{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم اليهود والنصارى ، { والمشركين } وهم عبدة الأوثان ، { منفكين } زائلين منفصلين ، يقال : فككت الشيء فانفك ، أي : انفصل ، { حتى تأتيهم البينة } لفظه مستقبل ومعناه الماضي ، أي : حتى أتتهم الحجة الواضحة ، يعني : محمد صلى الله عليه وسلم ، أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالاتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإسلام والإيمان . فهذه الآية فيمن آمن من الفريقين ، أخبر أنهم لم ينتهوا عن الكفر حتى أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، فأنقذهم الله من الجهل والضلالة .
{ 1 - 8 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }
يقول تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : [ من ] اليهود والنصارى { وَالْمُشْرِكِينَ } من سائر أصناف الأمم .
{ مُنْفَكِّينَ } عن كفرهم وضلالهم الذي هم عليه ، أي : لا يزالون في غيهم وضلالهم ، لا يزيدهم مرور السنين{[1464]} إلا كفرًا .
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } الواضحة ، والبرهان الساطع ،
1- سورة " البينة " ، تسمى –أيضا- سورة " لم يكن . . " وسورة " المنفكين " وسورة " القيمة " وسورة " البرية " ، وعدد آياتها ثماني آيات عند الجمهور ، وعدها قراء البصرة تسع آيات .
2- وقد اختلف المفسرون في كونها مدنية أو مكية ، وقد لخص الإمام الآلوسي هذا الخلاف فقال : قال في البحر : هي مكية . . وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية . . وجزم ابن كثير بأنها مدنية ، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد عن أبي خيثمة البدري قال : لما نزلت هذه السورة ، قال جبريل : يا رسول الله ، إن ربك يأمرك أن تقرئها " أُبَيّاً " . فقال صلى الله عليه وسلم لأُبَيِّ بن كعب –رضي الله عنه- : " إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة " ، فقال أُبَيّ : أو قد ذكرت ثَمَّ يا رسول الله ؟ قال : " نعم " فبكى أُبَيّ .
وقد رجع الإمام الآلوسي كونها مدنية ، فقال : وهذا هو الأصح( {[1]} ) .
وهذا الذي رجحه الإمام الآلوسي هو الذي نميل إليه ، لأن حديثها عن أهل الكتاب ، وعن تفرقهم في شأن دينهم ، يرجح أنها مدنية ، كما أن الإمام السيوطي قد ذكرها ضمن السور المدنية ، وجعل نزولها بعد سورة " الطلاق " وقبل سورة " الحشر " ( {[2]} ) .
" مِنْ " فى قوله - تعالى - { مِنْ أَهْلِ الكتاب } للبيان ، وقوله - سبحانه - { مُنفَكِّينَ } : للعلماء فى معنى هذا اللفظ أقوال متعددة ، منها : أنه اسم فاعل من انفك بمعنى انفصل ، يقال : فككت الشيء فانفك إذا افترق ما كان ملتحما منه .
والبينة : الحجة الظاهرة التى يتميز بها الحق من الباطل ، وأصلها من البيان بمعنى الظهور والوضوح ، لأن بها تتضح الأمور ، أو من البينونة بمعنى الانفصال ، لأن بها ينفصل الحق عن الباطل بعد التباسهما .
والمراد بها هنا : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقوله - تعالى - بعد ذلك : { رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } ، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان فى ذاته برهانا على صحة ما ادعاه من النبوة ، لتحليه بكمال العقل وبمكارم الأخلاق ، ولإِتيانه بالمعجزات التى تؤيد أنه صادق فيما يبلغه عن ربه .
والمعنى : لم يكن الذين كفورا من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ولم يكن - أيضاً - الذين كذبوا الحق من المشركين ، ولم يكن الجميع بمفارقين وبمنفصلين عن كفرهم وشركهم ، { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } التى هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما أتتهم هذه البينة ، منهم من آمن ومنهم من استمر على كفره وشركه وضلاله ، وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " كان الكفار من الفريقين ، أهل الكتاب ، وعبدة الأصنام ، يقولون قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبى المكتوب فى التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله - تعالى - ما كانوا يقولونه ، ثم قال : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } ، يعنى أنهم كانوا يَعِدُون باجتماع الكلمة ، والاتفاق على الحق ، إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ، ولا أقرهم على الكفر ، إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونظيره فى الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك عما أنا فيه حتى يرزقني الله - تعالى - الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول له واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك فى الفسق إلا بعد اليسار ، يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما .
وانفكاك الشيء من الشيء أن يزايله بعد التحامه به . كالعظم إذا انفك من مفصله .
والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة .
ومنهم من يرى : أن { مُنفَكِّينَ } بمعنى متروكين ، لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك ، حتى تأتيهم البينة ، على معنى قوله - تعالى - : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } أو المعنى : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله - تعالى - وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله - تعالى - إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه - تعالى - قال : ما كانوا ليتركوا سدى .
وهناك أقوال أخرى فى معنى الآية رأينا أن نضرب عنها صفحا لضعفها .
وقد قدم الله - تعالى - ذكر أهل الكتاب فى البيان ، لأن كفرهم أشنع وأقبح . إذ كانوا يقرأون الكتب ، ويعرفون أوصاف النبى صلى الله عليه وسلم ، فكانت قدرتهم على معرفة صدقه أكبر وأتم . وفي التعبير عنهم بأهل الكتاب دون اليهود والنصارى ، تسجيل للغفلة وسوء النية عليهم . حيث علموا الكتاب ، وعرفوا عن طريقه أن هناك رسولا كريما قد أرسله الله - تعالى - لهدايتهم ، ومع ذلك كفروا به ، كما قال - تعالى - : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين }
بسم الله الرحمن الرحيم{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } اليهود والنصارى فإنهم كفروا بالإلحاد في صفات الله سبحانه وتعالى ، و{ من } للتبيين ، والمشركين وعبدة الأصنام منفكين عما كانوا عليه من دينهم ، أو الوعد باتباع الحق إذ جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم { حتى تأتيهم البينة } الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن ؛ فإنه مبين للحق ، أو معجزة الرسول بأخلاقه ، والقرآن بإفحامه من تحدى به .