قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } ، يقول : أجيبوهما بالطاعة .
قوله تعالى : { إذا دعاكم } ، الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { لما يحييكم } ، أي : إلى ما يحييكم ، قال السدي : هو الإيمان ، لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان ، وقال قتادة : هو القرآن فيه الحياة ، وبه النجاة والعصمة في الدارين ، وقال مجاهد : هو الحق ، وقال ابن إسحاق : هو الجهاد أعزكم الله به بعد الذل ، وقال القتيبي : بل الشهادة ، قال الله تعالى في الشهداء { بل أحياء عند ربهم يرزقون } [ آل عمران : 169 ] وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب ، رضي الله عنه ، وهو يصلي ، فدعاه فعجل أبي في صلاته ، ثم جاء ، فقال رسول الله : ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ؟ قال : كنت في الصلاة ، قال : أليس يقول الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ؟ فقال :لا جرم يا رسول الله ، لا تدعوني إلا أجبت وإن كنت مصلياً .
قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } ، قال سعيد بن جبير وعطاء : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكفر والإيمان . وقال الضحاك : يحول بين الكافر والطاعة ، ويحول بين المؤمن والمعصية . وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يعمل ، وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ، ولا أن يكفر إلا بإذنه . وقيل : هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم ، واختلجت صدورهم ، فقيل لهم : قاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ، فيبدل الخوف أمناً ، والجبن جرأةً وشجاعة .
قوله تعالى : { وأنه إليه تحشرون } ، فيجزيكم بأعمالكم .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاطب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال : القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء .
يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة للّه وللرسول ، أي : الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه ، والاجتناب لما نهيا عنه ، والانكفاف عنه والنهي عنه .
وقوله : إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وصف ملازم لكل ما دعا اللّه ورسوله إليه ، وبيان لفائدته وحكمته ، فإن حياة القلب والروح بعبودية اللّه تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام .
ثم حذر عن عدم الاستجابة للّه وللرسول فقال : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فإياكم أن تردوا أمر اللّه أول ما يأتيكم ، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك ، وتختلف قلوبكم ، فإن اللّه يحول بين المرء وقلبه ، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء .
فليكثر العبد من قول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب ، اصرف قلبي إلى طاعتك .
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي : تجمعون ليوم لا ريب فيه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بعصيانه .
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه ، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سبباً في عذابهم ، وذكرهم بجانب من منته عليهم ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين . . . لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . } هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، والاستجابة :
وداع داع يا من يجيب إنى الندى . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وكان الإِمام القرطبى يرى أن السين والتاء في قوله : " استجيبوا " زائدتان .
ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب ، لأن الاستجابة هى الإِجابة بنشاط وحسن استعداد .
وقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة ، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا ، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة .
وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن ، أو الجهاد ، أو العلم . . إلخ .
وذلك ، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا .
والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } بالله حق الإِيمان ، { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } عن طواعية واختيار ، ونشاط وحسن استعداد { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى : إلى ما يصلح أحوالكم ، ويرفع درجاتكم ، من الأقوال النافعة ، والأعمال الحسنة ، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة : وتظفرون بالسعادتين : الدنيوية والأخروية .
والضمير في قوله { دَعَاكُم } يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله ، ولأن في الاستجابة له استجابة لله - تعالى - .
قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وقوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله ، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له - سبحانه -يَحُولُ .
وقوله : { يَحُولُ } من الحول بين الشئ والشئ ، بمعنى الحجز والفصل بينهما .
قال الراغب : أصل الحول تغير الشئ وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل حال الشئ يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول : وباعتبار الانفصال فيل حال بينى وبينك كذا أي فصل . .
هذا ، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان :
أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول ابن جرير - : أنه - سبحانه - أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعى به شيئا ، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك أن الحول بين الشئ والشئ إما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز - جل ثناؤه - بين عبد وقلبه في شئ أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإِيمان .
وقول من قال : يحول بينه وبين عقله . وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه . . فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له .
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى .
وقال ابن كثير - بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير - : وقد وردت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله علي وسلم - يقول : " إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء " ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " .
وروى : الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن النواس بن سمعان الكلابى قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " .
أما القول الثانى فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول الزمخشرى - " أنه - سبحانه - يميت المرء فتفوته الفرصة التي هى واجدها ، وهى التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله .
أو - كما يقول الفخر الرازى - بعبارة أوضح : " أن المراد أنه - تعالى - يحول بين المرء وبين ما يتماه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل . فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال . الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب ، لأن تسمية الشئ باسم ظرفه جائزة كقولهم : سال الوادى .
والذى نراه أن القول الثانى أولى بالقبول ، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذى باتباعه يحيون حياة طيبة ، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب ، كما قال - تعالى - في ختامها { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
وليست مسوقة لإِثبات قدرة الله ، وأنه أملك لقلوب عباده منهم : وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء .
فالمعنى الذي ذكره ابن جرير - وتابعه عليه ابن كثير وغيره ، معنى وجيه في ذاته ، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها . . ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشرى والرازى . لأن الآية الكريمة التي معنا والتى بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت ، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة .
والمعنى الإِجمال للآية الكريمة { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بعزيمة صادقة ، وسرعة فائقة ، { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة { وَاعْلَمُواْ } علما يقينا { أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } أي يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها : فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا ، وسيجمع كذا غدا ، وسيجمع كذا في المستقبل ، وسيحصل على كذا قريبا . . ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه . . فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت .
وقوله : { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تذييل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة . والضمير في قوله { وَأَنَّهُ } يعود إلى الله تعالى - أو هو ضمير الشأن . أى : وأنه - سبحانه - إليه وحده ترجعون لا إلى غيره ، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أختم ، ويجاز كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب . في العمل الصالح بسرعة ونشاط ، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله .
{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }
إعادة لمضمون قوله : { يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله } [ الأنفال : 20 ] الذي هو بمنزلة النتيجة من الدليل أو مقصد الخطبة من مقدمتها كما تقدم هنالك .
فافتتاح السورة كان بالأمر بالطاعة والتقوى ، ثم بيان أن حق المؤمنين الكُمّل أن يخافوا الله ويطيعوه ويمتثلوا أمره وإن كانوا كارهين ، وضرب لهم مثلاً بكَراهتهم الخروج إلى بدر ، ثم بكراهتهم لقاء النفير وأوقفهم على ما اجتنوه من بركات الامتثال وكيف أيدهم الله بنصره ونصب لهم عليه أمارة الوعد بإمداد الملائكة ؛ لتطمئن قلوبهم بالنصر وما لطف بهم من الأحوال ، وجعل ذلك كله إقناعاً لهم بوجوب الثبات في وجه المشركين عند الزحف ثم عاد إلى الأمر بالطاعة وحذرهم من أحوال الذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون ، وأعقب ذلك بالأمر بالاستجابة للرسول إذا دعاهم إلى شيء ، فإن في دعوته إياهم إحياء لنفوسهم وأعلمهم أن الله يكسب قلوبهم بتلك الاستجابة قوى قدسية .
واختير في تعريفهم ، عند النداء ، وصفُ الإيمان ليوميء إلى التعليل كما تقدم في الآيات من قبل ، أي أن الإيمان هو الذي يقتضي أن يثقوا بعناية الله بهم فيمتثلوا أمره إذا دعاهم .
والاستجابة : الإجابة ، فالسين والتاء فيها للتأكيد ، وقد غلب استعمال الاستجابة في إجابة طلب معيّن أو في الأعم ، فأما الإجابة فهي إجابة لنداء وغلب أن يُعدى باللام إذا اقترن بالسين والتاء ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربهم } في [ آل عمران : 195 ] .
وإعادة حرف بعد واو العطف في قوله : { وللرسول } للإشارة إلى استقلال المجرور بالتعلق بفعل الاستجابة ، تنبيهاً على أن استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من استجابة الله لأن الاستجابة لله لا تكون إلاّ بمعنى المجاز وهو الطاعة بخلاف الاستجابة للرسول عليه الصلاة والسلام فإنها بالمعنى الأعم الشامل للحقيقة وهو استجابة ندائِه ، وللمجاز وهو الطاعة فأريد أمرهم بالاستجابة للرسول بالمعنيين كلما صدرت منه دعوة تقتضي أحدهما .
ألا ترى أنه لم يُعَد ذكر اللام في الموقع الذي كانت فيه الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى واحد ، وهو الطاعة ، وذلك قوله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } [ آل عمران : 172 ] فإنها الطاعة للأمر باللحاق بجيش قريش في حمراء الأسد بعد الانصراف من أُحد ، فهي استجابة لدعوة معينة .
وإفراد ضمير { دعاكم } لأن الدعاء من فعل الرسول مباشرة ، كما أفرد الضمير في قوله : { ولا تَولوا عنه } [ الأنفال : 20 ] وقد تقدم آنفاً .
وليس قوله : { إذا دعاكم لما يحييكم } قيْداً للأمر باستجابة ، ولكنه تنبيه على أن دعاءه إياهم لا يكون إلاّ إلى ما فيه خير لهم وإحياء لأنفسهم .
واللام في { لما يحييكم } لام التعليل أي دعاكم لأجل ما هو سبب حياتكم الروحية .
والإحياء تكوين الحياة في الجسد ، والحياة قوة بها يكون الإدراك والتحرك بالاختيار ويُستعار الإحياء تبعاً لاستعارة الحياة للصفة أو القوة التي بها كمال موصوفها فيما يراد منه مثل حياة الأرض بالإنبات وحياة العقل بالعلم وسداد الرأي ، وضدها الموت في المعاني الحقيقية والمجازية ، قال تعالى : { أمواتٌ غير أحياء } [ النحل : 21 ] { أوَ من كان ميتاً فأحييناه } وقد تقدم في سورة [ الأنعام : 122 ] .
والإحياء والإماتة تكوين الحياة والموت . وتستعار الحياة والإحياء لبقاء الحياة واستبقائها بدفع العوادي عنها { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] .
والإحياء هذا مستعار لما يشبه إحياء الميت ، وهو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان ، فيعم كل ما به ذلك الكمالُ من إنارة العقول بالاعتقاد الصحيح والخُلق الكريم ، والدلالة على الأعمال الصالحة وإصلاح الفرد والمجتمع ، وما يتقوم به ذلك من الخلال الشريفة العظيمة ، فالشجاعة حياة للنفس ، والاستقلال حياة ، والحرية حياة ، واستقامة أحوال العيش حياة .
ولما كان دعاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلوا عن إفادة شيء من معاني هذه الحياة أمَر الله الأمة بالاستجابة له ، فالآية تقتضي الأمر بالامتثال لما يدعو إليه الرسول سواء دعَا حقيقة بطلب القدوم ، أم طلَب عمَلاً من الأعمال ، فلذلك لم يكن قيدُ { لما يحييكم } مقصوداً لتقييد الدعوة ببعض الأحوال بل هو قيد كاشف ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلاّ وفي حضورهم لديْه حياةٌ لهم ، ويكشف عن هذا المعنى في قيد { لما يحييكم } ما رواه أهل الصحيح عن أبي سعيد بننِ المُعَلى ، قال : كنتُ أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيتُه فقلت يا رسول الله إني كنتُ أصلي فقال : ألم يقل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ثم قال : ألا أعلمك صورة الحديث في فضل فاتحة الكتاب ، فوقْفُه على قوله : { إذا دعاكم } يدل على أن { لِما يحييكم } قيدٌ كاشف وفي « جامع الترمذي » عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبيّ بن كعب فقال : يا أبيّ وهو يصلي فالتفت أبَيّ ولم يجبه وصلى أبيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول الله فقال : السلامُ عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ما منَعك يا أبيّ أن تجيبني إذْ دعوتك فقال : يا رسول الله إني كنت في الصلاة فقال : أفلم تجد فيما أوحي إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال : بَلَى ولا أعود إن شاء الله » الحديثَ بمثل حديث أبي سعيد بن المعلى قال ابن عطية : وهو مروي أيضاً من طريق مالك بن أنس ( يريد حديث أبيّ بن كعب وهو عند مالك حضر منه عند الترمذي ) قال ابن عطية وروي أنه وقع نحوُه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق ، فتكون عدة قضايا متماثلة ولا شك أن القصد منها التنبيهُ على هذه الخصوصية لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم .
{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون }
مقتضى ارتباط نظم الكلام يوجب أن يكون مضمونُ هذه الجملة مرتبطاً بمضمون الجملة التي قبلها فيكون عطفها عليها عطف التكملة على ما تُكمّلُه ، والجملتان مجعولتان آية واحدة في المصحف .
وافتتحت الجملة باعلموا ؛ للاهتمام بما تتضمنه وحث المخاطبين على التأمل فيما بعدَه ، وذلك من أساليب الكلام البليغ أن يفتتح بعض الجمل المشتملة على خبر أوْ طلببِ فهم باعْلم أو تَعَلمْ لَفتاً لذهن المخاطب .
وفيه تعريض غالباً بغفلة المخاطب عن أمر مهم فمن المعروف أن المخبر أو الطالب ما يريد إلاّ علمَ المخاطب فالتصريح بالفعل الدال على طلب العلم مقصود للاهتمام ، قال تعالى : { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفورٌ رحيمٌ } [ المائدة : 196 ] وقال { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ } [ الحديد : 20 ] الآية وقال في الآية ، بعد هذه { واعلموا أن الله شديد العقاب } [ الأنفال : 25 ] وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي مسعود الأنصاري وقد رآه يضرب عبداً له « أعلم أبَا مسعود اعْلَم أبا مسعود : أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام » وقد يفتتحون بتَعَلّم أو تَعَلَمَنَّ قال زهير :
قلتُ تعلَّمْ أن للصيد غرة *** وإلاّ تُضَيِّعْها فإِنك قاتلُه
تَعلّمْ شفاء النفس قَهرُ عدوها *** فبالغْ بلطف في التحيُّل والمكر
وإلاّ فاعلموا أنّا وأنتُم *** بُغاةٌ ما بَقينا في شقاق
و { أن } بعد هذا الفعل مفتوحة الهمزة حيثما وقعت ، والمصدر المؤول يسُدّ مسدّ مفعولي عَلم مع إفادة ( أن ) التأكيد .
والحَوْل ، ويقال الحُؤُل : منع شيء اتصالاً بين شيئين أو أشياء قال تعالى : { وحالَ بينهما المَوج } [ هود : 43 ] .
وإسناد الحول إلى الله مجاز عقلي لأن الله منزه عن المكان ، والمعنى يحولُ شأنٌ من شؤون صفاتِه ، وهو تعلق صفة العلم بالإطلاع على ما يضمره المرء أو تعلق صفة القدرة بتنفيذ ما عزم عليه المرءُ أو بصرفه عن فعله ، وليس المرادُ بالقلب هنا البضعة الصنوبرية المستقرة في باطن الصدر ، وهي الآلة التي تدفع الدم إلى عروق الجسم ، بل المراد عقل المرء وعزْمه ، وهو إطلاق شائع في العربية .
فلما كان مضمون هذه الجملة تكملة لمضمون الجملة التي قبلها يجوز أن يكون المعنى : واعلموا أن علم الله يخلُص بين المرء وعقله خُلوص الحائِلِ بين شيئين فإنه يكون شديد الاتصال بكليهما .
والمراد ب { المرء } عمله وتصرفاته الجسمانية .
فالمعنى : أن الله يعلم عزم المرء ونِيّته قبل أن تنفعل بعزمه جوارحُه ، فشبه علم الله بذلك بالحائِل بين شيئين في كونه أشد اتصالاً بالمحول عنه من أقرب الأشياء إليه على نحو قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } .
وجيء بصيغة المضارع { يحول } للدلالة على أن ذلك يتجدد ويستمر ، وهذا في معنى قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ ق : 16 ] قاله قتادة .
والمقصود من هذا تحذير المؤمنين من كل خاطر يخطر في النفوس : من التراخي في الاستجابة إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والتنصل منها ، أو التستر في مخالفته ، وهو معنى قوله : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } [ البقرة : 235 ] .
وبهذا يظهر وقع قوله : { وأنه إليه تحشرون } عقبه فكان ما قبله تحذيراً وكان هو تهديداً وفي « الكشاف » ، و« ابن عطية » : قيل إن المراد الحث على المبادرة بالامتثال وعدم إرجاء ذلك إلى وقت آخر خشية أن تعترض المرءَ موانع من تنفيذ عزمه على الطاعة أي فيكون الكلام على حذف مضاف تقديره : إن أجَل الله يحول بين المرء وقلبه ، أي بين عمله وعزمه قال تعالى : { وأنْفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكم الموتُ } [ المنافقون : 10 ] الآية .
وهنالك أقوال أخرى للمفسرين يحتملها اللفظ ولا يساعد عليها ارتباط الكلام والذي حملنا على تفسير الآية بهذا دون ما عداه أن ليس في جملة : { أن الله يحول بين المرء وقلبه } إلاّ تعلق شأن من شؤون الله بالمرء وقلبه أي جثمانه وعقله دون شيء آخر خارج عنهما ، مثل دعوة الإيمان ودعوة الكفر ، وأن كلمة { بين } تقتضي شيئين فما يكون تحول إلاّ إلى أحدهما لا إلى أمر آخر خارج عنهما كالطبائِع ، فإن ذلك تحويل وليس حُؤلاً .
وجملة : { وأنه إليه تحشرون } عطف على { أن الله يحول بين المرء وقلبه } والضمير الواقع اسم ( أن ) ضمير اسم الجلالة ، وليس ضمير الشأن لعدم مناسبته ، ولإجراء أسلوب الكلام على أسلوب قوله : { أن الله يحول } الخ .
وتقديم متعلق { تُحشرون } عليه لإفادة الاختصاص أي : إليه إلى غيره تحشرون ، وهذا الاختصاص للكناية عن انعدام ملجإٍ أو مَخْبَإٍ تلتجئون إليه من الحشر إلى الله فكني عن انتفاء المكان بانتفاء محشورٍ إليْه غير الله بأبدع أسلوب ، وليس الاختصاص لرد اعتقادٍ ، لأن المخاطبين بذلك هم المؤمنون ، فلا مقتضى لقصر الحشر على الكون إلى الله بالنسبة إليهم .