 31 ] فقال : أراد أن يضل بهذا المثل كثيرا ، وأراد أن يهدي به كثيرا ؛ أضل به من علم منه{[367]} أنه يختار الضلالة ، ويهدي به من علم أنه يختار الهدى ، أراد من كل ما علم منه أنه يختار ، ويؤثر ، والله أعلم . [ وهم يقولون ]{[368]} بل أراد أن يهدي به الكل ، ولكنهم لم يهتدوا .

والثاني : ( يضل به كثيرا ) أي خلق فعل الضلالة من الضال ، وخلق فعل الاهتداء من المهتدي . وقد ذكرنا في ما تقدم{[369]} .

وقوله تعالى : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) أي ما يضل بهذا المثل إلا الفاسق الذي لا ينظر إلى ما فيها من الأعجوبة واللطافة في الدلالة .


[357]:- من ط م، في الأصل و ط ع: ما.
[358]:- الإنكاف: مصدر أنكف:أنف منه.
[359]:-من ط م.
[360]:- من ط م.
[361]:- ذلك في تفسير الآية 15.
[362]:- من ط م و ط ع،، في الأصل: صغائر.
[363]:- من ط م و ط ع،، ساقطة من الأصل.
[364]:- من ط م و ط ع،، ساقطة من الأصل.
[365]:زدنا هذه العبارة لذكر الوجه الثاني للآية.
[366]:- من ط م و ط ع،: تنقض.
[367]:من ط م، في الأصل: به ساقطة من ط ع.
[368]:- ساقطة من ط ع.
[369]:- ذلك في تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) [الفاتحة: 5].