{ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين أمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين } .
{ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة } أنزل الله هذه الآية ردا على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } قوله { أو كصيب من السماء } فقالوا إن الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، وقد قال الرازي أن الله تعالى لما بين الدليل كون القرآن معجزا أورد ههنا شبهة أوردها الكفار قدحا في ذلك ؛ وأجاب عنها ، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل والعنكبوت والنمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء ؛ فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلا عن كونه معجزا ، وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا يقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملا على حكمة بالغة انتهى .
ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ولا دليل عليه ، وقد تقدمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف ؛ والظاهر ما ذكرناه أولا لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها ؛ ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المحقرة أن يكون ذلك لكونه قادحا في الفصاحة والإعجاز ، والحياة تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم ، كذا في الكشاف وتبعية الرازي في مفاتيح الغيب ، وقال القرطبي الاستحياء الانقباض عن الشيء والإمتناع منه خوفا من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله انتهى .
وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياة فقيل ساغ ذلك لكونه واقعا في الكلام المحكى عن الكفار ، وقيل هو من باب المشاكلة كما تقدم ، وقيل هو جار على سبيل التمثيل ، وضرب المثل اعتماده وصنعه ، والبعوض صغار البق ، الواحد بعوضة سميت بذلك لصغرها ، قاله الجوهري وغيره ، وهو من عجيب خلق الله في غاية الصغر شديد اللسع وله ستة أرجل وأربعة أجنحة وله ذنب وخرطوم مجوف ، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس والجمل فيبلغ منه الغاية .
{ فما فوقها } يعني الذباب والعنكبوت وما هو أعظم منهما في الجثة ، قال الكسائي والفراء ، الفاء هنا بمعنى إلى ، وقيل معناه فما دونها وأصغر منها ، وهذا القول أشبه بالآية لأن الغرض بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الصغير الحقير ، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا للدنيا بجناح البعوضة وهو أصغر منها ، وقد ضربت العرب المثل بالمحقرات فقيل هو أحقر من ذرة ، وأجمع من نملة ، وأطيش من فراشة ، وألح من ذبابة .
{ فأما الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { فيعلمون أنه } يعني ضرب المثل { الحق } أي الثابت الواقع موقعه ، وهو المقابل للباطل ، والحق واحد الحقوق ، والمراد هنا الأول ، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه { من ربهم } لا يجوز إنكاره لأن ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقل وعند العرب { وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا } أي بهذا المثل ، والإرادة نقيض الكراهة ، وقيل هي نزوع أي اشتياق النفس وميلها إلى فعل بحيث يحملها عليه ، أو هي قوة هي مبدأ النزوع ، والأول مع الفعل ، والثاني قبله ، وإرادته سبحانه ترجيح أحد مقدوريه على الآخر بالإيقاع أو معنى يوجب هذا الترجيح ، والإرادة صفة له ذاتية قديمة زائدة على العلم .
{ يضل به كثيرا } أي من الكفار ، وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون به ضلالا { ويهدي به كثيرا } يعني المؤمنين يصدقونه ويعلمون أنه حق ، وهو كالتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما فهو خبر من الله سبحانه ، وقيل هو حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى ، وليس هذا بصحيح ، فإن الكافرين لا يقرون بأن في القرآن شيئا من الهداية ، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة .
وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا وفي نسبته إلى الله سبحانه وقد نقح الرازي في تفسيره في هذا الموضع تنقيحا نفسيا ، وجوده وطوله وأوضح فروعه وأصوله فليرجع إليه فإنه مفيد جدا ، وأما صاحب الكشاف فقد اعتمد هنا على عصاه التي يتوكأ عليه في تفسيره ، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه لكونه سببا فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي ، وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله يضل يخذل .
{ وما يضل به إلا الفاسقين } يعني الكافرين وقيل المنافقين وقيل اليهود ، ولا خلاف في أن هذا من كلام الله سبحانه ، قال القرطبي ، فيه دلالة لمذهب أهل السنة أن الهدى والضلال من الله ، والفسق الخروج عن الشيء ، ذكر معنى هذا الفراء ، وقد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم " فاسق " وهذا مردود عليه فقد حكى ذلك عن العربي وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن الفارس والجوهري وابن الأنباري وغيرهم .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( خمس فواسق ) الحديث ، وقال في الكشاف الفسق الخروج عن القصد ، ثم قال والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة 1ه . وقال القرطبي الفسق في عرف الاستعمال الشرعي الخروج عن طاعة الله عز وجل فقد يقع على من خرج بكفر ، وعلى من خرج بعصيان 1ه . وهذا هو أنسب للمعنى اللغوي ، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض .
قال الرازي في تفسيره واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن أو كافر ، فعند أصحابنا هو مؤمن ، وعند الخوارج أنه كافر ، وعند المعتزلة أنه لا مؤمن ولا كافر ، واحتج المخالف بقوله { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } قوله { أن المنافقين هم الفاسقون } وقوله { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام إه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.